المعجم العربي ودوره في الـتعلم

تعدّ المُعجمية العربية من أخصب المعجميات في العالم، سواء على مستوى التأليف أو المنهج أو الترتيب أو المتن. وقد ظهرت الصناعة المعجمية بداية من خلال التأليف في غريب القرآن، وبعد ذلك تم جمع اللغة وتأليف كتب صغيرة حسب الموضوعات، ليعمد العرب أخيرا إلى صناعة معاجم عامة. ويضم المعجم عدة مداخل صوتية عبر شَكْل الكلمات أو تهجيتها أو تقديم صيغة الفعل المثالي، وصرفية انطلاقا من التركيز على الجمع والتذكير والتأنيث أو الحديث عن صحة الكلمة وإعلالها، وتركيبة من خلال إدراج تراكيب للفظ المشروح لربطه بسياقه الحي. بالإضافة إلى معلومات أخرى دلالية وثقافية وحضارية. ونجد المعاجم تقدم هذه المعلومات كافة مثل معجم لسان العرب لابن منظور أو الصّحاح للجوهري أو القاموس المحيط للفيروزآبادي، إذ تزوّد القارئ بكافة المعلومات المتعلقة بالمدخل المراد شرحه، بل إنها لا تكتفي بهذا وإنما تزوده بشواهد متعددة سواء أكانت من القرآن أم من السنة أم من الشعر والأمثال والحكم. وهذه المعلومات تعتبر بمثابة الأداة التعليمية التي تقوم بتوضيح سلوك الكلمة تركيبا ودلالة وأسلوبا في سياق حي. وهكذا فإن المعجم لا يكتفي بإيراد المعنى بإيجاز، بل يحاول أن يُجمع كافة المعطيات المتعلقة بالمدخل. ويعد معجم “لسان العرب” من أكبر المعاجم العربية وأغناها، وأكثرها انتشارا وأوسعها مادة وإن كان ابن منظور كما صرح في مقدمة “اللسان” قد جمع المادة من المعاجم التي سبقته إلا أنه يُحسب له ترتيب تلك المواد وتقديمها بطريقة ممنهجة. فقد رأى بأن بعض المعاجم أحسنت الجمع ولكنها أساءت الوضع، في حين أن أخرى قد أحسنت الجمع وأساءت الوضع. لذا حاول أن يضع معجما يتجاوز الأخطاء التي وقع فيها من سبقوه. وعليه فقد جاء “اللسان” مشتملا على الكثير من المعطيات وهو أشبه بموسوعة منه بمعجم. وقد تطور المعجم بعد ذلك تطورا ملحوظا، ولكن التأليف ظل مركزا لمدة طويلة على المعجم الأحادي (عربي ـ عربي) باستثناء معجم ألفه الزمخشري خصصه للعربية والفارسية. وقد ظهرت مجموعة من المعاجم الحديثة حاولت أن تستفيد من المخزون المعجمي الضخم، ومن هذه المعاجم نذكر “المعجم الوسيط” الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة، و”المعجم العربي الأساسي” الذي أصدرته المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، والمعجم العربي الحديث” الصادر عن مؤسسة لاروس.
ويعتبر المعجم أداة من أدوات الثقافة، فهو وسيلة فعالة لنقل المعرفة إذ لا يتوقف عند المعنى المباشر للمدخل، وإنما يحاول أن يستثمر معلومات ثقافية وحضارية تصور لنا حياة العرب وتظهر طريقة تفكيرهم. إن المعجم يحمل العالم في جوفه، والثقافة ما هي إلا جزء من هذا العالم، وعليه فإن المعجم لا يمكنه أن ينفصل عن الثقافة، لأن اللغة كائن لا وجود له إن لم يرتبط بجماعة بشرية معنية، ولأن اللغة أيضا ما هي إلا التجلي الفعلي لطريقة تفكير المجتمع. إن اللغة مرآة تصور لنا الواقع على شكل كلمات وتعابير وتراكيب. من هنا جاز لنا أن نقول بأن حدود رؤية الفرد تتمثل في حدود اللغة. وإذن فإن اللغة مؤسسة اجتماعية تحكمها قواعد وضوابط، ووظيفة المعجم تهدف إلى جمع هذه اللغة وترتيبها وتبويبها وجعلها في متناول القارئ. ويؤكد المعجميون دائما على أهمية أن يتضمن المعجم شواهد وأمثلة تمثل الثقافة الإسلامية، وتبرز الشخصية العربية، على اعتبار أن المعجم ما هو إلا منطق الأمة. أما إذا كان المعجم محشوّا بالخرافات والأساطير والتلفيقات فإنه يقدم صورة مشوّهة للثقافة، مما ينعكس سلبا على الفرد، لأنه يستضمر هذه الصورة المغلوطة وتظل هي المحرك الفعلي لطريقة تفكيره. ولهذا فإن المعجم بقدر ما يُشجع على امتلاك روح التنظيم والتفكير المنهجي، بقدر ما قد يؤدي إلى العكس ويبثّ في الفرد العشوائية والتفكير السطحي المبتذل.
