قدمت الولايات المتحدة الأمريكية لهيئة الأمم المتحدة رسميا، يوم الجمعة الماضي، طلبها بالانسحاب من اتفاقية باريس حول المناخ، لتضع حدا للجدل الذي رافق هذا الموضوع منذ إعلان ترامب عن قراره هذا في يونيو الماضي.
وبهذا يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد فضل الوفاء بوعوده الانتخابية والبقاء منسجما مع قناعاته الاقتصادية، وذلك على الرغم من الجهود التي بذلها العديد من قادة الدول، طوال الأسابيع الماضية التي تلت إعلان قرار الانسحاب، من أجل إقناعه بالعدول عن هذا القرار؛ وعلى الرغم أيضا من العزلة التي سيسببها هذا الانسحاب للولايات المتحدة الأمريكية، ثاني أكبر الدول الملوثة في العالم بعد الصين.
ولعل وعي ترامب بتبعات قراره هو ما جعل موقفه يبدو متذبذبا خلال الفترة الماضية، قبل أن يقدم وثيقة الانسحاب الرسمية للأمم المتحدة. بل إنه حتى في هذه الوثيقة ترك الباب مواربا أمام إعادة الانضمام للاتفاقية إذا “تحسنت الشروط بالنسبة للولايات المتحدة”، التي ستواصل، حسب الوثيقة، المشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة لتغير المناخ خلال السنوات الثلاث القادمة، وهي المدة التي من المقرر أن تستغرقها عملية دخول قرار الانسحاب حيز التنفيذ في سنة 2020.
وأضافت الوثيقة إن “الولايات المتحدة تؤيد انتهاج موقف متوازن بشأن سياسة المناخ، من شأنه الحد من الانبعاثات في الوقت الذي يشجع فيه النمو الاقتصادي ويكفل أمن الطاقة”.
وكان ترامب قد برر قرار الانسحاب، في يونيو الماضي، بأن هذه الاتفاقية “ستكلف أمريكا تريليونات الدولارات وستقضي على وظائف وتعرقل صناعات النفط والغاز والفحم والصناعات التحويلية”.
وأثار قراره منذ تلك اللحظة جدلا واسعا واستنكارا من زعماء العالم، خاصة أنه جاء ليحدث شرخا كبيرا في الإجماع العالمي حول الاتفاق الذي وقعت عليه لحد الآن قرابة 200 دولة. كما حاول ثني ترامب عدد من قادة الدول على رأسهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي بدا واثقا من إقناع الرئيس الأمريكي بالعدول عن موقفه عندما أخبره هذا الأخير، خلال زيارته مؤخرا لباريس، أن “شيئا ما قد يحدث فيما يتعلق باتفاق باريس، دعونا نرى ما سيحدث”.
لكن ما حدث فعلاهو أن الرئيس الأمريكي فضل الثبات على موقفه الذي عبر عنه منذ حملته الانتخابية، حين وصف الاتفاق “بالخديعة”، متجاهلا ما سيسببه بقراره من خيبة عالمية كبيرة جراء هذه الخطوة التي جاءت لتسدد ضربة موجعة لاتفاق باريس، وتراجعا كبيرا للجهود الدولية الرامية إلى مكافحة تغير المناخ، خاصة أنها ستشكل عبئا إضافيا على أطراف الاتفاقية بما أن الانسحاب يعني أيضا تراجع الولايات المتحدة عن وعودها بتقديم مساهمتها في الخفض من الانبعاثات، وكذا مساهمتها في تمويل برنامج الطاقة النظيفة بما لا يقل عن أربعة ملايين دولار، فضلا عن 2 مليون إضافية تدفعها طوعيا في نفس الإطار.
وفي نفس الوقت، من المتوقع أن تحكم هذه الخطوة على ترامب بعزلة كبيرة وتجر عليه معارضة شديدة، داخلية وخارجية، علما أن الموقع الاقتصادي للولايات المتحدة، وكذا موقعها المتقدم في مراتب الاقتصادات المضرة بالمناخ، كانا يؤهلانها لموقع الريادة في قيادة عملية تمويل الاتفاق وتطبيقه، وهو الموقع الذي أضحت تنافسها عليه دول واقتصادات أخرى كالصين والهند وألمانيا وفرنسا.
نفس الأمر بالنسبة لداخل الولايات المتحدة، بما أن هناك جبهة واسعة من المسؤولين المنتخبين ولوبيات كبرى في قطاع المال والأعمال، فضلا عن جماعات الضغط المنتمية إلى المجتمع المدني، كانت قد أعلنت في وقت سابق معارضتها للانسحاب من الاتفاق، وأكدت عزمها على التصدي لقرار ترامب وتصميمها على مواصلة جهود مكافحة التغير المناخي.
لكن ترامب، المعروف بأنه رجل اقتصاد، قبل أن يكون رجل سياسة وأخلاق، رفض أن يلعب دور “القائد ذي الأخلاق الطيبة والنوايا الحسنة” في تنفيذ اتفاق باريس، مرجحا المصالح الاقتصادية والمالية لبلاده على “المصلحة العليا لكوكب الأرض”، ومفضلا توفير المبالغ المالية التي كان سيضطر إلى دفعها لنيل “شرف” قيادة الاتفاق. كما أنه يبقى منسجما مع قناعته بتشجيع الوقود الأحفوري والفحم الحجري كمورد، وكَحَلّ، أكثر سهولة ووفرة.
وإذا كان القرار السياسي الأمريكي بالانسحاب من اتفاق سياسي واقتصادي عالمي يبدو مناقضا لتوجهات السياسة الدولية التي أقرت بحقيقة التغير المناخي وتعهدت بالمضي في مكافحته “بغير رجعة”؛ إلا أنه (القرار) يبقى، في ذات الوقت، منسجما في عمقه مع سياسة العملاق الأمريكي الذي كان دوما يرجح مصلحته الآنية على أية مصالح أخرى. هذا مع العلم أن الولايات المتحدة تواجه منذ مدة طويلة بإمكانياتها الذاتية الآثار المدمرة للتغير المناخي، وربما هي مطمئنة لقدرتها على مواصلة هذه المعركة وحيدة لتترك الباقين يواجهون أيضا مصيرهم المجهول لوحدهم، بمنطق “أنا ومن بعدي الطوفان”. ولا غرابة أن يفتح القرار الأمريكي المجال واسعا أمام كثير من الشكوك والتوجس من أن يكون ذلك بداية لعودة اتفاق باريس إلى نقطة الانطلاق، متأرجحا بين مصالح وتوازنات السياسة الدولية.
سميرة الشناوي