شهد المجال العام العربي في الألفية الجديدة تحولات متعددة بعضها عميق ونال بنى سياسية وأمنية، وبعضها بقي سطحيا. ولعل الظاهرة الإعلامية العربية تقع في صلب هذه التحولات والتي تنطوي على العديد من المفارقات؛ حيث شهد العالم العربي عرضًا واسعًا من وسائل الإعلام التقليدية والجديدة (الرقمية) مقابل طلب واستخدام اجتماعي كبير.
وفي الوقت الذي تعددت فيه السرديات حول دور الإعلام الرقمي في التحولات السياسية والربيع العربي وما قبله وما بعده، فإن ملامح ثنائية العرض والطلب وخصائصها بقيت غامضة ومتحولة من سيطرة السلطة إلى رأس المال مرورًا بالخطاب الأيديولوجي ووصولًا إلى حاجة المجتمعات العربية إلى معرفة جديدة ورواية أخرى للأخبار، لكن كل هذه التحولات أكدت تعاظم مكانة الإعلام في المجتمعات العربية.
وسط هذه البيئة المتحولة يبدو السؤال المركزي في هذه الدراسة: هل استطاعت الصحافة الإلكترونية (الرقمية) في العالم العربي أن تشق طريقا واضحا يمنحها هوية مهنية؟ وما أدوار الأيديولوجيا والسياسة وجاذبية التكنولوجيا في سياقات النشأة والتطور؟ وكيف عملت العناصر البيئية «الإيكولوجية» في صياغة التأثيرات المتبادلة سواءً في الأبعاد السياسية أو الاقتصادية أو المجتمعية؟
تأتي أهمية هذه الدراسة من طبيعية التحولات المهنية التي يشهدها الإعلام في العالم العربي وهي تحولات سريعة وهيكلية وأبرزها محاولة الإعلام التقليدي البحث عن مساحة للاستمرار في العالم الرقمي كما حدث مع عدد من الصحف اليومية، وفي محاولات بناء نموذج اقتصادي جديد ينعتق من مرحلة التجريب والهواية، علاوة على الأدوار المتنامية للصحافة الإلكترونية في تنمية المجال العام والمشاركة الديمقراطية الوليدة في بعض المجتمعات العربية، على الرغم من أن هذه التحولات السريعة تحدث وسط حالة من الإرباك في المشهد الإعلامي، ولاسيما أن الصحافة الإلكترونية بدأت تواجه تحديات مختلفة قد تهدد وجودها. فضلًا عن ذلك، تسهم هذه الدراسة في إثراء الدرس الأكاديمي بتقديم منظور جديد لهذا الموضوع من خلال منظور البيئة الإعلامية. لقد أسهمت وسائل الإعلام في خلق بيئة ونسق قوي داخل أنساق البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية. لقد بقيت الدراسات تركز بشكل أساسي على تأثير المحتوى الإعلامي، وعلى أهمية دراسة المحتوى إلا أنه ينبغي إيلاء مزيد من الاهتمام لـ»بيئة الإعلام» وكيف تسهم في ظهور وتغيير الممارسات الثقافية والسياسية.
السياق الإيكولوجي لفهم تحولات الإعلام
لقد أسهمت وسائل الإعلام في خلق نسقٍ قوي داخل أنساق البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية. لذا، لا يمكن فهم تحولات الإعلام المعاصر دون فهم السياق الإيكولوجي، لقد بقيت الدراسات تركز بشكل أساسي على تأثير المحتوى الإعلامي وعلى أهمية دراسة المحتوى، إلا أن الوسائل والبيئة التي تعمل فيها الوسائل أخذا يحتلان مزيدًا من الاهتمام. إن «بيئة الإعلام» وكيف تسهم في ظهور وتغيير الممارسات الثقافية والسياسية باتت تشكِّل المفتاح لفهم العلاقة المعقدة بين الإعلام والمجتمع.
لقد ثبت أن كشف ملامح بيئة الإعلام تمنح قدرة على فهم الرسائل الإعلامية وفهم التأثير، وبالتالي كشف ملامح سلوك الجمهور في بعض اللحظات، كما أن البيئة الإعلامية قد تسهم في تشكيل ممارسات دولية مختلفة (1).
تذهب النظرية التاريخية للوسائط (The Medium Theory)، أو نظرية الحتمية التكنولوجية (Theological Determinism) إلى أن النموذج الاتصالي القائم على الوسيلة حيث يتواصل من خلالها الناس له تأثير يتجاوز اختيار رسائل محددة أي اختيار المحتوى، لأن وسائل الإعلام ليست مجرد قنوات لنقل المعلومات بين بيئتين أو أكثر، بالأحرى هي بيئات ينمو فيها المحتوى ويتشكَّل وتحدد خصائصه طرق تلقي الرسائل وطرق التفاعل معها (2).
لقد شرح مارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan) (1964) كيف تفرض وسائل الإعلام نفسها على جميع المستويات خاصة الحياة الاجتماعية، وكيف تخلق هذه العملية بيئة حسية غير مرئية لنا. إن طبيعة وسائل الإعلام المستخدمة في كل مرحلة من المراحل تساعد على تشكيل المجتمع وتنظيمه أكثر مما يساعد مضمون تلك الوسائل. وقسَّم وسائل الإعلام إلى وسائل باردة وأخرى ساخنة، ويقصد بالوسائل الباردة تلك التي تتطلب من المستقبل جهدًا إيجابيًّا للمشاركة والمعايشة والاندماج معها. أما الوسائل الساخنة، فهي الوسائل الجاهزة ومحددة الأبعاد نهائيًّا، وهي لا تحتاج من المشاهد أو المستمع إلى أي جهد يبذله للمشاركة أو المعايشة، فالكتابة والإذاعة المرئية هي وسائل باردة، أما الطباعة والسينما فهي وسائل ساخنة (3).
