“السياسة الجنائية بالمغرب بين ممكنات الإصلاح وتطلعات الفاعلين” محور يوم دراسي بالدار البيضاء

نظم “مركز الدراسات والأبحاث الإنسانية، (مدى)”، مؤخرا، يوما دراسيا حول “السياسة الجنائية بالمغرب بين ممكنات الإصلاح وتطلعات الفاعلين”.
استهلت أشغال اللقاء بكلمات افتتاحية، ركزت على السياق العام لتنظيمه تزامنا مع ورش إصلاح منظومة القانون الجنائي والجهود الرامية إلى الحد من التجريم والعقاب والبحث عن صيغ لعقوبات بديلة تحد من التأثيرات المختلفة لتجريم الجنح البسيطة، سواء ما يتعلق منها باكتظاظ السجون أوما ينتج عنها من آثار اجتماعية للأشخاص المعتقلين على خلفية هذا التجريم.
وقد الدكتور المختار بنعبدلاوي خلاصات دراسة أنجزها مركز “مدى” حول “الجريمة والعقاب في التشريع الجنائي المغربي… توجهات السياسة الجنائية نحو الحد من التجريم والعقاب”، مذكرا بالسياق الإقليمي، حيث أصدرت اللجنة الإفريقية لحقوق الانسان والشعوب في دورتها الواحدة والستين مبادئ وقواعد تستهدف حل المشاكل القانونية المتعلقة بحقوق الانسان والشعوب والحريات الأساسية لكي تكون منطلقا لسن النصوص التشريعية من قبل الحكومات الافريقية، ومن ضمن المبادئ المذكورة “إلغاء تجريم المخالفات البسيطة”، حيث تنص هذه المبادئ على المعايير التي يمكن أن تقيم على أساسها المخالفات البسيطة التي ينص عليها القانون، وتشجع الدول على اتخاذ التدابير الممكنة لضمان عدم استهاف هذه القوانين لأشخاص على أساس أصلهم أو مركزهم الاجتماعي أو ثروتهم وذلك بتجريم الأنشطة الضرورية للحياة.
من جهته، قال الدكتور أنس سعدون عضو نادي قضاة المغرب، إن السياسة العقابية ينبغي أن نعالجها اليوم من منطلق الاضطراب الاجتماعي الذي تحدثه مجموعة من الأفعال التي يجرمها القانون الجنائي، سواء تعلق الأمر بالقسم الخاص منه أو القوانين الجنائية الخاصة، مذكرا بالمخرجات التي كشف عنها ميثاق اصلاح منظومة العدالة بشأن مجموعة اختلالات تعاني منها منظومة العدالة الجنائية بالمغرب، تتمثل في ظاهرة التضخم التشريعي، وضعف اعتبار مقاربة النوع، وغياب وضع قانوني متكامل للضحايا في منظومة السياسة الجنائية، وسعة هامش السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي الجنائي نتيجة اتساع الفرق بين الحدين الأقصى والأدنى للعقوبة، وضعف آليات تتبع حالة العود الجنائي وتنفيذ العقوبة، وكثرة اللجوء إلى الاعتقال الاحتياطي وعدم التفعيل الأمثل لمبدأ ملاءمة المتابعة، واللجوء المحدود لإعمال الآليات البديلة للاعتقال، فضلا عن ضعف إشاعة ثقافة حقوق الإنسان بين مهنيي منظومة العدالة رغم الجهود المبذولة في إطار التكوين والتكوين المستمر وتعزيز قدرات الفاعلين في المجال.
