على بعد 54 كيلومترا، شرق مدينة طانطان، تقف جبال “زيني” شامخة تقاوم عاتيات الزمن وعوادي الطبيعة الصحراوية القاحلة والجافة. جبال خضراء تشكل فسيفساء غاية في الروعة والبهاء، وترسم لوحة آية في الجمال والنقاء. اخضرار صنعته حقول الصبار (التين الشوكي).
هنا الماء والخضرة والطقس الحسن، هنا تلتقي التيارات البحرية القادمة من الغرب مع التيارات الصحراوية القادمة من الشرق، ليتكسر عنفوانها بمنطقة “بوموكاي”، إحدى أهم المناطق الزراعية بإقليم طانطان.
“بوموكاي”، منطقة تابعة لجماعة تلمزون، يعود أصل التسمية كما يحكي أهالي المنطقة إلى الأمازيغية، وتعني “صاحب العجل”، يحدها غربا منطقة “وين مذكور”، وشرقا جبال زيني، وشمالا وادي درعة، أما من الجنوب فيحدها مركز مدينة طانطان الساحلية ذات الكثافة السكانية التي تصل إلى 70 ألف نسمة حسب إحصاء سنة 2014.
يعتمد أهل طانطان في أنشطتهم الحياتية على التجارة وأنشطة الصيد البحري، فيما ما تزال الزراعة والفلاحة بالمنطقة محتشمة، ما عدا منطقة بوموكاي التي تعد منطقة زراعية بامتياز. فما يجعل الفلاحة بالإقليم شبه منعدمة، هو مناخ المنطقة الصحراوي الجاف طيلة السنة، إضافة إلى قلة التساقطات التي لا تتجاوز 80 ميليمترا في السنة، ناهيك عن تأثير التيارات الهوائية.
الزراعة بمنطقة “بوموكاي”
تشكل منطقة بوموكاي حالة استثنائية داخل إقليم طانطان. قادنا المسير إلى هذه المنطقة من أجل الوقوف عن كثب على حقيقة الوضع. ففي هذه المنطقة تترامى حقول كبيرة مكسوة بالصبار (التين الشوكي). جبال تحول لونها الرمادي إلى اخضرار، لا تكاد تجد منطقة خالية دون أن تجد فيها ألواح للصبار. يقول حسان سركوح، وهو “رئيس اتحاد تعاونيات زيني للصبار”، أن تاريخ هذه النبتة بالمنطقة يعود إلى حوالي 6 قرون، حيث جيء بها أول مرة من جبال إقليم سيدي افني المجاور. وقد امتدت زراعته إلى مناطق مجاورة لبوموكاي، كـ”تبولعجينت”، “تانولمي”، “تافراوت”، و”معراضة”. وتمتد حقول الصبار بمنطقة بوموكاي على مساحة تقدر حسب المهندس الفلاحي، ورئيس مصلحة الإحصائيات والدعم بالمديرية الإقليمية للفلاحة بطانطان الحسن ميهي، إلى 1650 هكتارا، بينما يصل الإنتاج السنوي من الصبار إلى 115500 طن. وقد حقق هذا الإنتاج رقم معاملات يصل سنويا إلى 99 مليون درهم. ويكشف يونس فراح التقني المتخصص في الفلاحة بطانطان إلى أن الهكتار الواحد من حقول الصبار ينتج في أحسن الأحوال، وتبعا للظروف المناخية حوالي 70 طنا. هذه المعطيات الإحصائية تكشف بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الزراعة لها دور مهم في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة لساكنة إقليم طانطان.
انعكاس إنتاج الصبار على الساكنة
يتضح من خلال الأرقام والإحصائيات التي حصلنا عليها من قبل مسؤولي المديرية الإقليمية للفلاحة، أهمية زراعة الصبار بالمنطقة، بالرغم من أن عمليات الإنتاج كانت بدائية في البداية، الأمر الذي دفع ملاك الضيعات والحقول إلى التكتل في تعاونيات بلغ عددها بمنطقة بوموكاي 12 تعاونية. هذه الأخيرة تكتلت من جديد في إطار اتحاد لتعاونيات الصبار من أجل تثمين المنتوج، وإيلائه الأهمية التي يستحق. يقول حسان سركوح، رئيس اتحاد تعاونيات زيني للصبار “كان إنتاج فاكهة الصبار تقليديا بدائيا في المنطقة، وهو الأمر الذي ينعكس سلبا على المنتجين والفلاحين، مما أدى بنا إلى تجميعهم في إطار اتحاد، وذلك قصد تقنين استهلاك الفاكهة، بعدما كان ذلك يتم بشكل غير مهيكل”. وأضاف حسان أن أهداف الاتحاد هي “تثمين المنتوج، وتوفير فضاءات خاصة لتسويقه وطنيا ودوليا، وتحسيس المنتجين والفلاحين بأهمية هذه الفاكهة ودورها في تحقيق تنمية زراعية مستدامة”. ويتطلع اتحاد التعاونيات بالمنطقة إلى إخراج وحدة صناعية إلى حيز الوجود من أجل تثمين كل منتجات الصبار الأخرى، وجعلها علامة تجارية قائمة الذات، بعيدا عن التسويق المعاشي”. ويستفيد من عائدات الصبار بشكل مباشر ساكنة محلية يتراوح عددها حسب مديرية الفلاحة ما بين 300 و400 شخص، فيما عدد المستفيدين بشكل غير مباشر فيفوق ذلك العدد بكثير، بحيث أن هناك وسطاء يهبطون إلى حقول “بوموكاي” مع بداية موسم الجني كل شهر يونيو ويوليوز من كل سنة، حيث يستأجرون الضيعات، ويقومون بدورهم ببيع المنتوج بالجملة إلى باعة التقسيط. وهو ما يكشف أهمية هذا المنتوج، ومرودويته على الساكنة والوسطاء وباعة التقسيط. وبحسب حسن سركوح (في عقده الخامس)، وهو مالك حقل للصبار، فإن الرهان يعقد على تدخل الدولة من أجل نقل الإنتاج من الجانب المعاشي إلى الجانب التسويقي، خصوصا وأن المشتغلين فيه عبارة عن أسر مالكة للحقول. ويضيف “لقد قمنا بمبادرة تتعلق بجلب فصيلة للصبار تسمى “موسى”، وهي ذات جودة عالية وعطاء كبير، من أجل رفع المردودية، بعدما كانت المنطقة تتوفر فقط على فصيلة “عيسى”.
