المخرج السينمائي المغربي رشيد قاسمي: فيلم “أصداء الصحراء” كان تمرينا صعبا بالنسبة لي

رشيد قاسمي (50 سنة) سينفيلي وجمعوي ومخرج وثائقي قادم من رحم حركة الأندية السينمائية بالمغرب، راكم تجربة معتبرة على مستوى التنشيط السينمائي داخل نادي الرائد بالرباط (قاعة الفن السابع) من 1995 إلى 2005، وأخرج مجموعة من الأفلام الوثائقية منذ سنة 2003 نذكر منها على سبيل المثال العناوين التالية: “أصداء الصحراء” (2018)، “العدو الخفي” (2016)، “خيول الحظ” (2015)، “آذان في مالطا” (2013)، “غوري جزيرة العبيد” (2009)، “سنغور الرئيس الشاعر” (2009)، “أمهات عازبات” (2007)، “المايسترو الصغير” (2005)، “أحلام الغرفة المظلمة” (2003).
هو خريج المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، حاصل على دبلوم الدراسات العليا في التدبير الثقافي (تخصص: سينما) من كلية الآداب بالمحمدية ويحضر أطروحة دكتوراه في موضوع “الأدب والسينما الوثائقية” بكلية الآداب ببني ملال.
يدرس حاليا مادة “السينما الوثائقية” بالمعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما بالرباط ومعاهد أخرى.
فيما يلي حوار معه حول فيلمه الوثائقي “أصداء الصحراء” بمناسبة عرضه إلكترونيا من طرف المركز السينمائي المغربي من 22 إلى 29 شتنبر 2020.

> كيف جاءتك فكرة الاشتغال على جانب من الموروث الموسيقي والغنائي الحساني في فيلم «أصداء الصحراء»؟
< فكرة الشريط في البداية كانت عن مسار صديقي الموسيقي «سعيد تشيتي» وكان التصوير سيقتصر فقط على هنغاريا، إلا أنه مع مرور الوقت وتوالي اتصالاتي وحديثي المتكرر مع «سعيد»، الذي كان آنذاك يبحث بالفعل عن أفكار موسيقية جديدة، جاءت فكرة السفر الموسيقي إلى مسقط رأسه مدينة كلميم وتطورت هذه الفكرة لتشمل الرحلة مدن العيون والداخلة.
أما مدينة محاميد الغزلان فتم التصوير بها ونحن في بداية مرحلة المونتاج، حيث تلقينا دعوة من إدارة مهرجانها الدولي للرحل.. وجدت هذا الاقتراح مفيدا للفيلم، خصوصا وأن سعيد له ارتباط وثيق بالصحراء من خلال أنغام أغانيه. ولعل هذا ما جعلني أفكر في الموسيقى الحسانية ومساءلة موروثها الثري.

> ساهمت رفقة السينفيلي الدكتور إبراهيم إغلان في كتابة سيناريو الفيلم، هل هناك خصوصية في كتابة الوثائقي بالمقارنة مع الروائي؟ وما هي في نظرك الحدود الفاصلة بين هذين البعدين في العمل السينمائي؟
< التحق بي الصديق ابراهيم إغلان أثناء كتابة السيناريو، خصوصا بعد بلورة الفكرة العامة وتحديد معالم شخصيات، وقد كنت في حاجة إلى طرف آخر يقترح أفكارا غير مستهلكة في السينما الوثائقية ويصحح وينتقد الأفكار التي أقترحها.. وأعتقد بأن الصديق إغلان قد قام بهذا الدور على أكمل وجه. لكن أثناء التصوير تغيرت أشياء كثيرة: هناك شخصيات مرضت وتعذر عليها التصوير وأخرى سافرت إلى خارج المغرب بعيد التصوير، وكان علينا كفريق إنتاج البحث عن حلول.. ونتيجة لذلك فإن النسخة المصورة من الفيلم ليست هي المكتوبة على الورق في السيناريو.
يمكن القول بصفة عامة أن صناع الفيلم الوثائقي مرنون اتجاه ما يكتبون من سيناريوهات معدة سلفا للتصوير، فهم يعرفون بأن الأمور يمكنها أن تتغير في أي لحظة، وذلك لأننا نتعامل مع شخصيات واقعية ولسنا أمام ممثلين يؤدون أدوارهم بمقابل مادي، وحينها يكون صانع الفيلم الوثائقي مضطرا لإيجاد حلول واقعية وبسرعة.
تتجلى إذن خصوصية كتابة الفيلم الوثائقي في إمكانية تغيير كل شيء في أي وقت ممكن، عكس الكتابة الروائية التي تعتمد على الدقة في كتابة المشاهد وسهر الجميع على تنفيذ ما هو مسطر على الورق. وهكذا فتصوير الفيلم الوثائقي يخضع للحظة ولا يخلو من مفاجآت، وغالبا ما نجد بعض صناع هذا الجنس من الأفلام يقدمون فقط نواياهم الإخراجية ورؤيتهم لمعالجة مواضيع أفلامهم وليس سيناريوهات مفصلة تتضمن مشاهد مرقمة وتوجيهات إخراجية.