يذهب ماكلوهان في كتابه الشهير «الوسيلة هي الرسالة» إلى فكرة «القرية العالمية» التي سكَّها لأول مرة في نهاية الستينات وأن الوسائل الإلكترونية الحديثة ربطت أطراف العالم ببعضه وقرَّبت المجتمعات وقربت الجماعات داخل المجتمع الواحد، وبالتالي فإن المجتمع البشري لن يعيش في عزلة بعد الآن، وهذا ما يدفع البشر إلى التفاعل والمشاركة فقد تغلبت الوسائل الإلكترونية على القيود والوقت والمسافة وأدت إلى بروز اهتمام المواطنين بالدول الأخرى؛ فالرصد الذي اتبعه في تطور المجتمعات وتحولها من الثقافة الشفهية إلى اللغة المكتوبة ومن الثقافة المكتوبة إلى الثقافة الإلكترونية جعله يتصور أنه أدرك نهاية هذا التطور باكتمال بناء القرية العالمية التي تتوحد فيها حاجات الناس ومتطلباتهم إلى جانب وعيهم ومواقفهم ورؤاهم وربما مشاعرهم حيال الآخرين والأشياء.
تتمحور معظم دراسات منظور البيئة الإعلامية على مساهمات مدرسة تورنتو، ومدرسة نيويورك (المدرسة الأميركية للدراسات الثقافية). ويعتقد أن أول من وضع مصطلح الحتمية التكنولوجية هو ثورستين فيبلبن(Thorstein Veblen) ( (1857-1929 عالم الاجتماع والاقتصادي الأميركي. يرجح أن يكون كلارنس أيريس (Clarence Ayres) أكثر الحتميين التكنولوجيين راديكالية في الولايات المتحدة في القرن العشرين، وعلى هذا الأساس وضعت المدارس الفكرية السابقة أطروحاتها الكبرى في بحوث بيئة الإعلام التي وصلت ذروتها في مساهمات مارشال ماكلوهان حيث استفادت تلك المدارس من نظرية النظم ومن نتائج بحوث علم الأحياء (4).
يُعَدُّ نيل بوستمان (Neil Postman) أول من سكَّ مفهوم البيئة الإعلامية في عام 1968 وقصد به الأنساق التي تعمل فيها وسائل الإعلام؛ حيث تنظر بيئة الإعلام إلى مسألة كيفية تأثير وسائل الاتصال والإعلام على الإدراك البشري، والفهم، والشعور، والقيمة؛ وكيف أن تفاعلنا مع وسائل الإعلام يسهل أو يعوق فرصنا في البقاء. وأن لكل عصر وسائط اتصالية هي أدوات التغيير في ذلك العصر، ويطرح النهج الإيكولوجي لوسائل الإعلام حسب بوستمان ثلاثة أسئلة: ما الآثار الأخلاقية للوسائط التكنولوجية؟ هل النتائج والتأثيرات أكثر إنسانية أم معادية للإنسانية؟ هل نكسب، كمجتمع، أكثر مما نخسره، أم أننا نخسر أكثر مما نكسبه؟ (5).
هناك العديد من التعريفات لماهية علم البيئة الإعلامي. معظم التعريفات المعروفة هي من نيل بوستمان، ولانسكتر ستير وكريستين نيستروم (Kristina Nyström). حسب نيل بوستمان، يعني علم البيئة الإعلامي ذلك المنظور الذي يقدم فهمًا للتفاعل بين الإعلام والبشر ويعطي ثقافة قد تميز عصرًا بأكمله، وقال: إن مصطلح إيكولوجيا وسائل الإعلام أُخذ في الاعتبار لجعل الناس أكثر وعيًا بحقيقة أن البشر يعيشون في نوعين مختلفين من البيئات؛ واحد هو البيئة الطبيعية، وتتكون من أشياء مثل الهواء والأشجار والأنهار واليرقات، والآخر هو البيئة الإعلامية، التي تتكون من اللغة والأرقام والصور المجسمة وكل الرموز الأخرى والتقنيات التي تجعلنا على ما نحن عليه (6). قدم الجيل الثاني من مفكري مدارس الحتمية التكنولوجية وعلى رأسهم روبرت لوغان (Robert Logan) إسهاماتٍ مهمة في فهم بيئة التكنولوجيا الرقمية المعاصرة حيث أكد أن النظام الإيكولوجي المعاصر يتكون من ثلاثة عناصر أساسية هي البشر ووسائل الإعلام والتكنولوجيا وأن التفاعل بين هذه العناصر يسهم في فهم أفضل للكثير من الظواهر الاجتماعية المعاصرة (7).
الصحافة الإلكترونية: المقاربة النظرية المبكرة
جاءت الصحافة الإلكترونية (الرقمية) امتدادًا لمنتجات شبكة الإنترنت، وبدت أيضًا امتدادًا للصحافة التقليدية مع تغييرٍ جوهري في أوعية وأشكال العرض والتلقي؛ إذ اكتفت بإعادة إنتاج المضامين الصحفية والإذاعية والتليفزيونية. ولأن شبكة الإنترنت بحد ذاتها نامية ومتحولة، فقد شقَّت الصحافة الإلكترونية طريقها في التحول والنمو وأخذت تبتكر عالمها الخاص، حيث طورت نماذجها وأدواتها ولم تكتف بالشكل والعرض وطرائق التلقي والتفاعل بل شملت تطور المضمون وطرق جمع المعلومات ومعالجتها.
ومع نمو الشبكة العالمية للمعلومات ودخولها في اشتباك متعدد مع التطبيقات الإعلامية الرقمية، استمرت في توفير أدوات مساعدة في إنتاج وإدارة المحتوى الإعلامي، إلى أن ظهر أول أشكال الصحف الإلكترونية (On Line Journalism) في مطلع التسعينات، بعد خدمة (Tele Text) التي تعود جذورها إلى عام 1976 في التعاون الذي تم بين مؤسستي (BBC) والإخبارية (IBA)، حيث عُرف نظام المؤسسة الأول باسم (Ceefax) وعُرف نظام المؤسسة الثانية باسم (Oracle) (8).
