باتت عبارة المعارك الأدبية، تحسب على المهجور من العبارات، بالنظر إلى أنه لم يعد هناك ما يدعو إلى إثارتها.
لقد كانت قبل أربعة عقود تقريبا متداولة ورائجة في ساحتنا الثقافية، حيث أنه كانت هناك حركية على مستوى النقاش الدائر بين المثقفين والأدباء، بين المحافظين والتقدميين الحداثيين.. وكان هناك حماس للانخراط في النشر والسجال دفاعا عن هذه القضية أو تلك، هذا النهج أو ذاك، هذا التيار الأدبي أو ذاك، إلى آخره.
ومن يرجع إلى أرشيف الصحف الوطنية، على قلتها، التي كانت تصدر في ذلك الإبان، في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين على وجه الخصوص، ويقوم بعقد مقارنة بين المناخ الثقافي السائد حاليا، لا بد أن يبدي الأسف، خصوصا عندما يقارن بين المواضيع التي كانت تناقش في السابق وبين تلك التي يجري مناقشتها في وقتنا الراهن، مع تعدد وسائط النشر وتطور آلياتها، يا حسرة.
في ذلك الإبان، كانت حركة النقد مزدهرة، على مختلف المستويات، وكانت هناك قضايا يطول حولها النقاش في الصحف الوطنية، نقاش هادئ ورزين ومسؤول وراق، سواء على مستوى الأفكار أو على مستوى الأسلوب واللغة، أستحضر على سبيل المثال لا الحصر، الجدال الذي كان يدور حول قيمة الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، أو حول الشعر الحر أو حول استقلالية اتحاد كتاب المغرب… أستحضر أسماء كانت منخرطة في أتون هذا النقاش الذي كان يطلق عليه المعارك الأدبية، أسماء من قبيل أحمد المجاطي ومحمد بنيس وحسن الطريبق والطاهر بنجلون وعبد اللطيف اللعبي وغيرهم، ومجلات حارقة: أنفاس، الثقافة الجديدة، البديل، الزمن المغربي، أقلام.. وغيرها.
أين هذا المستوى من المعارك الأدبية، مما يجري حاليا على جدران الصفحات الاجتماعية، وفي أغلب المنابر الإعلامية الورقية والإلكترونية والمسموعة والمرئية؟ مع الإشارة إلى أن بعض هذه المنابر قد يخلو منها أي نقاش أو ما يشبه النقد، إنه الجمود والخواء.
ظلت تلك النقاشات والسجالات الجادة والقيمة متفرقة في الصحف والمجلات، ومنها ما لم تبرح فضاء هذا اللقاء الثقافي أو ذاك، لم يتم مع شديد الأسف تجميعها وإصدارها في كتب توثيقية من شأنها بلا شك أن تسلط الضوء على فترة هامة من تاريخ الحركة الثقافية ببلادنا.
ماذا عن وقتنا الراهن؟ هناك تدني ملحوظ؛ فعلى سبيل المثال، في مقابل فتح النقاش حول موضوع أدبي أو فكري معين، تجد هناك من بات منشغلا بأزرار بذلة زعيم سياسي ما، ويتساءل لماذا عقدها عن طريق الخطأ، وينخرط في تحليل هذا الوضع من منظور معين. أرأيتم إلى أين وصل النقاش بين مثقفينا وأدبائنا وطبيعة القضايا التي باتت تشغل تفكيرهم.
هناك منابر إعلامية، كانت إلى حدود زمنية قريبة، تولي اهتماما بالمجال الثقافي بمختلف تعابيره، وتفرد له حيزا معتبرا، غير أنها بدون سابق إنذار، قلصت مساحة الثقافة، لا بل أقصتها نهائيا من التبويب القار لخطها التحريري، واكتسحت ساحة النشر مجلات الموضة والطبخ وشؤون المرأة.
ما أحوجنا إلى إعادة الروح إلى النقاش والسجال الجاد والراقي والمسؤول، حتى لا نقول المعارك الأدبية، في ساحتنا الثقافية، بين مثقفينا وأدبائنا ومفكرينا، علما بأن العديد منهم قرر التوقف عن النشر والدخول في أي نقاش ذي صلة بالمجال الثقافي والفكري، باستثناء ما له ارتباط بالقضايا التافهة، من قبيل ما أشرنا إليه آنفا.
عبد العالي بركات