الفنان عبد الله الحريري: استعارة المتعدد

>  بقلم: حسن نجمي

يمكن لبعض الأعمال الفنية أن تعرض مرارا، في مراحل مختلفة وفي أروقة وقاعات عرض متعددة، فتحقق بذلك إمكانيات إضافية للقراءة الجديدة ولإعادة بناء المعنى. أكثر من ذلك، يصبح لها تاريخ من تراكم الحضور والوجود المتعدد.
ولعل ذلك ما فكر فيه تحديدا عبد الله الحريري وهو يقترح (أو يستجيب لاقتراح أو لنداء عميق)، فهو يدرك أن العمل الفني الجيد، الطليعي، الممتلئ بالمعنى كلما عرض أكثر، هنا أو هناك، وكلما انتقل من سياق إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، كلما قرئ أو قرئ من جديد وفق المنظور المتغير للأحوال التاريخية والسياسية والثقافية، واستجابة للتحولات النظرية والمعرفية والجمالية الجديدة، وتحولات الجمهور المهتم وآليات التلقي.
العمل الفني، كما نعرف، يغتني دائما بالسياقات والظروف التي تحيط به.
والظروف لا تتوقف عن التغير.
وهكذا، فيما يظل العمل هو نفْسه – من حيث المعطيات الفيزيقية، الطول والعرض والحجم والمظهر والشكل والمادة … –  فإن هويته مع ذلك تتغير بتغير السياق والظرف والقارئ.
العمل الفني كائن حي، فهو لا يبقى كما وُلِد وكما كان في بدايات خروجه الأولى إلى أول معرض، وإلى أول جمهور. إن له هوية منفتحة تواصل التفاعل والاغتناء والتعارف وبناء الصداقات والعلاقات الجديدة، واستيعاب الخبرات والمعارف والقراءات المختلفة. بمعنى، أن العمل الفني لا يكتفي بالمعطيات الخاصة الموجودة في بطاقة تعريفه الشخصية، في بطاقته الوطنية أو في جواز سفره، وإنما يكتسب عناصر تعريف جديدة كلما حل ببلد آخر أو تنقل عبر الجغرافيات والثقافات والحضارات أو انخرط في الحوارات والسجالات المفتوحة.
هذا معنى أن يقول ناقد فني وخبير عالمي في تنظيم المعارض التشكيلية، روبير نيكاس، “إن كل محاولة (جديدة) للوصف تعدل العمل الفني”*، أي تمنحه إضافة دلالية لم تكن فيه من قبل أو لم يوفرها من قبل للقراء والمشاهدين السابقين. ومن ثم فكل دخول جديد إلى العمل الفني، كل اختراق مختلف له لابد أن يضفي عليه المزيد من التعديلات الدلالية. وبالتالي، ندرك اليوم لماذا وكيف اصطدم الفنان عبد الله الحريري- حين عاد من إيطاليا في منتصف سنوات 70 وعرض متتالية أعماله السوداء – بمحيط نظري ونقدي وإعلامي فقير جماليا، فوجد نفسه أعزل في خياره الطليعي والفني والثقافي.
كان الجمهور آنذاك “ثوريا” على المستوى السياسي والإديولوجي، “محافظا” على المستوى الثقافي والفني، وكان الحريري يدشن دخوله الحقيقي في الحياة التشكيلية المغربية مسلحا بتكوين جمالي وتقني وتربية بصرية رصينة، مدفوعا بغريزة الحرية والإبداع والمغامرة.