مشاكل معيقة تستوجب حلولا
بعد القيام بعدة دراسات وأبحاث علمية من قبل مهندسي وتقنيي وزارة الفلاحة، تبين أن التربة بجل إقليم طانطان غير صالحة للزراعة، بسبب ارتفاع ملوحتها، إضافة إلى المناخ الصحراوي الجاف، تأكد أن الصبار هو أحد أهم الزراعات الممكنة والمستدامة بالمنطقة. لذلك سارعت المديرية الإقليمية للفلاحة إلى توسيع حقول الصبار، واستغلال الجبال المترامية والهضاب المتوارية في المناطق الخلفية لطانطان. وكشف المهندس الفلاحي الحسن ميهي أنه “في إطار برنامج غرس الشجيرات العلفية لتحسين المراعي الممتد ما بين 2003 و2007، تم غرس 1200 هكتار من نبات الصبار بجبال منطقة “معراضة”، كما أن المديرية كانت تنوي الاستثمار في زراعة الصبار، إلا أن صراعات قبلية طفت على السطح، ليتوقف المشروع”.
ومن بين تدخلات الدولة في هذا الإطار، شق مسالك طرقية معبدة نحو حقول الصبار لتسهيل الولوج، وأيضا من أجل تمكين المنتجين والفلاحين من نقل منتوجاتهم إلى الأسواق في ظروف جيدة وبسرعة ممكنة. ومن بين المشاكل الأخرى التي ما تزال تعيق تطوير هذه الزراعة، غياب ثقافة الاستثمار في مجال زراعة الصبار، حيث ما يزال الكثير من الفلاحين والمنتجين يعتبرون ذلك إرثا خلفه الأجداد خاص بالأسر.
وفي السنة المنصرمة، برزت مشكلة أخرى إلى الواجهة، ضربت كثيرا من حقول الصبار في مناطق مجاورة كسيدي إفني، ألا وهي “الحشرة القرمزية”، مما خلف مخاوف لدى الفلاحين والمنتجين، خصوصا وأن هذه الحشرة أهلكت مساحات شاسعة بالأقاليم المجاورة. تقول السيدة إيمان بنزهرة، وهي رئيس مصلحة الاستشارة الفلاحية بطانطان “الحمد لله حقول منطقة بوموكاي والمناطق التابعة لإقليم طانطان، لم تصب بهذه الحشرة، مما يعني أن فاكهة المنطقة جيدة جدا. لكن بعدما ظهرت هذه الحشرة بإقليم مجاور، باشرت المصلحة الإقليمية للاستشارة الفلاحية عمليات تحسيس واسعة للفلاحين والمنتجين، كما جالت لجان مراقبة حول الحقول للتأكد من سلامتها كشكل استباقي”. وأضافت السيدة بنزهرة أن “وزارة الفلاحة تسير في اتجاه منح شتلات من الصبار مستقبلا مضادة للحشرة القرمزية، وذلك لحماية مداخيل المنتجين والفلاحين”.
أهمية الصبار إيكولوجيا وماديا وتنمويا
لقد تأكد بالملموس خلال إنجازنا لهذا العمل الصحفي أنه لا يختلف اثنان حول أهمية منتوج الصبار للساكنة المحلية بإقليم طانطان. فهو ثروة أو كما يصفه حسان سركوح بـ “الذهب الأخضر”، أضحى يشكل مورد رزق لعدد كبير من السكان، وقد يحقق مداخل أكثر بكثير مما يحققه الآن، وذلك بعد تقنينه وتثمينه. وتتماشى هذه الزراعة مع الهدف الأول لأهداف التنمية المستدامة، فهذه الثروة وهذا الإنتاج حقق مدخولا قارا للمنتجين والفلاحين والساكنة، وبالتالي فهو “محارب للفقر” بجميع أشكاله. كما يدخل أيضا في إطار الهدف الثاني وهو “القضاء على الجوع”.
فهذه الزراعة تشكل أكبر “رب للعمل”، إذ توفر سبل العيش للساكنة المحلية، ومصدر دخل مريح. وما يزال الصبار الفاكهة الوحيدة التي لا تعتمد على الأسمدة والمواد الكيماوية. حيث تستفيد منه الماشية كعلف لها، فيما الفاكهة تقدم كأطباق غذائية غنية مضادة للأكسدة ومفيد للجهاز الهضمي، ويتم أيضا تحويلها إلى مربى، فيما زيت هذه الفاكهة يصل إلى 10 الآف درهم للتر الواحد. ناهيك عن أهميته الإيكولوجية في التوازنات البيئية. ويبقى جانب التحسيس بأهمية هذه الزراعة سبيلا أوحد من أجل ضمان بقاءها للأجيال اللاحقة، خصوصا وأنه كان من بين الأطباق الرئيسة للأجداد قبل قرون، إضافة إلى توسيع الحقول وحمايتها.
> إعداد: أحمد شياهو، ياسن الفيجل، آية حمو، أيوب سمعني، وحنان مبروكي*