جدل سياسي انطلق في المغرب، حول المسافات الفاصلة بين الإسلام السياسي وإمارة المؤمنين، على خلفية تصريح لعبداللطيف وهبي، القيادي في حزب الأصالة والمعاصرة، اعتبر فيه أن الخطاب السياسي الإسلامي جزء من المشهد المغربي. تصريح تلقفه الإسلاميون بفرح مضمر ولاقى نقدا متعدد الوجهات، لكنه مثل قادحا مهما لطرح أسئلة فكرية وسياسية حول إمارة المؤمنين في المغرب ومدى اختلافها عن الإسلام السياسي.
أثير التشبيه بين الإسلام السياسي وإمارة المؤمنين في المغرب، خلال ندوة صحافية انتظمت، الخميس 23 يناير الماضي، أعلن فيها عبداللطيف وهبي ترشحه لمنصب الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة. قال وهبي خلال الندوة إن “الخطاب السياسي الإسلامي هو جزء من المشهد المغربي، أليست إمارة المؤمنين إسلاما سياسيا، وكذا وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية؟”. هذا الجزء من تصريحات وهبي أعلن بدء نقاش فكري وسياسي في المغرب.
تصريح وهبي أثار استهجانا ونقاشا داخل حزبه، الأصالة والمعاصرة الذي تأسس في العام 2008 من قبل فؤاد عالي الهمّة، ومن ذلك أن الأمين العام للحزب، حكيم بنشماس الذي رأى في تصريح وهبي “مدلولات خطيرة قد تترتب عنها استنتاجات تتحول بموجبها إمارة المؤمنين إلى خصم سياسي، وأن هذا القول القبيح، لا يخدم إلا مرامي من يتخذهم عبداللطيف وهبي أولياء له من قوى الإسلام السياسي”. وعزز بنشماس تصوره بأن “إدخال إمارة المؤمنين ضمن خانة الإسلام السياسي، أنزل مؤسسة إمارة المؤمنين إلى منزلة المتاجرين بالدين بحثا عن غنائم انتخابية، وهو ما يشكل علامة دامغة على جهل مطبق بمقومات النظام الدستوري وتبخيسا في منتهى السماجة لمؤسسة إمارة المؤمنين ولصلاحياتها الدستورية”.
وبصرف النظر عن الخلافات الداخلية التي أثارها التصريح، والتي وصلت حد الحديث عن تضاؤل حظوظ وهبي في الوصول للأمانة العامة للحزب، فإن الخطير في التصريح أنه تجاور بإشارات في الندوة نفسها، تذهب نفس المذهب في ما عده البعض “مغازلة” للإسلاميين، حين أشار إلى أن حزبه لم تعد تجمعه عداوة بحزب العدالة والتنمية.
في عمق الفكرة التي أثارها تصريح وهبي، بون شاسع يفصل بين الإسلام السياسي بوصفه خطابا سياسيا يتكئ على الدين ويوظفه خدمة لغايات سياسية، وبين إمارة المؤمنين في المغرب بوصفها مؤسسة سياسية تعتمد على الدستور وتمارس صلاحياتها السياسية بناء على قواعد سياسية واضحة وحديثة.
تضافرت عوامل تاريخية كثيرة للوصول إلى الشكل السياسي الراهن لـ”إمارة المؤمنين” في المغرب، وهو نظام سياسي يقوم على الملكية التنفيذية، التي تستمد مشروعيتها من مصادر كثيرة؛ تاريخية وسياسية ودينية، إلا أن المصدر الديني للمشروعية لا يحجب عنها صفات المدنية وهو ما يبعدها عن الاختلاف أو حتى التناقض مع حركات الإسلام السياسي. إمارة المؤمنين مصطلح يكتظ بالحمولة السياسية والدستورية أكثر مما يحمله من حمولات دينية.
جدير بالتذكير أن مصطلح الملكية التنفيذية يستمد مشروعيته من المرجعية الدستورية التي خلفها نظام حكم الملك الراحل الحسن الثاني بإصدار أول دستور للبلاد في 1962، والذي كرس المؤسسة الملكية وعدم تقييد سلطات الملك وصلاحياته. وكان وضع أول دستور للمغرب بعد الاستقلال يهدفُ إلى تمكين المؤسسة الملكية من أدوات عصرية تحل محل أو تعضد تلك التقليدية، بإضافة المشروعية الدستورية على مشروعيتها الدينية والتاريخية لتمكينها من بسط سيطرتها وإدامة واستقرار نظامها.
اختلاف آخر كبير بين الإسلام السياسي، بما في ذلك تفريعاته وتياراته في المغرب، وبين مؤسسة إمارة المؤمنين في المغرب، قوامه أن كل تيارات الإسلام السياسي (حتى وإن أعلنت عكس ذلك أو انخرطت في مسار سياسي مدني وديمقراطي) تسبق انتماءها العقائدي على انتماءها للدولة، وتعتبر أن الولاء للجماعة أهم وأسبق من الانتماء الوطني. وهي قناعات إسلامية مستمدة من المناهل الفكرية والأيديولوجية التي تستمد منها أدبياتها، سواء كانت من الإخوان المسلمين أو من التيارات السلفية أو التحرير فضلا بالطبع عن التيارات المتطرفة الأخرى من قبيل القاعدة وداعش.
تتحرك تيارات الإسلام السياسي من خارج الدولة، بل تحاول تقويضها بطرق شتى، من التمكين والاختراق وصولا إلى استهدافها بالعنف والإرهاب، وقد بينت وقائع التاريخ المعاصر أن حركات الإسلام السياسي استعملت آليات انقلابية أو عنفية للوصول إلى الحكم، لكن مع إكراهات الواقع السياسي والتيقن من عدم نجاعة الوسائل الانقلابية في الوصول إلى السلطة، تحولت بعض هذه الحركات بالتدريج إلى حركات سياسية تشارك في الانتخابات وتسلم بمقتضيات الديمقراطية، مع بقاء الكثير من التيارات الإسلامية المتطرفة خارج هذا المدار.
والملاحظ هنا أن الكثير من الاختبارات والمحطات الفكرية والسياسية تثبت دائما عدم وجود فوارق أو اختلافات بين التيارات التي ارتضت الديمقراطية منهجا، وبين تلك التي أبت الانصياع للمسار السلمي الديمقراطي، وقد اختبر الشارع العربي الإسلامي في السنوات الأخيرة هذا التماهي في قضايا الهوية والمساواة والحريات الدينية.
النقاش السياسي الذي اندلع في المغرب على خلفية اعتبار عبداللطيف وهبي إمارة المؤمنين إسلاما سياسيا، هو نقاش صحي بالمعنى السياسي والفكري للكلمة، لكنه كان فرصة لتبديد الالتباس الحاصل بين مفهوم قانوني ودستوري، وآخر ديني وسياسي.
وليس مهما التركيز على الدواعي التي جعلت عبداللطيف وهبي يطلق تصريحه الذي أثار جدلا واسعا، ولا يزال، لكن الأهم هو أن هذا الجدل كان فرصة لتلمس الفوارق الفاصلة بين المفهومين، ولم يفعل وهبي سوى أنه حاول هدمها بما أثار ابتهاج الإسلاميين في المغرب.
عبدالجليل معالي
كاتب وصحافي تونسي