> راكمت تجربة معتبرة مع قناة «الجزيرة الوثائقية» على مستوى إخراج الأفلام التلفزيونية، وفيلمك هذا ساهمت في إنتاجه القناة التلفزيونية المغربية الثانية «دوزيم» إلى جانب صندوق دعم الإنتاج السينمائي الوطني (التسبيق على المداخيل)، بماذا يتميز الوثائقي السينمائي عن نظيره التلفزيوني في رأيك؟
< أنجزت عدة أفلام وثائقية تلفزيونية لفائدة قناة «الجزيرة الوثائقية» وشكل ذلك بالنسبة لي تجربة مفيدة جدا، اكتسبت من خلالها مهارات وتقنيات صناعة الفيلم الوثائقي. وكانت هذه التجربة التلفزيونية بمثابة مرحلة أساسية جعلتني أصل إلى إنجاز فيلم «أصداء الصحراء».
لقد استفاد هذا الفيلم فعلا من دعم المركز السينمائي المغربي في شكل تسبيق على المداخيل، كما أن مساهمة القناة الثانية في إنتاجه كانت أساسية بحيث تمكن جمهور واسع من مشاهدته عندما بثته هذه القناة المغربية في وقت الذروة.
فلا يخفى على المتتبعين أن أول زبون للفيلم الوثائقي هو التلفزيون. وبالتالي فإن القنوات التلفزيونية ستبحث دوما على مشاريع وثائقية، كما أن صناع الفيلم الوثائقي بدورهم سيلجؤون للقنوات التلفزيونية من أجل التمويل والبث. وهذا يعني أن هناك ارتباطا تاريخيا بين الوثائقي والتلفزيون. فهذا الأخير له مرجعياته فيما يخص قبول الأفلام الوثائقية. ومن بين العوامل المحددة للفيلم الوثائقي الموجه للتلفزيون نذكر على سبيل المثال: الموضوع وطريقة السرد والشخصية الرئيسية…
لاحظنا في السنوات الأخيرة مجموعة من الأفلام الوثائقية التي توزع مباشرة في قاعات السينما وتجد لها مكانا في شبكة التوزيع التجاري بالشاشات الكبرى. وأعتقد بأن المهرجانات السينمائية المتخصصة في الوثائقي لها دور أساسي في هذا، بحيث أصبحت بعض الأفلام الوثائقية تنافس بقوة الأفلام الروائية. وكمثال على ذلك حصول فيلم «11 شتنبر» لمايكل مور على السعفة الذهبية من مهرجان «كان» الدولي الشهير، وتتويج فيلم «نبض الأبطال» لهند بن صاري بالجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة سنة 2019. زد على ذلك ما لاحظناه مؤخرا من تطور ملفت للنظر فيما يخص السينما الوثائقية بالمغرب رغم قلة الإنتاجات من الناحية الكمية.