وعلى الرغم من عدم القدرة على تحديد تواريخ دقيقة لنشوء الصحافة الإلكترونية فإن صحيفة (هيلزنبورج داجبلاد) السويدية يعتبرها كثيرون أول صحيفة في العالم تنشر إلكترونيًّا على شبكة الإنترنت عام 1990(9).
وفي عام 1992، أنشأت (شيكاغو أون لاين) أول صحيفة إلكترونية على شبكة (أميركا أون لاين) (10). وحسب وجهة نظر أخرى، فإن أول موقع إلكتروني صحفي انطلق من كلية الصحافة والاتصال في جامعة فلوريدا عام 1993، وهو موقع (Polo Alto) (11). وفي منتصف التسعينات، ظهرت خدمات الوسائط الإعلامية المتعددة (Multimedia) في الوقت الذي أخذ النشر الصحفي الإلكتروني ينتشر بسرعة واسعة من (10) صحف إلكترونية عام 1991 إلى نحو (1,600) صحيفة عام 1996، ووصل العدد عام 2000 إلى (4,000) صحيفة (12).
تُعَدُّ تغطية أخبار انفجار مدينة أوكلاهوما (Oklahoma)، في 19 أبريل/نيسان 1995، نقطة مرجعية ملائمة لرصد بداية مبكرة تميز الصحافة الإلكترونية عن الصحافة الورقية في مصادرها وطرق معالجتها حينما التفتت إلى المصادر الإعلامية المفتوحة بشكل مثير للانتباه، وهو الحدث الذي اعتُبر في حينه أسوأ «انفجار إرهابي» على أرض الولايات المتحدة وقُتل فيه 168 شخصًا، وفي الوقت الذي بقيت فيه وسائل الإعلام التقليدية تعاني فقرًا واضحًا في المعلومات حول الحدث الكبير استطاعت المواقع الإخبارية على شبكة الإنترنت أن تتحول إلى مصدر مفتوح للمعلومات الإخبارية من خلال انفتاحها على مصادر متعددة وواسعة يمثلها أفراد ومؤسسات أهلية؛ حيث تم نشر خارطة للمدينة وموقع الانفجار ورسم مفصَّل عن الأنواع المختلفة للقنابل المستخدمة في الهجمات خلال الساعة الأولى من الانفجار، وفي أماكن متعددة على الشبكة قامت مصادر متعددة أخرى بوصف مشاهد الحدث، وقام آخرون بالتطوع في كتابة تقارير إخبارية حول التفاصيل، وأخذت مواقع تنشر أسماء الناجين والمستشفيات التي استقبلتهم(13).
وفي عام 1999، تكرر الأمر بشكل لافت مع حادث ارتطام طائرة (800 TWA) التي غرقت في المحيط الأطلسي، حيث وفرت مصادر الإنترنت المفتوحة مئات الشهادات حول الحادث، وصلت إلى إثبات ارتطام الطائرة بمنطاد عسكري على الشاطئ.
أخذت الصحافة الإلكترونية تذهب أكثر في تمييز نفسها وأن لا تكون مجرد نسخة من الصحف الورقية على الشاشات، وأخذ هذا النهج أحيانًا طابع الإعلام البديل؛ أفقيًّا تبرز بشكل يُعْتَدُّ به منذ عام 1999 من خلال شبكة (Indy Media) وهي مجموعات من الوكالات الإخبارية الداعية إلى إعلام بديل عبَّرت عنه بالمقاومة لمنظمة التجارة العالمية، وسط صعود حركة الليبراليين وهجمة السوق الجديدة التي اجتاحت العالم في التسعينات من القرن الماضي؛ حيث أسهمت هذه المصادر في إدارة حركة الاحتجاج العالمي ودعت إلى العولمة البديلة (14).
إن الانفجار الهائل في مصادر المعلومات الإعلامية المفتوحة بدأ عهدًا جديدًا أكثر كثافة وتنوعًا مع مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بفضل الاندماج بين التكنولوجيا والإعلام، حيث ازدادت جاذبية وسائل الإعلام لاستيعاب التكنولوجيا الجديدة من جهة، وازدادت قدرة المنتجات التكنولوجية الجديدة على القيام بالوظائف الإعلامية بكفاءة مدهشة وسهولة، ويبدو ذلك واضحًا في الاندماج الهائل في تطبيقات ومنتجات (الأقمار الصناعية، والكوابل، والألياف، والحاسبات، والأجيال المتلاحقة من الهواتف المحمولة) ما أوجد آلاف التطبيقات الجديدة التي صبت جميعها في مصلحة الدخول في مسار تاريخي جديد من المصادر. وتُرصَد ملامح هذه البيئة مع مطلع الألفية بما يلي:
– تعدد وتنوع مصادر المعلومات الإعلامية بشكل كبير خلق لأول مرة بداية موت المرسل التقليدي وبداية نهاية الاتصال الجماهيري وفق نموذجه التقليدي (15).
-كثافة هائلة في مصادر المعلومات وآليات نقلها مقابل طلب هائل واستهلاك واسع؛ حيث إن الوسائل الجديدة بدأت تغيِّر هيكل وبنية الإعلام، وكأنها صممت على أن لا تقبل سيطرة مركزية، بل إن السيطرة عليها موزعة بين جميع المستخدمين (16).
– زيادة حجم ونوع المعلومات الإعلامية المتاحة من خلال الاعتماد المتبادل بين وسائل الإعلام التقليدية والجديدة معًا(17).
– التكامل والاندماج بين المصادر الإعلامية من خلال ما وفرته تكنولوجيا الاتصال متعدد الوسائط وتكنولوجيا الاتصال التفاعلي بتطبيقاتهما المتعددة والمبتكرة على الشبكة وخارجها (18).
– بداية ميلاد صحافة المواطن وانتشارها مع مطلع الألفية، أي الانتقال من الاتصال العمودي ذي الاتجاه الواحد إلى الاتصال الأفقي.
