> حاوره في الدار البيضاء: د. عبد الرحمن بن زيدان
هذا حوار أجراه الكاتب والباحث المسرحي د. عبد الرحمان بنزيدان مع الفنان المسرحي الكبير الراحل الطيب الصديقي سنة 2003 ونشر بجريدة المستقبل اللبنانية.. بيان اليوم ارتأت نشره اليوم تحية لروح الراحل عميد المسرح المغربي لأنه يكتسي أهمية بالغة في التعريف بالرجل ومساره وتجربته ومفهومه للمسرح والفرجة.. المعطيات والتصريحات التي كان الصديقي قد أدلى بها لمحاوره في هذا الاستجواب ستفيد، من دون شك، الباحثين والفنانين ولاسيما المسرحيين الشباب للمزيد من المعرفة والاطلاع على تجربة غنية اعتبرها النقد المسرحي تأسيسية وتأصيلية بأسلوب حداثي وعصري لما تنطوي عليه من اقتراحات واجتهادات شكلت إضافات نوعية للريبرتوار المسرحي المغربي والعربي… فيما يلي النص الكامل للحوار كما ورد في الموقع الإلكتروني للدكتور عبد الرحمان بنزيدان:
> لا يذكر تاريح المسرح المغربي الحديث إلا ويذكر اسم الطيب الصدّيقي باعتباره مؤلفاً ومخرجاً مجدداً ومؤصلاً للفرجة المسرحية العربية لأنه استطاع ان يكتب تاريخ معرفته المسرحية وثقافته المسرحية العالمية في نتاجه المسرحي. كيف حقق الصدّيقي كتابة هذا التاريخ؟ وما أهم مراحل هذا التاريخ؟
< لما بدأت الاهتمام بالمسرح، وتفتحت عيناي على أجوائه السحرية والعجيبة، كنت في السادسة عشرة، في هذا العمر لم أكن أملك معرفة مسرحية ولا دراية باشتغال عوالم المسرح، كان الميل شديداً، وكان الشوق إلى الدخول إلى طقوسية المسرح قوياً، لكن الذي كان يغيب في هذا الطموح هو المعرفة الحقيقية بأسس إنتاج الفرجة المسرحية.
في الحقيقة لم تكن لديّ استراتيجية واضحة المعالم أكتب بها هذا التاريخ، لأن البداية كانت ملتبسة بصعوبة البدايات، لكني فهمت أن المسرح المغربي يحتاج إلى تاريخ حقيقي في التأليف المسرحي وفي الإخراج، لأن في الستينات من القرن الماضي لم يكن في المغرب سوى أربعة أشخاص يكتبون للمسرح، مع ما تحمله هذه الكتابة من مغامرة التأسيس للكتابة الحقيقية للنص المسرحي، لهذا فكرت في أن أحتك بالمؤلفين الكبار، وأقرأ نصوصهم، وأحتك ببلاغة أساليبهم، وأتعرّف على تقنيات وحيل الكتابة الدرامية.
كان موليير، وكان غولدوني، وكان بومارشي، وشكسبير، ويوجين يونسكو، وصامويل بيكيت ـ وغيرهم كثير ـ مدرستي الأولى في معرفة المسرح، ومعرفة أشكال بناء الحوار والشخصيات والفرجة.
كانت هذه المدارس بهؤلاء الأعلام وبكتاباتهم عاملاً مساعداً ساعدني على تغيير النظرة التي كانت لديّ عن المسرح، بعد أن فهمت أن المسرح في صيغه المتطورة كانت من الغرب، لكن عندما بدأت أقارن بين ما لدينا، وما عند هذا الغرب، أيقنت أنه لا يمكن إيجاز مسرح مغربي وعربي بالتقليد، أو البقاء تحت رحمة المعرفة المسرحية الغربية بشكل مطلق.
إننا بالتقليد لا يمكن أن نقدم موليير ـ مثلاً ـ أحسن وأجود من الفرنسيين، أو نقدم روائع وليام شكسبير أبلغ من الانكليز. المطلوب هو البحث عن صيغة مسرحية عربية لفرجة عربية تناسب الذوق العربي، وتتلاءم والخصوصيات المحلية ذات الدلالات الإنسانية.