> الفنان سعيد تشيتي هو الدينامو المحرك لأحداث الفيلم، فتشبثه بهويته الثقافية المغربية الصحراوية الحسانية وانفتاحه على الموسيقى العالمية جعلاه يقتنع بضرورة توثيق التراث الغنائي والموسيقي المحلي عبر تطويره وتلقيحه بآلات ونغمات غربية ليكتسي حلة عصرية ويصبح قابلا للترويج داخل المغرب وخارجه، وذلك ما يضمن بقاءه واستمراريته.. كيف التقيت بهذا الفنان الكلميمي المقيم ببودابيست وتجاوبت معه؟ وهل يمكن اعتبار الفيلم نوعا من البورتريه لنموذج من مغاربة العالم، وهو سعيد ابن الصحراء، الذي نجح في شق طريقه بالمهجر في مجال فن الموسيقى؟
< تجمعني علاقة صداقة بالشخصية الرئيسية «سعيد تشيتي»، فقد تشاركنا السكن الطلابي عندما كنا معا بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط سنوات التسعينيات من القرن الماضي. بعد تخرجنا سافر تشيتي إلى فرنسا لمتابعة دراسته وبعدها التقى بزوجته الهنغارية التي سافر رفقتها إلى بودابست واستقر هناك.
احترافه للموسيقى لم يفاجئني كثيرا وقتها، لأنه كان دوما ونحن طلبة مرتبطا بهذا الفن.. فآلة العود كانت لا تفارقه.. لكن الذي فاجئني هو المنحى الإحترافي الذي سلكه تشيتي حين اختار الموسيقى كمهنة لوقت كامل.
حاولت منذ البداية ألا أنجز فيلما يكون عبارة عن بورتريه لسعيد تشيتي، لهذا أدمجت بعض أعضاء فرقته في الرحلة. لكن قوة شخصية سعيد وحضوره الوازن داخل المشاهد المصورة جعل الفيلم يبدو وكأنه بورتريه متمحور على شخصيته ومساره. طبعا، الذي أثارني فيه هو ارتباطه بمسقط رأسه مدينة كلميم، حيث كان دائم الحديث عنها وعن أصدقاء طفولته وأفراد عائلته.
من هنا جاءتني فكرة العودة إلى مسقط الرأس، خاصة عندما زرناه ببودابست ولاحظنا مدى تشبثه بالوطن من خلال الصور وأدوات المطبخ واللباس وغير ذلك.. لكن يبقى، في نظري، أهم إنجاز قام به سعيد هو إقناعه لمجموعة من الموسيقيين الهنغاريين المحترفين بمشروعه الموسيقي. فقد أسس فرقة «شلبان» منذ البداية وانخرط معه فيها أجود الموسيقيين الهنغاريين. وهذا يدل على أن شخصية سعيد شخصية كارزمية وجاذبة.

> إيقاع الفيلم متوازن نسبيا، ومكوناته من صور وأصوات متناغمة فيما بينها، بحيث لا يمل المتلقي وهو يتابع مختلف اللقطات والمشاهد ويستمع إلى نغمات وإيقاعات مجموعة «شلبان» والمجموعة المختلطة بكلميم والعيون والداخلة ومحاميد الغزلان، هل يمكن اعتبار هذا الفيلم بمثابة احتفاء سينمائي بجانب من تراثنا الموسيقي/الغنائي الثري ودعوة إلى تطويره؟
– «أصداء الصحراء» كان تمرينا صعبا بالنسبة لي. كان السؤال المطروح هو: كيف يمكنني أن أصور شخصيات عديدة وأغاني وتداريب موسيقية تعاد عدة مرات بكاميرا واحدة؟
< ولعل هذا ما يدفعنا للحديث عن إيقاع الفيلم، فعملية المونتاج أخذت وقتا طويلا، لأننا كنا نبحث عن كل زوايا المشهد ليبدو الأمر متوازنا. المادة المصورة كانت كثيرة، الشيء الذي عقد عمليات ما بعد الإنتاج. لهذا تعلمت الكثير من هذه التجربة، خصوصا على المستوى التقني.
فيلم «أصداء الصحراء» هو احتفاء بالتراث الموسيقي الصحراوي، لأن الموسيقى الحسانية غنية بأنغامها وشعرها. لكن، علينا تطويرها لتخرج إلى العالمية، كما يقول سعيد في الفيلم. إلا أنه يبدو أن أهل الموسيقى بالصحراء ليسوا مستعدين الآن لخلخلة بعض الأشياء الراسخة وتجريب دروب موسيقية أخرى واستلهام أنغام مجاورة لتحقيق متعة التلقي العالمية.