إن المعجم إذن هو سيف ذو حدين. وتبعا لهذا الأمر وجب إعطاء أهمية بالغة للصناعة المعجمية التي لا تتأسس إلا من خلال علم المعجم، هذا الأخير الذي يقدم دراسة للألفاظ من ناحية اشتقاقها وأبنيتها وترادفها وتضادها. ويوظف الصانع المعجمي هذه العناصر لإنجاز معجم معين، وذلك وفق خطوات حددها الدكتور علي القاسمي في: جمع المعلومات والحقائق، واختيار المداخل وترتيبها طبقا لنظام معين، وكتابة المواد، ثم نشر النتاج النهائي.
وبالتالي فإن الصانع المعجمي إذا التزم بما يضعه علم المعجم من مبادئ نظرية، فإنه لا شك سيؤلف معجما يستجيب لحاجيات المتلقي من جهة، ويحترم منهجية الصناعة المعجمية ونظامها من جهة ثانية. أما إن كان هناك تأليف دون الالتزام بالخطوات فإننا سنجد أنفسنا أمام ركام من الكلمات لا منطق ولا ترتيب له.
إن المعجم هو أداة لترسيخ روح النظام والتفكير المنهجي والنقدي،  والصناعة المعجمية هي القادرة على إحياء التراث المعجمي أو دفنه، وذلك راجع إلى طبيعة المعلومات المقدمة ومصداقيتها وطريقتها في الترتيب ومنطق اشتغالها. وكلما كان المعجم مُعافيا ومُشرقا إلا وكانت الثقافة في أحسن أحوالها، باعتباره أداة تعليمية وتعلمية فعالة. غير أنه يلاحظ في المدرسة غياب رؤية استراتيجية لإغناء الرصيد المعجمي، وجعل المعجم وسيلة للتعلم وليس مجرد “حقيبة من الكلمات”. وللمعجم دور أساسي في تحقيق الكفاءة التواصلية واللغوية، وذلك من خلال ثلاثة عناصر أساسية:
ـ الكفاءة اللسانية: إذ يجعل المتعلم عالما باللغة من ناحية الصوت والصرف والتركيب والمعجم
ـ الكفاءة التداولية: إذ يربط المعجم بين المداخل وطريقة استعمال هذه الألفاظ ضمن السياق التداولي الذي تستعمل فيه الكلمة.
ـ الكفاءة الاستدلالية: وذلك من خلال تدريب المتعلم على التدليل والاستدلال والبرهنة.
وهذه العناصر تتكامل وتتداخل فيما بينها، وهي التي ينبغي للمتعلم أن يتوفر عليها كي يكون قادرا على التواصل والتعبير الفعال، ومن ثم تحقيق جودة التعلم والتعلم. ويلاحظ أن الكتاب المدرسي عادة ما يركز على الشرح بالمرادف فقط دون تقديم أي معلومات صوتية أو صرفية أو تركيبية أو ثقافية. وهذا ما ينعكس سلبا على كفاءة التلميذ اللغوية، ويجعله ينظر للمعجم بعين الريبة. لذا وجب على المعلم أولا القضاء على هذا النفور الذي يوجد عند التلميذ من المعجم، وجعله يقتنع بأن المعجم “معلّم حي”. كما يجب التفكير في إدماج وحدة المعجم ضمن مكونات الكتاب المدرسي، وقد يدرج ضمن باقي عناصر الدرس اللغوي الصرفية والنحوية، إذ بإمكانه أن يقدم معلومات معجمية منهجية، مثل: قواعد الترادف والتضاد والاشتراك اللفظي… كما يجب تأليف معاجم صغيرة تستجيب للحاجيات الفعلية للمتعلم وترتبط بمستواه التعليمي كما هو الحال في اللغات الأخرى كالفرنسية مثلا، إذ نجد فيها معاجم صغيرة تتوفر على رصيد معجمي وظيفي يتناسب وطبيعة الفئة المستهدفة.
وهكذا فالمعجم من أهم وسائل تحقيق الكفاية اللغوية للمتعلم، ولا نبالغ إذا قلنا بأنه من أهم الوسائل على الإطلاق، لأنه يضم جملة من المستويات اللغوية الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية. ويستثمر كل ذلك من أجل تقريب المعنى للقارئ، وجعله يستوعب معنى المدخل.
 إن مزايا المعجم لا يمكن أن تحصى، فهو كثير الفوائد، جم المحاسن، وهو مرآة لارتقاء المجتمع وليس عاكسا له فقط. فبقدر ما ينفتح على الماضي وعلى الثروة المعجمية للغة، بقدر ما ينفتح على المستقبل في نشر المعرفة وبث خصلة الصبر والبحث والتنقيب والجد والاجتهاد. ولعل هذا ما جعل ابن منظور في مقدمة معجمه “لسان العرب” يصرح بأن عمله يُشبه عمل نوح عليه السلام. فإذا كان هذا الأخير قد صنع سفينة النجاة، فإن ابن منظور بدوره ألف سفينة لنجاة الأمة العربية والوصول بها إلى برّ الأمان. وهذا الأمر يظهر لنا مدى وعي”ابن منظور” بأهمية المعجم وضرورته والمزايا التي يقدمها. بل إنه هو الذي يحافظ على اللغة ويضمن لها الحياة والاستمرار، لأن الرصيد المعجمي قابل للنسيان والاضمحلال في حين أن المعجم يظل محافظا على ألفاظ اللغة ومعانيها ولو مرت على ذلك عشرات القرون.
إن المعجم بهذا المعنى هو ذاكرة اللغة، وهو سجلها الفعلي. فهل تستطيع أيّ أمة أن تعيش بدون ذاكرة؟!

Related posts

Top