> ما دور أخيك السعيد الصدّيقي في هذا التكوين كقرين لك في مسار حياتك الفنية؟
< علمني أخي السعيد الصديقي الكثير، لأنه مبدع مثقف شاركني في كتابة كثير من المسرحيات، فهو الذي كتب كثيراً من الأشعار لمسرحياتي، وهو الذي أفهمني كيفية الكتابة للمسرح، لأنه كان يفهم المسرح، ويقرأ المسرح، كان دائماً متعطشاً للمزيد من المعرفة المسرحية. لقد كتب مسرحيات كثيرة أخرجت جلها للمسرح، مثل “الرأس والشعكوكة” و”الرواسيات” و”مدينة النحاس” وشاركني في كتابة مسرحيات مثل “المغرب واحد” و”معركة الملوك الثلاثة” و”الزلاقة” و”مولاي اسماعيل” وكتب أشعار مسرحية “مولاي ادريس”. إن السعيد الصديقي أستاذي بدون منازع.
الحكواتي الشعبي وجمع التراث الشعبي
> هذه المرحلة التي بدأتها في مطلع الستينات من القرن الماضي كانت تتداخل مع مرحلة أخرى أساسية في تاريخك المسرحي وهي مرحلة البحث في التراث الشعبي المغربي عن أشكال للفرجة، كيف كان هذا البحث؟
< بعد مرحلة الاقتباسات أو مغربة النصوص المسرحية الغربية لاستنباتها في تجربتي المسرحية المغربية، حاولت أن أرجع إلى الخزان التراثي المغربي، لأرى ما تتوفر عليه الأشكال الفرجوية المغربية من إمكانيات الحفل والعرض والتمثيل، لهذا حاولت فهمها والبحث في مكوناتها خصوصاً في مكونات الحلقة، والمؤهلات الفنية للراوي، وعذوبة الغناء الشعبي، والرقص الباذج بشعرية الجسد وهو يستنطق لغات الجسد.
من هنا جاءتني فكرة تناول موضوع شخصية شعبية متصوفة تنطق بالحكمة، وتنتقد خلل الواقع في أزمنة ضعف السياسيين والسلطة الحاكمة، شخصية تراجيدية كانت تتحدث عن المرأة والعلاقات بين الناس وطباعهم وأمزجتهم وميولهم الظاهرة والخفية.
الفكرة كانت تهدف إلى تقديم شخصية “المجذوب” المستمد من التراث الشعبي، لأن تراثه الشعري يدخل في إطار الأدب الشفوي، وعوض أن يضيع هذا التراث، أردت تجميعه وكتابته ووضعه في بنية الكتابة الدرامية.
استغرق إنجاز هذا العمل ثلاث سنوات بسبب قلّة الشعر المكتوب لهذا المجذوب، وبسبب توزعه على ألسنة الناس في المدن المغربية المتباعدة. إنني لم أجد إلا القليل القليل من “رباعيات” شعرية متفرقة، فاستعنت بالحكواتيين “الحلايقية”، وأخذت كلام المجذوب من امرأة حافظة لأشعاره تسمى “دادة”، وسألنا أناساً مسنين في مدينة مكناس كانوا يحفظون هذه الرباعيات الشعرية، وقمت بوضع ما تجمع لديّ من أشعار ومرويات في بنية مسرحية تكون أقرب ما يمكن من الناس.
مسرحة التراث وأصالة المسرح العربي
> هل هذه الطريقة التي تعاملت بها مع الرباعيات الشعرية للمجذوب هي نفسها التي سلكتها في بناء فرجة المقامات؟
< كان والدي يقرأ المقامة المضيرية، فلفت انتباهي أثناء سماع هذه المقامة أن فيها مواصفات من المسرح يمكن أن تصير مسرحاً حقيقياً، أعدت قراءتها لأكتشف سر المسرح الموجود فيها، وجدت نفسي أمام مسرح متطور لا ينقصه إلا المخرج الذي يتعامل مع شخصيتي عيسى بن هشام وأبي الفتح الإسكندري، ويتعامل مع حوارات الشخوص، ويتعامل مع ألوان الصراع والخصومات لبناء زمن الفرجة.
هذا المسرح في صيغته العربية، وبالمفهوم الحديث مسرح أقدم من المسرح الأوروبي الفرنسي والانكليزي بسنوات وقرون، من هنا جاء إصراري على تقديم فرجة مسرحية عربية مستمدة من التراث العربي كخزان حقيقي للشكل المسرحي الملائم لصناعة الفرجة العربية.