وأكد الدكتور أنس سعدون، أن أي مراجعة ناجعة للمنظومة الجنائية المغربية ينبغي أن تستحضر عدة مبادئ على رأسها احترام مبدأ الشرعية الجنائية وهو ما يفرض وضوح القاعدة القانونية واحترام مبدأ التوقعية، ومراعاة مقاربة النوع الاجتماعي، والأخذ بعين الاعتبار لمبدأ الالتقائية بين النص الجنائي والنصوص القانونية الأخرى، فضلا عن ضرورة مراعاة مبدأ ملاءمة هذه النصوص مع الالتزامات الدولية للمملكة، مؤكدا في هذا السياق وجود عدة أفعال ما تزال مجرمة في النص الجنائي رغم أنها لم تعد تحدث اضطرابا اجتماعيا على مستوى الممارسة، نظرا للتحولات الاجتماعية والثقافية والتطورات التي يشهدها العالم، من قبيل الأفعال المتعلقة بحيازة واستهلاك المخدرات والأفعال المتعلقة بالحريات الفردية، داعيا الى ضرورة استحضار مقاربات أخرى غير المقاربة الزجرية في طريقة معالجة بعض الأفعال كالجرائم المتعلقة بالغش في الامتحانات والمباريات، أو شغب الملاعب، والأخذ بعين الاعتبارلظاهرة التضخم التشريعي وانعكاساتها على أداء مرفق العدالة في ظل النقص القائم على مستوى الموارد البشرية والمالية.
وقدمت المحامية بهيئة الرباط خديجة الروكاني قراءة في العقوبات البديلة على ضوء مشروع القانون رقم 16/10 قالت فيه، إن المشرع لجأ مرة أخرى الى الحل الترقيعي من خلال الاكتفاء بإضافة باب يتعلق بالعقوبات البديلة الى القانون الجنائي الصادر سنة 1962، في وقت كانت فيه الحركة الحقوقية تنتظر القيام بإصلاح جذري وشامل لهذا القانون يسمح بإعادة النظر في بنيته العامة و فلسفته.
وأضافت أن المشروع وضع أحكاما عامة للعقوبات البديلة باعتبارها بديلا للعقوبات السالبة للحرية، كما وضع شروطا عامة وأخرى خاصة لتطبيقها، من بينها أن تطبق على الجنح، وألا تتجاوز العقوبة المحكوم بها سنتين، وضرورة تنفيذ المحكوم عليه للالتزامات المقررة، كما وضع المشروع عدة استثناءات بحيث لا يجوز الحكم بالعقوبات البديلة في حالة العود، أو في حالة ارتكاب جرائم الرشوة واستغلال النفوذ والاثراء غير المشروع والاتجار في المخدرات والمؤثرات العقلية والأعضاء البشرية وتهريب المهاجرين والاستغلال الجنسي للأطفال، كما جعل الحكم بالعقوبات البديلة يتم إما بشكل تلقائي من طرف المحكمة أو بناء على طلب المتهم المحكوم عليه أو بناء على طلب النيابة العامة، معتبرة أن المشروع قام بتغييب رأي الضحية، حيث لم يتم النص على ضرورة موافقتها أو تقييد أعمال تطبيق العقوبة البديلة بضرورة دفع المحكوم عليه للتعويض المحكوم به، رغم أن العدالة الجنائية تروم أيضا العمل على جبر ضرر الضحايا.
ولاحظت المحامية خديجة الروكاني عدم وجود انسجام في الباب المتعلق بالعقوبات البديلة الواردة في مشروع القانون الجنائي، حيث سمح بتطبيق العمل من أجل المنفعة العامة على الأحداث في سن 15 سنة في الوقت الذي تحدد فيه قوانين أخرى سن الرشد في 18 سنة كمدونة الأسرة، أو سن التشغيل في 16 سنة كمدونة الشغل، علما بأن مدة العمل من أجل المنفعة العامة قد تصل إلى 180 ساعة وهي مدة مرهقة بالنسبة للأحداث بشكل يطرح فعلا سؤالا حول مدى وجود تصور لدى المشرع لفلسفة العقاب وأهداف العقوبة وغاياتها، مستنتجة في نهاية مداخلتها غياب سياسة جنائية واضحة ومنسجمة مما ينعكس على فلسفة العقاب وعلى هذا المستجد المتعلق بالعقوبات البديلة الواردة في المشروع.