إن التصدي لمعرفة السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي لتطور الصحافة الإلكترونية في العقود الثلاثة الأخيرة يفتح المجال للبحث في فهم بيئة هذا التطور، وهذا ما يتطلب التناول في ثلاثة مستويات:
– المستوى الأول: البيئة التكنولوجية والاقتصادية والعلاقة بين نظرية «دفع التكنولوجيا وجاذبية السوق» في النشأة وفي مرحلة الانتقال الرقمي من الصحافة الإلكترونية القائمة على أدوات تقليدية في نهاية التسعينات إلى صحافة إلكترونية-رقمية بأدوات جديدة وبداية تشكُّل هوية مهنية مختلفة، ما قاد إلى نهاية نماذج اقتصادية تقليدية وبداية تشكل نماذج اقتصادية جديدة (19).
– المستوى الثاني: مصادر جديدة للقوة، يرتبط بالأبعاد السياسية والأمنية والمجتمعية؛ هذه البيئة معنية بمفهوم القوة وكيف تغيَّر وما زال يتغير نتيجة الاستخدام الواسع للإعلام الرقمي ومنه الصحافة الإلكترونية، بمعنى نهاية أو تراجع مصادر تقليدية وبداية تشكُّل ونضوج وإحلال مصادر جديدة.
لقد عمل الإعلام التقليدي على السيطرة على التراتب الهرمي للسلطة وإعادة ترتيبه من جديد، أي المساهمة منذ عصر التنوير في خلق الإطار الإيكولوجي الذي عملت فيه الصحافة على الانتقال من سلطة الأفراد إلى سلطة النخب في سياق التحولات الديمقراطية التاريخية، أما الإعلام الرقمي فيعمل على تفتيت مركزية السلطة، ثم السيطرة على السرعة المميزة التي تجعل من لديهم معرفة يصلون قبل غيرهم ما يمكِّنهم من السيطرة (20). إن الإعلام الرقمي الجديد يشكِّل في هذا الوقت انتقالة كبرى لا تقل أهمية أو تأثيرًا عن الانتقالة التي أحدثتها المطبعة. وأحد العوامل الأساسية في تشكيل القوة الجديدة في العالم تغيير بيئة العملية الاتصالية ما يقود إلى التغيير الأكثر خطورة من الهرمية العمودية إلى الخطة الأفقية في القوة، أي الشبكية، بمعنى الانتقال من قوة يصوغها الأرستقراطيون والطليعة والنخب والقبائل والأحزاب والقادة إلى قوة يُشكِّلها عامة الناس ولكل فرد منهم حصة يتأهل لها بقدرته على الوصول إلى المعلومات.
هذا الانتقال يقود من الحتمية إلى الاختيار ومن التلقي إلى المشاركة، ومن احتكار القوة إلى تجزئتها، لقد كانت قوة الناس موجودة ويُخشى منها في كل العصور وما كان ينقصها سوى التنظيم وهو ما تفعِّل جانبًا مهمًّا منه بيئة الاتصال والإعلام الجديد.
– المستوى الثالث: مهن جديدة وتنظيم جديد، لا يمكن فهم نشأة وتحولات الصحافة الإلكترونية ومستقبلها القريب بدون فهم التحولات المهنية والتنظيمية في بيئة العمل الصحفي سواءً التحولات المرتبطة بالتطور المهني ومدى الاستجابة لمتطلبات الانتقال بالمهنية الصحفية إلى منظور جديد وأدوات جديدة وأدوات التنظيم الذاتي والأخلاقي التي احتاجت إلى استجابة من نوع آخر.
فالصحافة الإلكترونية ليست مجرد تكنولوجيا تطبيقية تتيح المجال بسهولة للوصول إلى المحتوى الصحفي، وتنزيل الصفحات، وسهولة البحث والوصول إلى الأخبار، وتحديث المحتوى، والتفاعل من خلال التعليقات وتوظيف الوسائط المتعددة، بل باتت هذه الأدوات تشكِّل بيئة جديدة للمهنة الصحفية عبر كتابة جديدة، وأساليب عرض وتلقٍّ جديدة، وطرق مختلفة للوصول إلى المعلومات ومعالجتها.
إن التأصيل المعرفي لفهم سياق الصحافة الإلكترونية يحتاج التمييز بين مفهوم (الوسيلة أو الوسيط) ومفهوم المنظومة متعددة الوسائط؛ الوسيلة أو الوسيط مفهوم يشير إلى عملية مركزية تشمل أنشطة اتصالية خارجة عن إرادة المستخدم أو المتلقي، أي عمليات خارجة عن تحكم المتلقي، هنا نفهم كيف تعمل الصحيفة باعتبارها وسيلة لنقل الأخبار والمعلومات دون تدخل القرَّاء، أو التليفزيون والإذاعة، وهو أمر لا يعني أن هذا النقل يتم بحيادية تامة دون مؤثرات بيئية أخرى. أما المنظومة، فهي مجموعة من الوسائط المتعددة والمتداخلة والمتزامنة أيضًا، أي أكثر تعقيدًا وتتيح مجالًا أوسع للمشاركة والتفاعل المباشر وغير المباشر؛ والمثال على ذلك الموقع الإلكتروني فهو أكثر من مجرد وسيلة، إنه منظومة من الوسائط والوسائل التي تتيح لك أن تقرأ وأن تشاهد وأن تستمع وأن تتفاعل وتشارك وأن تختار في الوقت نفسه (21).
ويصنِّف الصادق حمامي ثلاث منظومات على الشبكة، هي: المنظومة (الفردية-الجمعية) مثل المدونات، وشبكات التواصل الاجتماعي، والبريد الإلكتروني، ومواقع الويكي، والمنظومة المؤسسية-مواقع المؤسسات العامة والخاصة والأهلية وغيرها من أشكال التنظيم المؤسسي، والمنظومة الإعلامية-الصحفية ومنها الصحافة الإلكترونية (22).