التنكر المسرحي
> هل هو ما قمت به في أعمال مسرحية تقوم على الشعر الشعبي الذي يسمى “شعر الملحون”؟
< في مسرحيات كثيرة حققت هذا، “النور والديجور” “ذات الرؤية السريالية لعلاقة الليل بالدجى، وكيف أن النور يصبح حاكماً وقاضياً، وفي مسرحية “الحراز”، اعتمدت على القصائد التي تقدم حفلات تنكرية، تتغير فيها صفات الأحبة والعاشقين، واعتمدت على الغناء حتى صار هذا النوع من المسرح في تجربتي، وفي تجربة المسرح المغربي، كوميديا غنائية متطوّرة جداً فيها كشفت أن قصائد الملحون ـ أو بعضها ـ قصائد تحمل اسم امرأة، لأن الشعر الشعبي كان يقدم إحساسه بالشعر، وكان يتنكر بمختلف الحيل للوصول إلى الحبيبة.
أثار انتباهي هذا النوع من الاحتفال بالمرأة، ولفت انتباهي كيف كان الشاعر الشعبي يقرب الشعر من غرضه أو أغراضه، ليرسم ملامح شخصياته شعراً عاشقاً وساخراً ومتغزلاً ومنتقداً لكل السلطات، التي تحول دون قول شعره، وتحول دون الوصال.
هذا الانتباه إلى شعر الملحون وفنونه الشعبية جعل المسرحيات التي ضمت الأغاني الشعبية والرقص الشعبي فناً مسرحياً تراثياً مغربياً في قالب عصري، وبطريقة عصرية جعلت المتلقي المغربي يتذوّق هذا الشعر الممسرح، وجعلته يفهمه ويدرك دلالات خطاباته الشعرية. وقصائده التي تغنت بها مجموعات غنائية داخل العمل المسرحي تحولت في ما بعد إلى فرقة ناس الغيوان وجيل جيلالة المشهورتين.
> إذا كانت العودة الى التراث تضعنا أمام تراثات وليس تراثاً واحداً، فما هي المواضيع التي تقدمها في مسرحك؟ وما صيغ هذه المواضيع؟
< بعد الاطلاع على النصوص المسرحية الغربية، خلصت إلى فكرة صارت تتملكني وهي أن هذا المسرح ـ في كل نص مكتوب ـ يتناول موضوعاً واحداً، مثلاً في مسرحية موليير “ميزانتروب” نجد شخصاً همش نفسه في مجتمعه لأنه عدو المجتمع، وفي مسرحية “البخيل” هناك البخل، وفي مسرحية “عطيل” لوليام شكسبير هناك الغيرة. قلت مع نفسي لماذا لا أنوع مواضيع التراث العربي في عروضي المسرحية، وأبني التعدد من غنى الدلالات في هذا التراث. وقلت مع نفسي لماذا لا أعمل “البساط” أتناول فيه أكثر من موضوع على غرار ما يسمى بالمستملحات، أو الأغاني، أو الكشكول الذي هو مستملحات يمكن أن تكون مشهداً مسرحياً، وأن يكون كل مشهد يقوم على “المستظرف من كل فن طرف”. واكتشفت في الأخير أن عالم الضحك والسخرية في “البساط” هو التفكه والدعابة الجميلة بالحيل المسرحية في العرض. بهذه البساطات أدخلت إلى مسرحي روح المرح في زمن الفرجة بعيداً عن الادعاء القائل إن المسرح ينقد البشرية. إن المسرح محدود، ويخاطب قليلاً من الناس وهذه قوته.
العرض البصري
> على هذا الأساس ما مفهومك للمسرح؟
< مفهومي للمسرح آتٍ من جملة يقولها الكل “سنذهب لمشاهدة مسرحية”، إن العين أساس النظر، والنظر في المسرح أهم من السمع. أنا في مسرحي أشتغل على المرئي، وحتى الذي لا يفهم، سيجد نفسه داخل الجماليات والمفاجآت وألعاب السيرك وداخل المشاهد السحرية. إن القولة التي تقول “المسرح أبو الفنون” جعلتني أحدد مفهومي للمسرح على أنه الفن الأكثر قدرة على أن يصبح ملتقى الفنون من رسم، ومن نحت كنحت حي للممثل بلباس يصير قطعة منحوتة بالحركة وبالرقص والغناء، والمسرح أيضاً ملتقى الموسيقى والغناء والتشكيل والعمارة.
