الصورة كأداة لحفظ الذاكرة والتراث المادي

كم هائل من الأسئلة يباغتنا حيال علاقة الصورة الثابتة أو المتحركة  باليومي، كجاذبية  تشدنا لها بشكل دائم ومستفز. ولعل أبرزها هو ذلك المتعلق بسلطة الصورة كصيانة للذكرى، وهويتها كصون للذاكرة الفردية والجماعية. إن صلب نشدان الخلود الممكن بواسطة أسر الزمن الأزلي داخل إطار الصورة الفاني كما عهدناها  يظل معادلة تبدو أقرب إلى الخيال.
 أليست الذوات المصورة واعية تمام الوعي بهذا البعد التسجيلي لما ينتجه الإنسان من فنون وثقافات وآثار تدل على طبيعة عيشه وتفاعله مع محيطه ؟

 تحديد أولي

الإبداع الفني، سواء كان تشكيلا، أو نحتا، أو تصويرا لقضايا تجريدية مثل تشبث الإنسان بالحياة، أو كيف يمر بنا الزمن، أو يعاودنا الحنين لمكان معين دون آخر، لأمر غاية في التعقيد والتداخل. وخصوصا إذا ما تم الاعتماد على اللغة البصرية المحضة، من حيث الكتابة بالضوء والظل، وصقل المواد الصلبة أو السائلة، وتركيب الألوان كأساليب معينة لتشكيل تقنيات ومضامين الخطاب البصري سواء في أبجدياته الأولية أو كصناعة خلفها عقول تشتغل على تشكيل نموذج ذو أبعاد هندسية وعمرانية وجمالية تأخذ بلب المشاهد.
 إذا لم يكن أمام الفيلم الإشهاري القصير والفيديو كليب والألبوم والمتحف والكتب المدرسية والملصقات وحاليا كل أشكال الميديا الرقمية على سبيل المثال، سوى مدد وجيزة لعرض قضيتهما، فإنها  تحقق مرادهما  من حيث الدقة البليغة في توظيف اللعب على كل الإمكانيات التعبيرية لنوستالجيا الذات، وهي تصنع مجدها البسيط كذات بمفهومها العام والتي تتشكل من مختلف الفاعلين في إنجاز ذلك الموروث الذي يجمع كل أشكال العيش من أدوات بناء، وزراعة، وتزيين، ولباس وأشكال التعبير الفني وتصاميم المدن والطرق وغيرها من منتوجات ارتبطت بحقل من حقول الحياة اليومية لهاته الجماعة في المدينة أو تلك بالبادية.
 يلاحظ كيف أن المبدع،  أكان في عالم التصوير أو الإضاءة أو الماكياج بطاقته التخيلية، يظل قادرا على إعادة ترتيب أوراق هذه الذات، محاولا فكها من قيود الواقع ببعده المادي الصرف، كقوة كابحة لرغبتنا في الإحساس بنشوة الحلم  والتحليق في عوالم تضبطها قواعد أخرى ينسج معانيها كل من المصور والموضوع المصور. غير أن مسؤولية حفظ التراث التي تعتبر جزءا من الذاكرة العمرانية مثلا هي ذاكرة الأمم والعصور وليست ذاكرة فقط السلاطين والقصور.