مراحل نشأة وتطور الصحافة الإلكترونية العربية
توجد إشكالية في تعريف الصحافة الإلكترونية في السياق الثقافي والأكاديمي العربي؛ وهو إشكال له جذوره أيضًا في سياق الكتابات الغربية، والرأي الغالب أن الصحافة الإلكترونية تشمل الصحف الإلكترونية سواءً كان لها مثيل أو أصل مطبوع أو مرئي أو مسموع أو الصحافة الرقمية الخالصة التي انطلقت من حقيقة العالم الرقمي واستخدمت أدوات العالم الرقمي، حيث عرفت بدايات الصحافة الإلكترونية في العالم العربي ثلاثة أنماط أساسية؛ الأول: الانطلاق من الصحافة المطبوعة في نهاية عام 1995، والثاني: المواقع الإلكترونية الأقرب إلى البوابات الإعلامية في نهاية التسعينات، والثالث: الانطلاق من المواقع الإلكترونية الإخبارية مباشرة وعرفها العالم العربي منذ عام 2000.(23)
مرَّت الصحافة الإلكترونية في العالم العربي بمراحل مشابهة لما شهدته جهات متعددة من العالم، ولكن ببطء وصعوبة في الانتقال، فما زال الإعلام العربي في المجمل يعاني من استمرار الأنماط التقنية التقليدية ومن سيطرة الأنماط التحريرية التقليدية ولم يكتمل فيه التحول الرقمي.
وفي المجمل، يمكن تقسيم مراحل نشأة وتطور الصحافة الإلكترونية في العالم العربي إلى ثلاث مراحل أساسية:
أولًا: مرحلة النشأة المبكرة
(1995 -1999)
على عكس ما شهدته الصحف الإلكترونية الأميركية والأوروبية من نمو سريع في التسعينات من القرن العشرين، فقد شهد العالم العربي نموًّا تدريجيًّا، فحتى نهاية التسعينات كان هناك نحو 60 صحيفة إلكترونية عربية تصدر بالعربية والإنجليزية والفرنسية. في عام 1995، ظهرت نسخة إلكترونية من صحيفة الخليج باللغة الإنجليزية في الإمارات، والشرق الأوسط السعودية الصادرة في لندن، وفي عام 1996، ظهرت 8 صحف عربية على الإنترنت هي (الأيام البحرينية والدستور الأردنية والاتحاد الإماراتية والأيام الفلسطينية والحياة اللندنية والسفير اللبنانية والجوردن تايمز والوطن الكويتية)، وفي عام 1997، دخلت 9 صحف جديدة عالم الإنترنت، وفي عام 1998، أضيفت 4 صحف جديدة، ويلاحظ أن منطقة دول الخليج احتلت المرتبة الأولى في بداية التحول الرقمي ثم لبنان والأردن ومصر (24).
بقيت الصحافة الإلكترونية العربية خلال هذه المرحلة مشابهة تمامًا للنسخ الورقية، نتيجة ضعف رؤية القائمين عليها لماهية هذا النمط من الصحافة وطبيعة التحول التاريخي الذي يشهده العالم؛ حيث لم يتغير المضمون الذي يُنشَر في النسخة الإلكترونية عن الأصل في الصحف الورقية ولا طريقة التحرير أو سرعة نشر الأخبار والمواد الصحفية حيث كانت المواقع الصحفية تحتاج إلى 24 ساعة ليتم تحديثها من جديد، كما هي الحال في طريقة الإخراج وعرض المحتوى فيما ذهبت بعض الصحف إلى عرض المحتوى على صيغة (PDF) أي صورة عن النسخة الأصلية.
ثانيا: مرحلة الانتشار «2000 –2010»
لا شك أن هذه المرحلة تعد امتدادا للتطور الذي سبقها في مرحلة النشأة المبكرة، وفي المجمل هناك ثلاث ظواهر بارزة شهدتها هذه المرحلة: بدايات ظهور مواقع إخبارية إلكترونية مستقلة عن الصحافة الورقية ولا علاقة مؤسسية تربط بينهما، وظهور البوابات الإلكترونية العامة التي قدمت خدمات إخبارية وتوثيقية عكست شكلًا من أشكال الصحافة الإلكترونية. وأخيرًا، ازدهار التدوين الصحفي الذي مارسه بالدرجة الأولى صحفيون محترفون بشكل مستقل.
في بدايات هذه المرحلة بقيت الصحافة الإلكترونية العربية تعتمد في بثها للمادة الصحفية على ثلاث تقنيات، هي: تقنية العرض كصورة (Image)، وتقنية النص (Text)، وتقنية (PDF). هذه التقنيات وإن اختلفت فيما بينها على مستوى عرض المادة وتخزينها ودرجات توفير المرونة في استرجاع المعلومات، فهي تلتقي في كونها تكتفي بتوفر النشر الإلكتروني على الإنترنت (25).
تم رصد أكثر من 350 صحيفة ومجلة ودورية عربية سنة 2000 وتضاعف هذا العدد في السنين القليلة التالية، وقد بدأ تأثير المدونات العربية منذ العام 2005 وازداد مع بدء حراك سياسي في المنطقة، وبداية ارتفاع الأصوات المطالبة بالتغيير والإصلاح، قبل انطلاق ما يُعرف بالثورات العربية. ولعب المدوِّنون دورًا بارزًا وشاركوا بقوة في الدفع نحو التغيير وزيادة الوعي السياسي والاجتماعي، خاصة بين الشباب. لقد شكَّل هذا النشاط شكلًا من الصحافة البديلة التي أسست الأنوية الأولية لمجال عام عربي جديد تدور فيه نقاشات جديدة، وسوف تكون هذه المقدمات الأسس الموضوعية لتحولات جوهرية في العقد التالي.
استطاع المدونون رفع هامش حرية التعبير عبر تسليط الضوء على قضايا سياسية واجتماعية كانت تُعدُّ سابقًا من «التابوهات»، كما استطاعوا دفع قطاع كبير من مستخدمي الإنترنت، معظمهم من الشباب، إلى التفاعل مع ما يطرحونه، وتشجيعهم على المشاركة الإيجابية. وتُمثِّل مصر أكبر تجمع للمدوَّنات ويُقَدَّر بثلث المدونات العربية، تليها السعودية، ثم الكويت، ثم المغرب (26).