**********
في سنة 1965، كان عبد الله الحريري ضمن مجموعة طلبة مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء الذين كان لهم الحظ أن عاشوا تجربة “مدرسة الدار البيضاء” بمعناها الثقافي والبيداغوجي والجمالي والتقني، يوم كان مدير المدرسة المرحوم فريد بلكاهية، وإلى جانبه نخبة من كبار الفنانين والمؤطرين من أمثال محمد المليحي، محمد شبعة، السيدة نعمة الله بوجيبار، طوني مارايني، بيرت فلينت. ثم فاز الحريري سنة 1969 بجائزة وزارة الشبيبة والرياضة وسافر إلى مدينة أفينيون الفرنسية، في أول توجه له إلى الخارج، ساعيا إلى المزيد من التكوين في مجالات الديكور والسينوغرافيا. ومن هناك، إلى باريس لتلقي دروس في فن الغرافيك والتردد على محترفات بعض الفنانين الفرنسيين قصد التمكن أكثر من الرسم والصباغة.
وعاد إلى المغرب حيث تعاون مع الفنان الراحل محمد شعبة في مجالات الهندسة الداخلية والتصميم والإنجاز الفني. كما أغنى رصيده بمشاركات متعددة في أعمال مطبعية وفي كتابة اللافتات وإنجاز الملصقات وأغلفة الكتب والعلامات التجارية. وفي لحظة ما، آثر أن يسافر إلى إيطاليا، ليكتشف أفقا رحبا من العمل الفني والحضور الجمالي في الأروقة وفي الفضاءات العامة. دروس فنية وإبداعية يومية لم تكن تتوقف، وارتواء لا نهائي بالألوان والأشكال والأحجام والمشاهد والأصوات والروائح والإيقاعات، وتعارف واسع مع فنانين إيطاليين كبار بل وكان له الحظ أيضا أن يلتقي هناك بعض عباقرة الفن في العالم من أمثال المخرج فيلليني، والسينمائي والشاعر بيير باولو بازوليني، والمصور مان راي، فضلا عن علاقاته المباشرة مع الفنانة كارلا أكاردي والفنانين كابو غروسي، ألبيرطو بوري، فاجولو، فلبيرطو مينا والنقاد الفني الكبير بونيتو ليبا وغيرهم.
سيقضي الحريري ستة أشهر في بُّولونيا، في مدينة لودز (Lodz)، سنة 1980، حيث عمق خبرته في تقنيات الطباعة والحفر (الليطوغرافيا، السيريغرافيا). كما نظم معرضا لأعماله هناك حظي باهتمام لافت وبتنويه خاص من عميد المعهد العالي للفنون الجميلة.

************
علينا أن نذكر بالخصوص لحظة أساسية في مسار الحريري، فحين عاد الحريري من روما، فاجأ الجميع بمعرضه الطليعي، ذلك المعرض الذي قدم فيه مربعاته السوداء الفاتنة (التي نراها اليوم من جديد في هذا الرواق الجميل). يومها، تفكه بعض الحضور بالقول “إن الحريري عاد من جديد إلى لوح التعلم l’ardoise”، قبل أن يلتحق به فنانون آخرون مُجَرَّبين أنفسهم هم أيضا مع السواد.
آنذاك، واساه الراحل ميلود لبيض بطيبوبته النادرة وحسه الذي كان مفتوحا على المستقبل، ورفع من معنوياته فنانان مرهفان (أحدهما ناقد فني) هما حسن السلاوي وخليل لمرابط. وحدهما من عبرا وقتئذ عن فهم متقدم لرهان هذه التجربة وإدراك للأفق الذي فتحته في مسار العمل التشكيلي في المغرب.
والواقع أن فكرة إنجاز أعمال سوداء كانت حاضرة في ذهن الفنان التشكيلي الشاب، أثناء متابعته دروس مدرسة الفنون الجميلة في الدار البيضاء. وهو يذكر كيف اشتغلوا على امتداد ستة أشهر على الأسود وحده، وذلك لإدراك وفهم القيمة الجمالية والإيقاعية والتوازنية لهذا اللون ولحضوره ككتلة في الفضاء. بمعنى، انبثقت الفكرة في الدار البيضاء، ثم تطورت ونضجت أثناء المرحلة الإيطالية.
في كل الأحوال، علينا ألا نختزل مسار الحريري في التجربة الحروفية وحدها، فهو ليس خطاطا. إنه أكثر رحابة وتجريبا وممارسة وتنوعا في خياراته واقتراحاته وأساليبه وتقنياته، حتى وإن تميز على الدوام بنزوعه نحو أداء فني متقلل (Minimaliste).
ومع أن هذا المعرض يحتفي أساسا بأعمال سنوات “المنفى الفني الاختياري” في فرنسا وإيطاليا وبولونيا، وهو ليس معرضا استعاديا لمسار الحريري كما هو واضح، فإنه معرض يجدد العين المغربية، ويجدد الأسئلة والقراءة، ويعيدنا إلى المربع الأول ضمن سياق جديد، وفي إطار ثقافي ونظري جديد، وبتقديم جديد سهرت عليه صديقتنا منى الحساني وهيأته بعناية في رواقها الأنيق la porte في الدار البيضاء).
آمل أن نقف أمام هذه الأعمال في ولادتها الجديدة بذاتية متجددة وبوعي مختلف قادر على اختراع المعنى، وفتح الأفق، وتسمية الحريري تسميات أخرى.
الرباط، 26 يناير 2016

Robert Nickas : « Toute tentative de description modifie l’œuvre » *
*كلمة خص بها الكاتب المعرض التشكيلي للفنان عبد الله الحريري المقام حاليا تحت عنوان “في حاضرة الأسود” برواق “فيلا دو لابورت” بمدينة الدار البيضاء..

Related posts

Top