ما معنى الصورة

بداية، لابد من تحديد أولي لمفهوم الصورة الذي نقصده. فهناك المعنى المرتبط بمصطلح الصورة كإحالة على تصور مفاهيمي عام في أذهان المستقبلين، ينبني تدريجيا على مجموعة من الأفكار والمواقف تجاه قضية ملموسة أو مجردة، كقولنا مثلا صورة الجحيم في الكوميديا الإلهية، أو صورة الإسلام في الغرب،أو صورة مدينة ما في القرون الوسطى. أما المعنى الثاني، فهو مرتبط بالصورة كمنتوح مادي سواء كان على شاشة العرض الصغيرة أو الكبيرة، أو مطبوعا على الورق أو السيلوليد وتم التقاطه بواسطة آلة التصوير، أو كاميرا الأفلام في زمن ومكان محددين، أو لوحة.
 يبقى أن المعنيين السابقين متداخلين في تشكيل زاوية المشاهد، وخلفية المشاهدة كعملية مركبة تروم إنتاج مجموعة من المشاعر والأفكار، حيث أننا بالنظر إلى صورة معينة نكون متأثرين بحكم ما تراكم في لاوعينا البصري والذاتي من انطباعات وتجارب عشناها وعايشناها. وأصبحت بالتالي، تشكل مرجعية إدراكية ولا شعورية  نعود لها كلما دعت الحاجة لاتخاذ مسافات ما، أو  إصدار أحكام ما من خلال تداع حر، أو إثارة ترتبط بإشارة حسية /حركية أو جمالية خالصة محفزة جهازنا القيمي على اتخاذ موقف أو مسافة تضمر جملة من المفاهيم كموقفنا من الآخر أو موقفنا من التحرر الجنسي أو التسامح الديني مثلا.
 اللقطة الفوتوغرافية مثلا هي نظام من الإيقونات، حيث تقوم فيه النظرة باعتبارها حركة أيديولوجية بحمل المضامين الثقافية والحضارية عبر واسطة العين كأداة فزيولوجية مهمتها الإدراك البصري ضمن ما يعرف بسيكولوجية الأشكال، وذلك من أجل تركيب أو إعادة تركيب مسارات وتسنين الفضاءات ومخزون العلامات ضمن علاقة قارة ومتفاوتة بين نسب من الدوال والمدلولات والمرتبطة بذوات ذات مرجعيات وأشكال من الممارسات الثقافية أكانت مرسلة أو مستقبلة للعالم؟
ما الحاجة للصورة للحفاظ على الذات والهوية؟
بالإضافة لكون الصورة المادية هي وسيلة ضوئية للأرشفة والتذكير بالمرجع وخلق محفز بصري للعين كي ترى امتدادها في الإحساس والزمن، فإنها أيضا عنصر مرتبط بمدى قدرة الإنسان أكان عاديا أو مسؤولا أو فنانا في صون ما نسميه بالذاكرة والوطن الذي ينتمي له، إذ لا يعقل أن يبيع الإنسان آثاره ويهدمها ويعرضها للدمار والنسيان والإهمال إذا كان فعلا حريصا على صون ذاكرته هو كمواطن ينتمي لهذا البلد أو ذاك.
 حاجتنا للصورة حاجة روحية وعاطفية قبل أن تكون حاجة مادية، بل هي مسؤولية سياسية وحضارية. ألسنا دوما في حاجة لهذا الوسيط؟ فبالإضافة لقدرة الصورة على إثارة الأحاسيس، فإن لها قوة استحضار المرغوب وزرع الحياة فيه، وجعله وكأنه حاضر بيننا في الهنا والآن.
 إن عنصر استمرارية الأحاسيس، وإعطائها بعدا تاريخيا ورمزيا تتوارثه العائلات كمخزون نفسي واحتفالي بلحظات تم اقتناصها من قبضة الزوال.”لا تعيد الصورة الشمسية تذكر الماضي(لا شيء بروستي في الصورة). فليس التأثير الذي تحثه بكامن في استعادة وترميز ما اندثر (بفعل الزمن والمسافة)، وإنما يتمثل في الشهادة بأن هذا الذي أراه قد وجد حقا. والحال أنه تأثير فاضح فعلا. والتصوير الشمسي يدهشني دائما دهشة تدوم وتتجدد باستمرار.
 لكن هل كل ما بقي لدينا لتسجيل وكتابة ماضينا وحاضرنا هو هذه الصور المسروقة هنا وهناك؟ ألا يجدر بنا إعادة النظر فيما اعتبرناه صورا جميلة وبعيدة؟ ثم أليس فتح الحوار حول أهمية الصورة وعلاقتها بكيفية إدراكنا لذواتنا وللآخر أمر مستعجل على أكثر من صعيد، بحكم النسيان الذي بات جزء من سلوكنا اليومي ويهدد ذاكرتنا بالعمى الوجداني، على اعتبار أن تعلقنا بالصور بات أمرا لا يجد حيزا محددا، كالألبوم أو كدفتر الذكريات بل تحول إلى نهر متدفق لا قرار له ولا نهاية، وبالتالي صار تعلق الإنسان أكثر بعملية التصوير واستهلاك المصور أكثر من الارتباط بصور معينة، وبالتالي تحولت صور الموروث الجماعي إلى عملية استهلاكية ترويجية وكأنها معدة أصلا فقط لجني ربح سياحي فقط دون أن تكون لها كفاءات وسياسات وعلوم تدرسها وتصونها وتعيد ترميمها لتبقى أمانة ونبراسا للأجيال القادمة.
  الأفلام القصيرة والطويلة، والأفلام التسجيلية وكذا أفلام الفيديو والفوتوغرافيا، والملصقات، والمطبوعات والنقوش على الجبس واللوح بل حتى الوشم ورموز الزرابي والحلي والملابس..  أمامها العديد من التحديات في زمن أضحى فيه الدفاع عن الحقوق الثقافية والمدنية، حقا من حقوق الشعوب في الدفاع ونشر ثقافته والتعريف بها.
  إن العين العربية، التي برعت في وصف الإبل والنخيل، والخيول، والنساء مطالبة اليوم بنفض ما علق على شبكتها وأشكال استقبالها لأيقونات العالم المرسل من كلس ورصاص. فالنظرة الثاقبة والمدركة لمعالم الجمال الطبيعي أو حتى الصناعي في فن الديزاين مثلا وفي ترويج الآثار والتعريف به وتدريسه، ليست مجرد أداة أو وظيفة عضوية بحتة، إنما الأمر يتعلق بمنظومة ثقافية واجتماعية، حيث تجد أن المجتمع، بحرصه على إشاعة ثقافة حسن التذوق بين أفراده، والدولة من حيث توفير الشروط المادية والمعنوية، يتقاسمان مسؤولية التربية الفنية في جل مرافق الحياة، وفى الأماكن العامة أو الخاصة. ويلاحظ بالتالي، كيف أن المواطن الياباني مثلا يعبر عن انتمائه، ليس فقط بالتباهي لماض مشرق، ولكن من خلال البراعة، الإتقان، وقيم الجمال في إنتاج، أو إخراج أي منتوج ما، بدء من العباءة  الكيمونو إلى ديكور البيت وحدائق الشوارع، وتنمية كل الأشكال التعبيرية التي تشكل جوهر التراث المادي للشعوب.

بقلم: عزالدين الوافي

Related posts

Top