شكَّل النصف الثاني من هذا العقد بداية انتشار الصحافة والمواقع الإخبارية الإلكترونية، حيث أخذت الصحف الإلكترونية تبلور سياساتها التحريرية بوضوح أكثر مع استمرار أنماط الكتابة التقليدية وتواضع في مهارات الكتابة للإنترنت أي الإرهاصات الأولى للمهنية والاحتراف، ولكنها لم تنضج بشكل واضح، وبقي العدد الأكبر من الصحف الإلكترونية مجرد مبادرات فردية.
لقد تزامنت هذه المرحلة مع ظهور الجيل الثاني من شبكة الإنترنت، الذي وفر المزيد من الأدوات للتفاعلية من خلال الصحافة الإلكترونية، إلى جانب ظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي سوف تغير من سلوك المستخدمين وطرق التعامل والتفاعل مع المصادر الإخبارية؛ الأمر الذي زاد من جاذبية الصحافة الإلكترونية أحيانًا ودخولها في تحديات جديدة في أحيانٍ أخرى، وعلى كل الأحوال شهدت هذه المرحلة المزيد من حضور الصحافة الإلكترونية في العالم العربي واشتباكها مع قضايا الرأي العام.
في الحالة المغربية، أسهمت عدة ظواهر في إقناع المواطنين بأن الأخبار الواردة في الإنترنت أصبحت ذات مصداقية، حسب ما ورد في (الكتاب الأبيض لتأهيل الصحافة الإلكترونية في المغرب)، وأبرز هذه الظواهر حركة الصحفيين المهنيين المشتغلين سابقًا في الصحافة الورقية والذين انخرطوا في الصحافة الإلكترونية بإنشاء مواقعهم الخاصة. فقد أحس بعضهم أن مستقبل الصحافة المكتوبة سيُحسم في عصر الإنترنت، وسيكون من السهل عليهم إنشاء مشاريعهم الإعلامية الخاصة دون استثمار مالي كبير. إلى جانب اعتقاد بعض الصحفيين المحترفين بأن الصحافة الإلكترونية سوف تمنحهم هامشًا تحريريًّا أوسع. وأسهم الحضور المتنامي لصحفيين أو ملاك صحف ورقية سابقين في إضفاء مزيد من الحضور والمهنية على الأخبار وأخبار الوسائل الرقمية، تزامن هذا التطور مع تحولات اجتماعية وسياسية عابرة للحدود أخذت تشهدها مجتمعات عربية مجاورة منذ أواخر عام 2010 حيث حظي الربيع العربي بالمتابعة الواسعة من قبل الصحافة الإلكترونية (27).
في الحالة الأردنية أسهم خروج الكثير من الصحف الإلكترونية من رحم الصحف الأسبوعية في إضفاء نوع من الشعور العام وسط الجمهور بأن المواقع الإخبارية الإلكترونية تتمتع بهامش أوسع من الحرية، وأنها باتت تشكِّل ساحة متقدمة للمساءلة ومتابعة الأداء العام، وحتى وقت قريب من تحولات الربيع العربي كانت الصحافة الإلكترونية في الأردن غير خاضعة لأحكام قانون المطبوعات والنشر الذي عاد لاحقًا وقيدها، لذا، استطاعت الصحافة الإلكترونية في هذه المرحلة الاستثمار المهني والسياسي في ميزة التفاعلية حيث شكَّلت ساحة متعددة المنابر للحوار من خلال التعليقات التي طالما أسهمت في مساءلة السياسات العامة والمسؤولين(28).
ثالثًا: مرحلة التـأثير والتنافس «2011– الوقت الحاضر»
شهدت السنوات الأخيرة، عشية ثورات الربيع العربي، زرع بذور مرحلة جديدة في تطور الصحافة الإلكترونية العربية جاءت نتائجها في انبثاق دور أكبر وحضور أوسع للصحافة الإلكترونية في الحياة العامة ومساهمة كبيرة في بداية تشكُّل مجال عام جديد في العالم العربي مع الثورات والتحولات العربية في عام 2011، وتُرصَد أبرز مظاهر التحولات التي شهدتها هذه المرحلة بما يلي:
أ. التوسع الكمي الكبير في الصحف الإلكترونية: لقد شهدت سنوات العقد الراهن تزايدًا كبيرًا في أعداد الصحف الإلكترونية؛ فقد اكتمل وجود نسخة إلكترونية لمعظم الصحف اليومية والأسبوعية وبات يندر وجود وسيلة إعلامية بدون وجود موقع إلكتروني يقدم خدمات إخبارية أو خدمات رقمية توفر المحتوى الذي تقدمه الوسيلة الإعلامية.
التطور المهم هو التوسع الكمي الكبير في أعداد الصحف الإلكترونية غير المنتمية لوسائل الإعلام التقليدية وأصبح في كل بلد مئات الصحف من هذا النوع وبلغ عدد هذه الصحف في الأردن في عام 2011 نحو 400 موقع إلكتروني إخباري وتراجع إلى نحو 175 موقعًا بعد تعديلات على قانون المطبوعات والنشر الذي أعاد تعريف المطبوعة الصحفية لتشمل الصحف الإلكترونية وبالتالي تطلب منها الحصول على الترخيص الرسمي (29). وفي المغرب، تنامى عدد الصحف الإلكترونية ووصل في عام 2012 إلى نحو 500 صحيفة إلكترونية (30).
