رحل مؤخرا المخرج المسرحي الكبير يحيى بودلال، عن عمريناهز 69 سنة.
المرحوم بودلال هو ابن جهة الشرق التي أحبها بجنون وأعطاها فنه ومشاعره ومسرحه، وقد ساهم في تأسيس “فرقة المسرح العمالي” التي اشتهرت كإحدى أهم المدارس المسرحية على الساحة الوطنية قبل أن تقتحم غمار الحدود وتنقل فنها إلى خارج الوطن وتحصد الجوائز من مختلف الدول العربية. وتميزت هذه الفرقة التي ساهم المرحوم بودلال في تأسيسها، إلى جانب الكاتب المسرحي الراحل محمد مسكين، بنشاطها الدؤوب في سبعينيات القرن المنصرم، إلى جانب فرق وحركات مسرحية لا زالت تؤثث المشهد المسرحي الوطني بعطاءاتها.
من بين المسرحيات التي أخرجها المرحوم بودلال، نصوص خالدة تفتخر بها الساحة الفنية المغربية مثل “مملكة الشعراء”، و”مهرجان المهابيل” و”اصبر يا. “تراجيديا السيف الخشبي”أيوب”، وتتميز أعمال هذا المثقف الفذ بالعمق الفلسفي واستشعار الجماليات الحركية واللاحركية ومناجاة المشاعر والعواطف مع تحسين الحبكات التي تشد المتلقي وتخدم الرسالة الفنية للمسرح.
كان قد كتب عنه الناقد المسرحي الأستاذ مصطفى رمضاني، شهادة بعنوان ” صاحب الإبداع المرئي الذي يشغل كل الحواس”، نورد بهذه المناسبة الأليمة، مقتطفا منها:
في مجال الإخراج يحضر اسم يحيى بودلال رائد الإخراج النقدي الكاريكاتوري بالمغرب، وصاحبالإبداع المرئي الذي يشغل كل الحواس. وهوأيضاً من أذكى المخرجين المغاربة، وأكثرهمقدرة على تطويع النص ليصبح عالما من العلاماتالمتحولة. وهذا ما يفسر اعتماده الدائم علىالطريقة التركيبية في بناء العرض المسرحيابتداءً من الشخصية، مرورا بالديكور والمركبات ولوازم السينوغرافيا، وصولا إلى أصغر أكسسوار فوق الركح”.
وكتب عنه سفيان البالي وهو من المهتمين بالتجربة المسرحية ليحيى بودلال، أنه “ارتبط اسمه بالكاتب المسرحي محمد مسكين ، والاثنان ارتبط اسماهما بما يُعرف بـ”المسرح العُمّالي:
الأوّلُ مُخرجاً لنصوص يكتبها الثاني، وتتناول في مجملها هموم الطبقة العمّالية
اشتغل معلّماً للغة الفرنسية، قبل أن يترك التعليم إلى الفنّ الرابع، في فترةٍ شهد فيها المسرح المغربي أزهى مراحله؛ مرحلةٌ بدأت منذ الاستقلال نهاية الخمسينيّات واستمرّت إلى الثمانينيّات. كان المسرح في تلك الفترة قريباً من أوساط اليسار، يتبنّى مطالب الحركات العمّالية، انطلاقاً من الإيمان بتوظيف الفنّ والثقافة لـ “خدمة المجتمع”.
هكذا، قدّم بودلال عدداً من الأعمال التي تندرج ضمن “المسرح الملتزم”، والتي انحازت إلى القضايا العادلة أينما وُجدت.
من تلك المسرحيات، نذكر: “تراجيديا السيف الخشبي”، و”اصبر يا أيوب”، و”امرأة، قميص وزغاريد”، وكلّها من كتابة مسكين، وتُترجم تنظيراته للفنّ المسرحي في إطار ما أسماه “مدرسة النقد والشهادة”، والتي يُقدّم فيها رؤيته حول المسرح، معتبراً أن عليه أن يكون مطابقاً لذاته كفعل جمالي منبثق من وعي تاريخي، ومرتبطاً بواقعه ومعبّراً عن تناقضاته في صيغٍ جمالية، ومن جهةٍ ثالثة متجاوزاً هذا الواقع إلى فضاء متخيَّل هو مستودع النقد والسخرية، مُفسحاً المجال لاستشراف واقع جديد.
التحق بودلال بـ”جمعية المسرح العمّالي” سنة 1977، وهي السنة ذاتها التي انضمّ فيها مسكين إلى الجمعية مع أسماء مسرحية أُخرى شكّلت فرقةً استمرّت حتّى الثمانينيّات، وقد مثّل الرجلُ أحد ركائز تلك التجربة..
نالت تجربة بودلال ثناء العديد من النقّاد ومتابعي الشأن المسرحي في البلاد العربية، عبر عروضه التي شارك عددٌ منها في مهرجانات مسرحية في المغرب والجزائر وتونس وليبيا وسورية وغيرها، ونالت عدّة جوائز منها: “جائزة العمل المتكامل” عن مسرحية “عاشور” في “المهرجان الوطني لمسرح الهواة” بمرّاكش سنة 1979، و”أحسن تشخيص” عن “نيرون السفير المتجوّل” في دورته التالية، ثمّ جائزة العمل المتكامل في دورته الثانية والعشرين سنة 1980 عن “اصبر يا أيوب”.
رغم ذلك، ظلّ يحيى بودلال محشوراً، لأسباب بيروقراطية، في خانة “مسرح الهواة”… ذلك التقسيم الإداري الذي فرضته المؤسّسة الرسمية وأُريد له أن يكون مرادفاً لممارسة مسرحية “أقلّ قيمة”.
وقال عنه المسرحي خالد صلي، على إثر وفاته:
“يحيى بودلال لم يعد بيننا رحيل مبدع، رحيل فنان، رحيل مخرج مسرحي كبير بصم المسرح المغربي رحيل إنسان بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، رحيل رجل خلوق، كبير جدا بتواضعه، رحيل رجل محترم جدا
لا مجال للنفاق والبكاء على ميت عادي إنها حقيقة رجل لم يعد بيننا الآن، رحل جسده إلى دار البقاء، لكن روحه ستبقى ، إلى أن نلتقي يوما ما.
كرمنا الفقيد في أول دورة للمهرجان، حضر معنا بضع دورات، لكن ظروف مرضه حالت بأن يحضر دوراتنا الأخيرة عبرنا له عن حبنا وهو حي بيننا واليوم نؤكد ذلك الحب..”.
أما المخرج المسرحي والتلفزيوني إدريس الإدريسي، فناعه بالقول: “خبر مخزن رحيل مبدع مسرحي كبير يحيى بودلال اسم ارتبط مع الراحل محمد مسكين في تجربة مسرحية رائدة خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وقع الاثنان على اعمال مسرحية خالدة..”.