> يمكن إدراج الوثائقي «أصداء الصحراء» في خانة «أفلام الطريق» (road movie)، فقد تتبعنا رحلة الموسيقيين الثلاث سعيد ودفيد وجانوس من المجر (بودابيست) إلى المغرب (كلميم، العيون، الداخلة، محاميد الغزلان…) واستمتعنا بجمالية فضاءات الصحراء المتنوعة، سواء داخل المدن المذكورة أو خارجها، ما هي طبيعة المشاكل التي واجهتكم أثناء التصوير؟ وإلى أي حد يمكن لهذا النوع من الأفلام أن يساهم في الترويج السياحي لمناطقنا الصحراوية؟
< منذ الفكرة الأولى كنا واعين بأننا سننجز فيلما عبر الطريق من خلال موسيقى وثلاث شخصيات تتنقل من مدينة لأخرى.. معاينتنا للفضاءات قبل التصوير مكنتنا من تحديد الأماكن التي صورناها بدقة.. اخترناها لنبين غنى وجمال الطبيعة التي تتغير وتتنوع من الشمال نحو الجنوب المغربي، من الجبال إلى الشواطئ والسهول وصولا إلى الصحراء بعمقها ورمالها وجمالها ورجالاتها.. لقد استمتعت كثيرا وأنا أصور هذا الفيلم، الذي شكل رحلة موسيقية عبر الزمن والأمكنة.. أعتقد أننا في حاجة إلى هذا النوع من الأفلام للتعريف بجمال بلدنا بطريقة غير مباشرة، فالصحراء بها مناطق عديدة يمكنها أن تصبح قبلة سياحية بامتياز.. مدينة الداخلة حاليا تعتبر نموذجا للتطور السياحي في مناطقنا الصحراوية الجنوبية، ومن الضروري تطوير السياحة الثقافية جنبا إلى جنب مع الأنشطة البحرية الشاطئية وغيرها.

> عرض هذا الفيلم في مهرجانات مختلفة وحصل على جوائز، ماذا تعنيه الجوائز بالنسبة لك كمبدع فني؟
< عرض الفيلم بداية في مدن الصحراء، كالعيون والداخلة وكلميم، في إطار أنشطة مهرجانات سينمائية. كما شارك دوليا في المسابقة الرسمية لمهرجاني «سيغوفيا» بإسبانيا و «غوتبرغ» بالسويد. عرض أيضا بأسبوع الفيلم الفرنكوفوني باستنبول ممثلا المغرب. ومن بين أهم الجوائز التي حصل عليها نذكر: جائزة لجنة التحكيم بكل من المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة ومهرجان الفيلم الوثائقي بزاكورة.
لقد مكنت المهرجانات المتخصصة في الفيلم الوثائقي «أصداء الصحراء» من الوصول إلى جمهور عريض تابع الفيلم في قاعات سينمائية كبيرة، بما في ذلك القاعات المخصصة لعروض المهرجان الوطني للفيلم بطنجة سنة 2019.
الجوائز، بالنسبة لي، عبارة عن اعتراف بمجهودات العاملين في الفيلم. فهي تشكل دفعة لترويج الفيلم في منصات أخرى. لكنها تبقى نسبية، لأنها أحيانا لا تعطينا صورة محايدة عن قيمة الأعمال المتوجة. وأنا كصانع للفيلم الوثائقي لا أكثرت كثيرا بالجوائز، لأن ما يهمني أكثر هو أن يصل الفيلم لأكبر عدد ممكن من المشاهدين. الأهم إذن هو انتشار الفيلم ومشاهدته من طرف شرائح مختلفة وواسعة من الجمهور. لهذا فالفيلم الوثائقي بحاجة دوما للتلفزيون الذي يحقق له الانتشار الواسع.

> ما هي مشاريعك الحالية والمستقبلية بعد هذا الفيلم؟
< خلال شهر غشت 2020 أنهيت عمليات ما بعد الإنتاج لفيلم وثائقي بعنوان «جلوى» يتناول موضوع التربية التقليدية في المجتمع الصحراوي. وبالموازاة مع ذلك ما زلت أصور مشروع فيلم وثائقي كنت قد بدأته عام 2016، عن فرقة مسرحية، من خلال تداريب أعضائها ومسار كل واحد منهم في الحياة اليومية.

< ‎أجرى الحوار: أحمد سيجلماسي

Related posts

Top