عشية اندلاع أولى شرارة الربيع العربي كانت تونس تتمتع بأفضل بنية تحتية في التكنولوجيا الرقمية في إفريقيا، وتجاوزت نسبة انتشار الهواتف المتنقلة 127% بينما الوصول إلى الإنترنت 36%(31). وعلى الرغم من البنية التكنولوجية المتقدمة، فقد تعرضت الصحافة الإلكترونية في عهد ما قبل الثورة للقمع والتضييق والملاحقة، وتضاعفت أعداد الصحف الإلكترونية أضعافًا وأصبحت بالمئات ولا يمكن تحديد إحصاء لها حسب تقرير الهيئة العليا لإصلاح الإعلام 2012. تكرر هذا الأمر بسيناريوهات مختلفة في التطور الكمي للصحافة الإلكترونية في مصر حيث شهدت تضاعفًا كميًّا كبيرًا لأعداد الصحف وتنوعها مع تزايد عمليات الحجب.
كما أسهمت الأحداث الداخلية في نموذجي المغرب والأردن فيما بعد عام 2011 في توسيع قاعدة جمهور الصحافة الإلكترونية وتعزيز مكانتها، في المغرب، (حظيت نشاطات حركة 20 فبراير، ومختلف المحطات السياسية المهمة التي تلت بروز الحركة كالخطاب الملكي لـ9 مارس/آذار 2011، ودستور 2011 وانتخابات 25 نوفمبر/تشرين الثاني وتشكيل الحكومة الجديدة، بتغطية إعلامية واسعة). وقد أسهمت سرعة المواقع الإخبارية الإلكترونية وتبنيها منطق القرب (ثقافة الويب 2.0)، في توسيع الهوة التي تفصلها نسبيًّا عن الصحافة الورقية والإعلام السمعي البصري العمومي، وربحت الرهان باعتبارها وسائل الإعلام تجسد منطق القرب ومواكبة للمستجدات بشكل أسرع. في الأردن، تابع العديد من المواقع الإخبارية الإلكترونية حالة الحراك الشعبي الأردني (2011- 2013) في الوقت الذي كانت وسائل الإعلام التقليدي تتجنب بشكل أو آخر متابعة هذه التطورات ولم تستطع تطوير آلية للتعامل الإعلامي معها، في حين أسهمت الصحافة الإلكترونية من خلال السرعة وقوة التفاعلية في إثراء الحراك الشعبي بزخم جديد ما جعل البيئة السياسية والاجتماعية المحلية أداة لدعم هذه الصحافة لتحتل مكانة مركزية باعتبارها مصدرًا أساسيًّا لحصول الجمهور على الأخبار (32).
ب. التطور المهني، شهدت الصحافة الإلكترونية العربية ظهور صحف جديدة أكثر مهنية وأكثر قربًا للمعايير الجديدة للاحتراف الصحفي الرقمي التي باتت تنضج على المستوى العالمي، مع استمرار الضعف المهني طابعًا عامًّا.
الجيل الجديد من هذه الصحف جاء أكثر قدرة على التمييز بين المحتوى الإعلامي التقليدي والمحتوى الصحفي للإعلام الرقمي، ولديه قدرة على الاستفادة من الأدوات الرقمية الجديدة في عرض المحتوى وفي الوصول إلى الجمهور، وفي التعامل المهني مع المحتوى الذي ينتجه الجمهور.
وبرزت صحف ومجلات إلكترونية استوعبت جانبًا من التطور المهني وفهم طبيعة المحتوى الجديد وأدواته، وقد لا يتفق التطور المهني مع مؤشرات الشعبية وعدد متابعي هذه الصحف. وفي هذا المجال وعلى سبيل المثال برز حضور موقع مدى مصر، ورصيف 22 ولبنان ديبايت في لبنان، وحبر في الأردن، وإيلاف السعودي من لندن، واليوم 24 المغرب.
ج. ازدياد حصة الصحافة الإلكترونية من سوق الإعلان الإعلامية التي لم تكن تكاد تُذكَر قبل عام 2010، مع استمرار تدني هذه الحصة بالمقارنة مع وسائل الإعلام التقليدية من جهة، ومع منصات الإعلام الرقمي الأخرى من جهة ثانية، وتحديدًا في ضوء ما باتت تستقطبه شبكات التواصل الاجتماعي من حصة الإعلان. في عام 2017، نما سوق الإعلانات الرقمية عالميًّا بنحو 17% وبات يتجاوز التليفزيون، لكن أغلب هذه الإعلانات تذهب إلى شبكات التواصل الاجتماعي وعلى رأسها فيسبوك، بينما تذهب نسب قليلة للصحافة الإلكترونية، وأصبحت الإعلانات في العالم الرقمي تستخدم البرمجيات وخوارزميات الذكاء الصناعي لحجز الإعلانات الرقمية آليًّا، بدلًا من العملية التقليدية التي تقوم على طلبات تقديم العروض، والمفاوضات البشرية، وأوامر الإدراج اليدوي، الأمر الذي يجعل النموذج الاقتصادي للصحف الإلكترونية مفتوحًا على خيارات متناقضة بين الشعبوية والمهنية.
د. على الرغم من المكتسبات التي حققها التنظيم الرسمي للإعلام في العالم العربي، في أجواء ثورات الربيع العربي، إلا أن المرحلة الثانية من هذه التحولات قد شهدت انتكاسات في أكثر من بلد عربي من خلال تشريع القواعد القانونية ذات الطابع الزجري التعسفي، والتي نالت بشكل مباشر الصحافة الإلكترونية والإعلام الرقمي بشكل عام، حدث ذلك في مصر والأردن وتونس واستثمرت الأنظمة السياسية ضعف مهنية الإعلام الإلكتروني وحالة الإرباك في المحتوى الذي يُقدَّم على شبكة الإنترنت وانتشار خطاب الكراهية والأخبار الكاذبة لفرض المزيد من القيود تحديدًا على الصحافة الإلكترونية.
لقد قادت التحولات السابقة إلى زيادة حضور الصحافة الإلكترونية في المشهد الإعلامي العربي وزاد الاعتماد عليها كمصدر رئيس للأخبار، وقد بدا ذلك واضحًا في الأحداث والتحولات العربية التي شهدت سنوات هذه المرحلة، هذه البيئة وفرت لأول مرة فرصًا لتشكل الأنوية الأولى لظهور صحف إلكترونية منافسة على المستوى الوطني لوسائل الإعلام التقليدية، حيث بيَّنت دراسة أُجريت على الشباب الأردني في عام 2016 أن 92.2% منهم يتابعون الصحف الإلكترونية؛ ما يعني أن الصحافة الإلكترونية باتت معروفة لجمهور القراء وفئة الشباب خاصة ومصدرًا رئيسًا للأخبار، ولديها القدرة على استقطاب هذه الشريحة من الجمهور(33).