مفهومي للمسرح أيضاً هو قناعتي بأن هذا المسرح هو أكثر الفنون سوريالية، فالبطل الخائن يقتل ويسقط صريعاً، بعدها تنزل الستارة بعد نهاية المسرحية، بعدها يرفع الستار، وينهض الميت حياً ليؤدي التحية للناس وللجمهور ويصفق الناس على هذا الميت الحي. إن هذا المسرح هو هذا التباعد وهذا التغريب بين الواقع والانفعال، بين الحقيقة الوهمية والحقيقة الحقيقية.
> وما هي أسس تكوينك في هذا المسرح؟
< لم أتخرج من مدرسة للتكوين، ولكن التكوين عندي كان مبنياً على احتكاكي بكثير من المخرجين العالميين، منهم اكتسبت الخبرة في تصميم الديكور وهندسته، وفي تصميم الأزياء، مما أقنعني أن المخرج الذي في المسرح هو الذي يكون متضلعاً في هذه التخصصات حتى يسهل عليه التعامل مع المحافظ والممثلين والتقنيين والفضاءات، موظفاً في ذلك أسرار المهنة وما اكتسبه وراكمه من خبرات. وهذا كله غير كافٍ، لأن المخرج عليه أن يكون دراماتورجياً يعرف ما يحيط بالنص الذي سيشتغل عليه، ماذا يريد أن يقول: كيف يقول قوله؟ ثم كيف يمكن تأويل النص حسب رؤيته وإمكانات الفرقة وطاقمها ومواهب وقدرات الممثلين فيها.
> هل هذا يعني أن لديك منهجاً في الإخراج هو وليد مفهومك للمسرح الذي تمارسه؟
** أنا لا أملك منهجاً واحداً ثابتاً في الإخراج المسرحي، لأنني لا أملك نظرة واحدة للوجود وللحياة وللفن، أنا أنطلق دوماً من النص الذي يرسم لي إمكانات قراءته والتعامل معه لإبداعه زمن العرض، إن لكل عمل مسرحي منهجه الخاص، فالتعامل مع “مقامات بديع الزمان الهمداني” ليس هو نفسه في “الحراز” أو “جنان الشيبة” أو “الفيل والسراويل” أو النصوص العبثية التي أخرجتها، أو النصوص التراثية التي اشتغلت فيها على النصوص السردية العربية.
لكل عمل منهجه، وبناء الحوار في النصوص يعطيك الرؤية الأولى في الإخراج، وقراءة النص يجب أن تكون مشروطة بالكيفية التي تقرأ بها هذا النص لوضع مشروع المنهج الذي يتحقق في العرض ليجعلك تسميه منهجاً، أنا لا أريد أن أكون خادماً طيعاً ومطيعاً للنص المكتوب، لأني أريد أن أجعل من قراءتي اختلافاً لما يمليه علي النص المغلق، وهذا ما يجعل كل مسرحياتي عوالم متنوعة، لكل مسرحية عالمها الخاص.
> ما علاقتك بالفنون؟ وكيف توظفها في مسرحك؟
< لا يمكن أن نمارس المسرح، أو أي نوع من أنواع الفرجة من دون أن نتعامل مع الفنون، ومن دون أن نبدع في السينما، لقد عاتبني كثير من الأصدقاء أنني بعد فيلم “الزفت” لم أنتج أي فيلم آخر، الفيلم يتطلب التفرغ سنوات، وفي نهاية المطاف تذهب للمشاركة في مهرجان واغادوغو.
علاقتي بالفن هي علاقتي بكل الفنون، أنا أرسم ولا زلت أرسم، وأعرف أن في مسرحي وظفت الخط العربي مجسداً في قطع من الديكور لأنتج المسرح الحي زمن العرض عوض السينما التي تعرض حياة ميتة لا يحضر فيها سوى الشريط.
الخط العربي روحاني، صوفي فيه معنى عميق لمكابدة الصوفي، لأن الحرف فيه قدسية، فيه الحروف الباطنية وفيه الحروف الظاهرية. ويظهر توظيف هذا الخط في المقامات وفي “رباعيات المجذوب” وفي “الفيل والسراويل”. وكنت أيضاً أكتب هذه الخطوط مطرزة على زي بعض الممثلين حسب هوية كل شخصية.
