وأخيرا قدمت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي تقريرها أمام الملك، وما يعنيني شخصيا هو القضايا المرتبطة بالدين والقانون، اللجنة في تقريرها زكت صعوبة تقليدية في تحديد شكل الدولة المغربية وتصنيفها إن كانت دولة دينية أو دولة مدنية، فلا زالت الدولة تنص في كل دساتيرها على أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، بحكم أن غالبية الشعب من المسلمين، فنجد في ديباجة الدستور، أن “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة”، كما ينص في الفصل السادس منه على أن “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”، وينص الفصل التاسع عشر على أن الملك هو أمير المؤمنين، وهو حامي حمى الدين.
ومقتضى النصوص السابقة هو إسلامية الدولة، وهو ما يعني إلزامية خضوع كل القوانين الخاصة منها والعامة لمبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها.
في مقابل ذلك ينص الفصل الأول من الدستور على استناد الأمة على الاختيار الديمقراطي، كما ترفع الدولة في عدة مناسبات شعارات الدولة الحداثية والمعاصرة، فضلا على توقيعها على عدد كبير من المواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان.
وينظم المغرب عددا من المؤتمرات المتعلقة بحرية الاعتقاد وضمان حقوق الأقليات، كمؤتمر مراكش 2016 حول حماية حقوق الأقليات، كما دعا في أكثر من ورقة مقدمة بعدد من المؤتمرات بالخارج لتكريس المساواة بين الرجال والنساء، كما هو الحال بالمؤتمر العالمي الرابع حول المرأة ببكين 2020، وكما جاء بخطة العمل الوطنية في مجال الديمقراطية الصادرة عن الحكومة 2011 – 2016.
ومع كل هذا فإن الدولة لم تنص رسميا على حرية المعتقد بآخر دستور عام 2011، مع شدة المطالبة بذلك من عدد من المثقفين والحقوقيين والهيئات الفكرية والحقوقية والسياسية.
ورغم أن الدولة قد اعتمدت منذ الاستقلال القوانين الوضعية خصوصا فيما يتعلق بالقوانين التجارية والمدنية، واختيار نظام اقتصادي ليبرالي، يتعارض مع مقتضيات الفقه الإسلامي بخصوص المعاملات الربوية وأحكام الفوائد وفي كثير من فصول القانون الجنائي حيث تم إلغاء العمل بالحدود الشرعية، واستبدالها بالعقوبات السجنية، وغيرها من القوانين، إلا أنه مع ذلك لا زالت عدد من النصوص القانونية مرتبطة بالمرجعية الدينية، إن كان ذلك من الفقه الإسلامي، أو من المزاج الديني العام.
ويظهر ذلك جليا في عدد من نصوص القانون الجنائي وفي قانون الأسرة المبني على الفقه المالكي خصوصا والمذاهب الفقهية الإسلامية عموما.
ففي القانون الجنائي نقف على تجريم محاولات إقناع شخص بالتحول لديانة أخرى، “يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائة إلى خمسمائة درهم كل من استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ أو المياتم”.
كما ينص القانون على تجريم المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان، باعتباره مخالفة دينية، دون مراعاة لاختلاف العقائد، أو حتى التمييز بين صاحب العذر وغيره، فقد جاء في النص: “كل من عرف باعتناقه الدين الإسلامي، وتجاهر بالإفطار في نهار رمضان، في مكان عمومي، من دون عذر شرعي، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر، وغرامة من 12 إلى 120 درهماً”.
كما نجد أيضا بالفصل 489 من القانون الجنائي تجريم المثلية الجنسية والمعاقبة عليها، باعتبارها فعلا محرما في الشريعة الإسلامية، وقد جاء في النص: “يعاقب بالحبس، من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى ألف درهم من ارتكب فعلا من أفعال الشذوذ الجنسي مع شخص من جنسه، ما لم يكن فعله جريمة أشد”.