4. البيئة السياسية والإعلامية: تحدي صناعة الأخبار الجديدة في منتصف التسعينات من القرن العشرين الماضي، كان العالم العربي يشهد تناقضًا جوهريًّا بين حجم الاختراقات والاختلالات الأمنية والسياسية التي خلَّفتها حرب الخليج الثانية وبدايات مشروع التسوية السياسية للصراع في الشرق الأوسط وفق مسار مدريد، مقابل التغيير الثقافي والاجتماعي الذي باتت تشهده المجتمعات العربية والمتمثل بازدياد نسب التعليم واتساع حجم الطبقة الوسطى مقارنة بالعقود السابقة.
إن العطب الذي أصاب نظرية الأمن القومي العربي بعد احتلال الكويت من قبل العراق وما لحق ذلك من استدعاء لقوات أجنبية للمنطقة والذي ألقى بظلاله على مدى أكثر من عقد قد صاحبه أيضًا تحولات بفعل التكنولوجيا والعولمة الاتصالية التي جعلت المجتمعات العربية تكتشف أن الحدود السياسية مجرد حدود شفافة ولا تقف حائلًا أمام المعلومات والأخبار والأفكار والمعتقدات.
برزت متغيرات جديدة في البيئة السياسية العربية وتهديدات وصفت بأنها فوق تقليدية في حقبة التسعينات وفي العقد التالي، وعلى ثلاثة مستويات كما تبدو في العلاقات البينية العربية-العربية، ثم مسار التسوية السياسية في الشرق الأوسط، حيث ساد انقسام كبير وإعادة تمحور عربي-دولي في ضوء تداعيات حرب الخليج الثانية، ما أوصل العمل العربي المشترك إلى واحدة من أضعف حالاته؛ الأمر الذي امتد إلى الانقسام في الرأي العام العربي في هذه الأجواء.
ومع دخول العالم والمنطقة في حيز «الحرب على الإرهاب» أخذت تتشكَّل خارطة تهديدات مختلفة سواءً على مستوى الدولة أو على مستوى الأمن الإقليمي؛ وبدأ التغيير يتشكل على مستويين؛ الأول: علاقات الداخل العربي، حيث التهديد لم يعد يأتي من الخارج بل أيضًا من الداخل، إلى جانب بداية ازدياد الإدراك لمصادر تهديد إقليمية أخرى وعلى رأسها التهديد الإيراني.
وعلى مدى نحو عشرين عامًا كانت التحولات نحو الديمقراطية والمشاركة السياسية في حركة دائبة في العديد من المجتمعات العربية، وعلى الرغم من الإنجازات التي تحققت سواء في إجراء انتخابات منتظمة أو التشريع للأحزاب وتوسع المجتمع المدني وحتى في التخلص من نظم شمولية في أكثر من بلد عربي، إلا أن حصاد التحولات الديمقراطية في العالم بقي محدودًا. عشية بداية التحول الرقمي كان الإعلام العربي ما زال قائمًا على نموذج إرسال المعلومات باتجاه واحد، وعلى مركزية الإعلام الرسمي المسيطر عليه من قبل الحكومات، فالنظام الإعلامي نسق فرعي مثله مثل الأنساق المجتمعية الأخرى بينما يمثِّل النظام السياسي النسق الرئيسي في الدولة أو الكيان السياسي الذي يجمع هذه الأنساق الأخرى.
لقد شهد العديد من الدول العربية أنماطًا متباينة من الانفتاح السياسي وبداية التحولات الديمقراطية شبه المقيدة التي اعتمدت على الانتخابات البرلمانية ووجود الأحزاب السياسية ولم تصل إلى مستوى التداول السلمي للسلطة وبمستويات متفاوتة،في هذا الوقت بدأت ملامح تحول بطيء في النسق الإعلامي في دول الانتقال المبكر.
ولقد لاحظ وليام روو (William Rugh) في كتابه الثاني «وسائل الإعلام العربية»، الذي أرَّخ فيه لتطور وسائل الإعلام مع بداية الألفية الجديدة؛ حيث أبقى على تصنيفاته التقليدية التي أوردها في دراسته الأولى في نهاية السبعينات للإعلام العربي «الإعلام الموالي والإعلام التعبوي والإعلام المتنوع»، وأضاف الإعلام الانتقالي (Transitional) فهو إعلام مختلط يسمح بتنوع ملكية الإعلام ويُبقي على سيطرة حكومية هي الأقوى في المشهد الإعلامي، بينما يتيح هامشًا من حرية التعبير وتعدد وسائل الإعلام وتنوعها؛ حيث ينتقل تصنيف مصر من إعلام التعبئة والحشد إلى إعلام انتقالي والإعلام الأردني من إعلام الموالاة إلى الإعلام الانتقالي(34).
في المحصلة، اتسمت هذه المرحلة باتساع مجال التعددية الإعلامية التي جاءت استجابة لتحولات سياسية أو تحت ضغوط سياسية، إلى جانب ازدياد الاستثمار السياسي في وسائل الإعلام الذي عكسه التوسع في القنوات التليفزيونية الفضائية، ويذهب عصام موسى إلى ثلاثة أمور رئيسية أسهمت في نمو هذه التعددية؛ هي: أولًا: ضغوط العولمة والتحولات العالمية التي صاحبت التحول في النظام الدولي. ثانيًا: ضغوط الثورة الرقمية، ونهاية الرهانات التقليدية بالسيطرة على الإعلام. ثالثًا: ضغوط المنظمات الدولية وفي مقدمتها اليونسكو «35».
د.باسم الطويسي
عميد معهد الإعلام الأردني- عمان