الفضاءات المسرحية
> هذا يظهر حتى في اختيارك للفضاءات التي توظفها لعروضك المسرحية، الفضاءات المفتوحة حيث قدمت أعمالاً ضخمة في الهواء الطلق خارج الفضاءات المغلقة، منها “معركة الملوك الثلاثة” و”مولاي اسماعيل”، أما باقي العروض فيتم تقديمها في القاعات المسدودة. فهل هذا يعني ما تؤكد عليه حول طبيعة المنهج في كل عرض لديك؟
< هناك غايتان أردت بلوغهما في تقديم عروض مسرحية في الهواء الطلق، أو الفضاء المفتوح، الغاية الأولى تكمن في المنحى التعليمي الذي أردت به جعل المتلقي المغربي يعرف تاريخه من خلال الإخبار بالمراحل المشرقة من هذا التاريخ، والغاية الثانية مخاطبة أكبر عدد ممكن من الناس في ملاعب كرة القدم والساحات الشعبية في المدن العتيقة كمكناس على سبيل المثال لا الحصر. لماذا الملاعب؟ لأن الجمهور تعود الذهاب إلى هذه الملاعب، وأنا أريد تحبيب المسرح للجمهور.
أما في ما يخص القاعات المغلقة فهي تسهل عملية التواصل، لأن خطاب النص يخاطب الذهن وبعدها الإحساس في هذا المغلق.
> ما علاقة الطيب الصديقي بالمسرح الشعبي؟ ولماذا ارتبطت بنقابة الاتحاد المغربي للشغل ثم تخليت عن أي ارتباط بالسياسة؟
< ارتبطت أول الأمر بجان فيلار، وتعرفت على مرامي وأهداف “المسرح الوطني الشعبي” الذي يجب أن يخاطب الجماهير في الملاعب وفي الساحات الأكثر ازدحاماً والتي تعرف إقبالاً جماهيرياً، كنت مؤمناً بهذه الوظيفة في البداية، لكني تخليت عنها، لأن على المسرح أن يكون مسرحاً أو لا يكون.
عندما ارتبطت بالاتحاد المغربي للشغل، كنقابة مغربية تدافع عن العمال، وجدت نفسي استدرج لخدمة النقابة وليس خدمة المسرح، لقد أراد المسؤولون تسخيري في أمور السياسة لخدمتهم، وأكون تابعاً لهم، لكني كنت أكثر حساسية من السياسة، ولم أرد وضع المسرح في خدمة السياسة.
قدمت في الستينيات من القرن الماضي مع هذه النقابة مجموعة من المسرحيات منها “المفتش” لغوغول، و”بين ليلة وليلة” لتوفيق الحكيم، و”الجنس اللطيف” عن اريسطوفان.
> وما سبب القطيعة؟
< طلب مني مسؤول كبير في النقابة أن أقدم مسرحية توقفنا عن تقديمها أكثر من ثلاثة أشهر، وعندما قلت له إن الأمر يتطلب تدريباً استثنائياً ويتطلب وقتاً كافياً لإعادة الممثلين إلى أجواء وطقوسية العمل، قال لي: “هذا أمر”. فانسحبت، لأن المسرح لا يتلقى الأوامر من السياسي.
العجب/ العجاب
> بعد هذه التجارب المسرحية في عمرك المسرحي هل يمكن الحديث عن مراحل واضحة المعالم في هذه التجارب؟
< هناك معالم واضحة في عمر هذه التجارب في التراكم الذي حققته طوال أربعين سنة من البحث والتنقيب وإعادة قراءة النصوص المسرحية العربية القديمة، فهناك الاقتباس الذي أقنعني أن العبث يوجد في كل الثقافات، وأن المسرح حلم عجيب بهذا العبث، ثم مرحلة التراث الشعبي الذي أعطيت فيه نصوصاً مسرحية كثيرة مثل “مقامات بديع الزمان الهمذاني” و”الامتاع والمؤانسة” و”أبو نواس” و”الفيل والسراويل” و”ولو كانت فولة” و”ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب”، وهناك مرحلة التعامل مع النصوص العربية المهمة، وهناك البساطات.
المهم أنني بهذا التراكم تخلصت مما كان يقوله النقاد عن مسرحنا العربي كون المسرح عندنا لا يزال فتياً، لقد أعطيت نصوصاً مستمدة من تراث عربي عمره أكثر من ألف سنة، وهي نصوص صارت مسرحيات من أعجب العجاب، فلننظر إلى تراث الجاحظ سنجده مسرحاً قائماً بذاته، ولننظر إلى كتب المتصوفين وكتابات بعض المؤرخين، سنجدها نصوصاً قديمة لكنها نصوص تصلح كي تكون أفقاً لمستقبل المسرح العربي.