في نفس السياق، تطرقت الدكتورة نجاة حفيظي في مداخلتها لموضوع “السياسة الجنائية والعقوبات البديلة”، معتبرة أن القانون الحالي يوفر بدوره عدة بدائل للعقوبات السجنية مثل وقف العقوبة أو الصلح أو الغرامات المالية، إلا أن تطبيقها مرتبط بشروط هدفها الحفاظ على خاصية الإلزام التي تميز القاعدة القانونية، واعترفت بصعوبة تحديد مفهوم الجرائم البسيطة للمطالبة برفع التجريم عنها، معتبرة أن الحل يبقى في إعمال السلطة التقديرية للقضاة، سواء عند تفريد العقاب أو عند إعادة تكييف الفعل، كما دعت المتدخلة إلى ضرورة الاهتمام بالتربية كمسؤولية يتقاسمها الأفراد والمجتمعات ومنظمات المجتمع المدني ومختلف آليات التنشئة الاجتماعية معترفة بأننا نعيش أزمة أخلاق.
من جهته، قدم الدكتور المختار اعمارة عرضا حول السياسة الجنائية المغربية بين المحلية والكونية، أكد فيه على أن خصوصية القانون الجنائي تكمن في ارتباطه بحرية الأفراد، وبأن له طابع إنساني لا يقتصر فقط على شخص المجرم، وإنما يمتد ليشمل كل التقاطعات المتعلقة بتطبيق هذا القانون، فالقضاة والمحامون والضحايا وعائلات الضحايا والمتهمون هم أيضا بشر، وهذا هو المبرر وراء المطالب المتعلقة بضرورة استحضار المرجعية الكونية في أي إصلاح للقانون الجنائي، مضيفا بأن تطبيق القاعدة القانونية الجنائية ينبغي أن يستحضر بالإضافة الى الطابع الكوني الخصوصيات المحلية، فالواقع يفرز أنواعا من الجرائم تنتشر داخل أوساط معينة، حيث تكثر مثلا جرائم الشيكات وجرائم النصب في المدن الكبرى، والجرائم المتعلقة بالاعتداءات على الملكية العقارية أو سرقة أو إتلاف المحاصيل في القرى، وفي مجتمعات معينة لا توجد جرائم الاغتصاب نظرا للطابع المحافظ، بينما تنتشر جرائم أخرى في أوساط أخرى وهو ما يبرز ضرورة مراعاة أي تعديل مرتقب للقانون الجنائي للخصوصيات المحلية.
المشاركات والمشاركون في أشغال هذا اليوم الدراسي أكدوا على أهمية استمرار التشبيك في الترافع من أجل رفع التجريم عن الجرائم البسيطة في أفق إعمال أوسع للعقوبات البديلة، والانفتاح على التجارب الدولية المقارنة والاستفادة من نتائج الدراسات والأبحاث الوطنية سواء في المجال القانوني أو في العلوم الأخرى، والتعجيل بضرورة إخراج المرصد الوطني للإجرام، وضرورة مراجعة الإطار المفاهيمي لعدد من الجرائم لملاءمته مع المعايير الدولية، والاهتمام بتعزيز قدرات القضاة والمحامين ومهنيي العدالة في استعمال الآليات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان، والاهتمام بنشر الأحكام القضائية، وتوفير سبل المساعدة القانونية والقضائية للفئات الهشة، واستحضار التوازن بين مكافحة جميع أشكال الافلات من العقاب وعدم المغالاة في العقوبة الحبسية، وتوسيع تصور التأهيل المتوخى من العقوبة ليشمل التأهيل الاجتماعي والاقتصادي والحقوقي، وتخصيص جزء من القانون الجنائي لجرائم النوع، والاهتمام بمراقبة تنفيذ السياسة الجنائية.

Related posts

Top