شهدت الصين في سنة 2020 حدثين بارزين أولهما داخلي كان له تداعيات عالمية غير مسبوقة في التاريخ الحديث لا تزال مستمرة إلى الآن، وهو اندلاع جائحة كوفيد -19 في ووهان قبل أن تنتشر في باقي مدن الصين ودول العالم، وما أعقبه من كفاح مرير للسلطات الصينية لاحتواء انتشاره، والثاني خارجي مرتبط بتصاعد حدة الصراع والتوترات على أكثر من صعيد مع إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب.
وهكذا، وجدت الصين نفسها مع مطلع سنة 2020 أمام أكبر التحديات الصحية الخطيرة التي تواجهها عقب اكتشاف بؤرة لتفشي فيروس كوفيد-19 في مدينة ووهان وسط البلاد أواخر دجنبر الماضي، ما دفع السلطات في 22 يناير إلى اتخاذ قرارات مشددة بإغلاق تام لووهان ومقاطعة هوبي ومنع حركة الدخول والخروج، ووقف شامل لحركة النقل، وفرض حجر صحي واسع النطاق على السكان، وإغلاق المحلات التجارية والقاعات الرياضية والسينمائية ووحدات الإنتاج والمصانع في مشهد غير مسبوق، وهي التدابير التي تم اتخاذها أيضا في الأسابيع الموالية في المدن والمقاطعات التي تفشى بها الوباء بما في ذلك العاصمة بكين.
وأمام الضغط الكبير آنذاك لمرضى كوفيد-19 على المستشفيات المحلية في ووهان، سارعت السلطات الصينية إلى تشييد مستشفيين حديثين في ظرف عشرة أيام، بمشاركة 13500 عامل بناء و1500 من آليات البناء، كما تم حشد 346 فريقا طبيا على المستوى الوطني و42600 موظفا صحيا بين أطباء وممرضين، وأكثر من 900 شخص من موظفي الصحة العامة لمساعدة مقاطعة هوبي ومدينة وهان.
وفي غضون ثلاثة أشهر تقريبا، وبتكاليف ضخمة وتضحيات كبيرة، نجحت الصين في عكس اتجاه الوباء وحققت نتائج مهمة في السيطرة على تفشي الجائحة في ووهان، كما في باقي المدن والمقاطعات الصينية الأخرى بعد كفاح مرير مع الوباء وشبه توقف للحياة الطبيعية وشلل لثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وبلغ إجمالي حالات الإصابة المؤكدة بكوفيد-19 في الصين 87027 حالة، تعافى منها 82037 مريضا، بينما توفي 4634 شخصا جراء مضاعفات الإصابة، وفقا للأرقام الرسمية. ولم تكن أكثر التحليلات تفاؤلا تتوقع أن تنجح الصين في ظرف قياسي نسبيا في السيطرة على تفشي الفيروس، وأن يستعيد اقتصادها المتضرر مسار التعافي، وهو ما مكن التنين الآسيوي من كسب رهان مزدوج التحكم في الوباء وتحقيق الانتعاش الاقتصادي في ظرفية دولية بالغة التعقيد.
غير أن الصين لا تزال تواجه تحديات مقلقة تتعلق بمخاطر تفش جديد للفيروس لاسيما مع ظهور بؤر جديدة على فترات مختلفة في بعض المدن كالعاصمة بكين مؤخرا، ومدينة كاشغار بمنطقة شينجيانغ الويغورية ذاتية الحكم شمال غرب البلاد.
هذه الحالات الجديدة المتفرقة أثارت موجة من المخاوف من احتمال تجدد تفشي الوباء على نطاق واسع والعودة إلى تدابير الإغلاق ومنع السفر والتنقل الذي لا تزال ذكرياته الأليمة حاضرة في أذهان 1.4 مليار صيني.
غير أن السلطات الصينية ولتجنب أي سيناريو من هذا القبيل تسارع إلى التحرك لتطويق أي بؤرة جديدة للفيروس عبر إجراء حملات اختبار واسعة النطاق على سكان المناطق والمدن المعنية، وعزل المصابين وتتبع المخالطين مع رصد مصدر العدوى، وفرض إجراءات عزل وإغلاق محدودة، وهي المقاربة التي أثبتت لحد الآن جدواها.
وبالموازاة مع ذلك، لجأت الصين إلى الاستخدام الطارئ للقاحات تجريبية ضد كوفيد-19 لفائدة بعض الفئات التي تواجه مخاطر عالية مثل العاملين في القطاع الطبي وموظفي الجمارك والخدمات العامة. وتؤكد السلطات الصحية أن اللقاحات المختارة للتلقيح في حالات الطوارئ، تمت الموافقة على دخولها في المرحلة الثالثة من التجارب السريرية، وأن بيانات التجارب التي تم جمعها حتى الآن “قدمت دليلا على سلامتها وفعاليتها”.