> بعد التحولات التي يعرفها العالم هل يمكن أن نتحدث عن انقضاء زمن المسرح العالمي وزمن المسرح العربي؟
< نعيش اليوم مرحلة حرجة وصعبة مع مطلع الألفية الثالثة، مرحلة تهز كيان العالم والإنسان والثقافات والفنون، وهي مرحلة تحتم إعادة النظر في كل شيء حتى في المسرح، لأنه لا يمكن أن نمارس المسرح كما مارسناه ونمارسه إلى حد الآن. فالجمهور أصبح جمهوراً آخر، والتكنولوجيا تطورت بشكل مجنون، ونحن الآن محتاجون أكثر لمسرح آخر.
> ما هو هذا المسرح الآخر؟
< أنا لا أعرفه، ولكني أفكر في هذا الاتجاه.
> كيف ذلك؟
< يجب تشجيع العروض في الساحات العمومية، وفي الأسواق حتى يتمكن الناس من الإمتاع، وذلك بالبحث عن أشكال أخرى لا تعتمد على الكلمة المملة، بل تعتمد على الجديد في خطابات جديدة تكون ممتعة حتى يقبل بها الناس على المسرح. أدعو إلى التفكير في هذا، هناك دائماً أمل، وأنا دائماً متفائل.
العمل الجماعي
> هذا التفاؤل هو الذي جعلك في زمن التشتت العربي، تريد البحث عن هذه المتعة في الأعمال الجماعية التي جمعتك بثلة من المبدعين المسرحيين العرب. كيف كانت هذه التجربة؟
< هذا جزء من هذا التفاؤل، وجزء من مشروعي ـ طوال عمر تجربتي ـ في البحث عن هذه المتعة، لأني رأيت أن هذا التعامل لا بد منه، لأن المسرح المنغلق على نفسه لا يتطور، وبما أنه لا يتطور فإنه يصبح مملاً يبعث على السأم والقرف ولا يبعث على المتعة.
من هنا فالمسرح، والفنون والثقافة بصفة عامة، يجب أن تكون منفتحة على التجارب والمدارس التي تدعو إلى الحوار والتفاعل والتطور لتكون قريبة من الناس، وهو ما جعلني أمثل كل مسرحياتي باللغة العربية الفصحى حتى أمثلها في المغرب وفي بيروت وعمان والخليج العربي والقاهرة وفي كل جغرافية عربية تريد التواصل مع ذاتها بفنونها ومسرحها.
بهذه الرؤية أخرجت مسرحية “رسالة الغفران” للكاتب التونسي عز الدين المدني وأخرجت مسرحية “النقشة” لأحمد اكومي من الجزائر، وأخرجت مسرحية “الفيل والسراويل” لمسرح بيت الكرمة من فلسطين، وأخرجت مسرحية “ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ” مع فرقة “الممثلون العرب” مع الفنانة نضال الأشقر، إضافة إلى تعاملي مع الفنان التونسي سمير العيادي، ورجاء فرحات، وشريف خزندار، الفريد فرج وكرم مطاوع. إنني في كل صلاتي مع هؤلاء وغيرهم صرت أؤمن من أنه صار من الضروري ـ بل أكثر من ضروري وأساسي ـ التبادل والحوار، لكن خسارة كبيرة ما تقع في الوطن العربي في الجزائر، وفي المشرق العربي.
> كيف عشت تجربتك المسرحية مع النقد والنقاد؟
< العلاقة دائماً بين بعض المبدعين والنقاد تنرفز، ورجل المسرح لا يعيش بدون نقد، هو دائماً في حاجة لمن يقرأ إبداعه، ويحكم عليه، بعد التحليل والتفكيك والقراءة المتأنية، والنقد الرديء في نظري هو النقد الذي لا يخرج من السر إلى العلن، هو النقد الذي لا يخرج من الصمت، لأن الصمت والسكوت على عمل إبداعي هو قتل الإبداع، والنقد الذي لا يكتب في منابر لها مصداقيتها، ويكتب في جريدة أو مجلة لها إشعاعها فإنه يكتب سراً في السر، ويكتب ما هو سري، وهو ما عانيت منه كثيراً كما عانى منه كثير من المبدعين المسرحيين العرب.