من جانب آخر، تمكنت الصين من استعادة تعافيها الاقتصادي تدريجيا بعد الخسائر التي تكبدتها إبان مرحلة الإغلاق وتوقف أنشطة الإنتاج في العديد من المصانع والشركات، فضلا عن تضرر القطاعات المرتبطة بالتجارة الخارجية وسلاسل التوريد وكذا الطيران والسياحة والفنادق والمطاعم المقاهي.
وفي مؤشر يعكس الانتعاش الاقتصادي للعملاق الاسيوي، سجل الاقتصاد الصيني نموا بنسبة 4,9 في المائة في الفصل الثالث من عام 2020 مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، محافظا على التعافي الذي حققه بعد تدابير الإغلاق لاحتواء كوفيد-19 ليقترب من مستويات ما قبل ظهور الوباء، فيما رجعت الحياة إلى وتيرتها الطبيعية وعاد الصينيون لارتياد المقاهي والمطاعم والتسوق والسفر، في مشهد يتناقض مع الوضع في العديد من دول العالم الأخرى.
وحسب توقعات صندوق النقد الدولي، فإن الصين في طريقها لتكون القوة الاقتصادية الرئيسية الوحيدة في العالم التي تحقق نموا هذا العام، فيما تحاول دول العالم التعامل مع تدابير الإغلاق وموجات جديدة من الإصابات.
وإلى جانب الوباء، عاشت الصين هذه السنة على وقع تنامي حدة التوترات مع إدارة إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، وذلك على أكثر من واجهة، من الاتهامات المتكررة لبكين بالمسؤولية عن الوباء، وفرض القيود على شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الصينية العاملة في الولايات المتحدة، مرورا بملفات هونغ كونغ وتايوان والملاحة في بحر الصين الجنوبي، وقيود التأشيرات على مسؤولين صينيين، إلى تبادل إغلاق قنصليات بكلا البلدين في خطوة غير مسبوقة في تاريخ الصراع بين البلدين.
ورغم توقيع ترامب في أواسط يناير الماضي بالبيت الأبيض اتفاقا تجاريا مرحليا مع نائب رئيس الوزراء الصيني ليو خي، الذي أوقف فصول الحرب التجارية المستعرة بين البلدين وتبادل فرض الرسوم الجمركية، إلا أن التوترات استمرت بين البلدين في باقي الملفات الأخرى.
وشكل تبادل البلدين إغلاق قنصلياتهما في يوليوز الماضي ذروة التوترات الدبلوماسية، فبعد 3 أيام على إغلاق واشنطن للقنصلية العامة للصين في مدينة هيوستن الأميركية، ردت بكين بإغلاق القنصلية العامة للولايات المتحدة في مدينة شينغدو بجنوب غرب البلاد. كما ردت الصين بسحب بطاقات الاعتماد لصحافيين أمريكيين يعملون لحساب عدد من الصحف منها “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” و”وول ستريت جورنال” بعد قرار الولايات المتحدة بخفض عدد الصينيين المسموح لهم بالعمل في الولايات المتحدة لحساب وسائل إعلام صينية.
وفي ملف هونغ كونغ، فرضت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلسلة عقوبات على مسؤولين صينيين ومن هونغ كونغ على خلفية إقرار قانون الأمن القومي في الجزيرة، آخرها هذا الشهر عندما فرضت واشنطن عقوبات على 14 نائبا لرئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، التي تولت إعداد هذا القانون، تشمل تجميد أي أصول قد يمتلكونها على الأراضي الأميركية ومنعهم من السفر إلى الولايات المتحدة.
وسارعت الصين كعادتها إلى الرد بفرض عقوبات على مسؤولين بالإدارة الأمريكية وأعضاء بالكونغرس وأفراد بمنظمات غير حكومية، وكذا على أفراد أسرهم المباشرين.
وصرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشون يينغ، أن “العقوبات التي فرضت من باب المعاملة بالمثل جاءت بسبب التدخل الأمريكي الخطير في شؤون الصين الداخلية وتقويض المصالح الجوهرية للصين باستخدام الشؤون المتعلقة بهونغ كونغ”.
ومع اقتراب طي صفحة إدارة ترامب، تسود الصين أجواء من الترقب المشوب بالحذر إزاء طبيعة السياسة التي سينتهجها الرئيس الديمقراطي جو بايدن في تعامله مع الغريم الآسيوي العملاق، وكيفية تدبيره لتركة سلفه الجمهوري دونالد ترامب، وخاصة ما يتعلق بالتعاطي مع ملفات الحرب التجارية والقيود على الشركات التكنولوجية ووسائل الإعلام الصينية وكذا القضايا المرتبطة بشينجيانغ وهونغ كونغ وتايوان.
ويرى المحللون الصينيون أنه بالرغم من أنه من غير المتوقع أن تتخذ إدارة بايدن نهجا أكثر تشددا في سياستها تجاه الصين مقارنة مع إدارة ترامب، إلا أن بايدن لن يرغب في مواجهة رد فعل الكونغرس الذي لا مفر منه إذا حاول التراجع عن أي من الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب ضد الصين.
> خالد العيموني (و.م.ع)