الفصل 490 من القانون نفسه لم يجرم فقط العلاقات المثلية، بل حتى العلاقات بين جنسين مختلفين، ولو كانت بشكل رضائي، باعتبار ذلك من “الزنا” المحرم في الشريعة الإسلامية، وإن اختلفت العقوبة بين الفقه الإسلامي وهذا القانون، جاء في الفصل 490: “كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة الفساد ويُعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة”.
وعلى مستوى القوانين الاجتماعية نجد أن مدونة الأسرة،ٍ التي جمعتها، والتي صودق عليها سنة 2004 بعد صراع جد مشحون بين القوى المحافظة وتيارات الحداثة بالمغرب، قد اعتمدت كليا على الفقه الإسلامي والمالكي منه بالخصوص.
ويظهر بقوة اعتماد القوانين الاجتماعية على الفقه التقليدي في المواد الآتية من قانون الأسرة:
المادة 400 من المدونة:
تلزم بالرجوع للمذهب المالكي فيما ليس فيه نص: “كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف”.
مع ما يتركه ذلك من تشويش حول مرجعية المدونة، ولأنها جعلت الجهة المكلفة بتنزيل المدونة أمام نصين، نص مكتوب وهو مدونة الأسرة بـ 399 مادة، ومادة وحيدة تحيل على عدد غير محدود من النصوص الفقهية، مما يولد إشكالات كثيرة على مستوى التأويل والتطبيق.
المواد من 348 إلى 354 المتعلقة
بالتعصيب في الإرث:
وهو مما تحتاج المدونة للوقوف عنده بكل حزم، خاصة حالات التعصيب التي يقع فيها على المرأة ظلم بين لا يمكن الاستمرار في قبوله، ولا التبرير له باجتهادات قديمة تغيرت كل السياقات المحيطة بها تغيرا جذريا وكبيرا.
ومن أبرز صور ذلك حالة وفاة الميت تاركا خلفه بنتا أو عددا من البنات دون وجود ذكر معهن، فيأتي أي قريب من جهة الأب دون الأم ولو كان بعيدا كعم أو ابن عم أو ابن ابن عم ولو نزل، فيقاسم البنت أو البنات تركة والدهن، مع أنه لم تكن له أي رابطة بهن سوى تلك القرابة النسبية، لم ينفق عليهن يوما ولا تحمل من أجلهن درهما، ولا شارك في تكوين تلك الثروة ولا حضر جمعها، ليكون له كل هذا النصيب من التركة.
أو الحالة التي يعطى فيها لأخت الميت نصف التركة حال موته عن بنت واحدة، وثلثها حالة موته عن بنتين فأكثر، مع أن تلك الأخت قد أسست أسرتها المستقلة، وانفصلت معيشيا وحياتيا عن ذلك الميت، ولم تكن لها أي مساهمة في تكوين أسرته.
فكل ذلك مجانب للعدل موقع للحيف والظلم، بأي حق وبأي ميزان يرث العم وابن العم مع البنت أو البنات، مع إعفائه من أي مسؤولية تجاههن؟ أي شريعة هذه لا تراعي أن نظام الأسرة قد تغير اليوم، فلم نعد نعيش زمن القبيلة، حيث كان الأعمام وأبناؤهم جزءا لا يتجزأ من الأسرة؟ أي تصور هذا يسمح للعم وابن العم للدخول على البنت وأخواتها وجسد الميت لا زال طريا بموته، فيطلب نصيبه من المسكن الذي عاشت فيه الأسرة الصغيرة حياتها، وبنته طوبة طوبة وتعاونت على تأثيثه قطعة قطعة؟ أي قانون هذا يلجيء الناس للتحايل عليه والهروب منه عبر بيع ممتلكاتهم لبناتهم زمن حياتهم خوفا من أن يدخل عليهم أخوه أو أبناء أخيه بعد موته؟.
المادة 20 و21 من المدونة
حول إذن القاضي بزواج القاصر:
حيث تنص المادة 20 على أن لقاضي الأسرة المكلف بالزواج، أن يأذن بزواج الفتى والفتاة دون سن الأهلية المنصوص عليه في المادة 19 أعلاه، بمقرر معلل يبين فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك، بعد الاستماع لأبوي القاصر أو نائبه الشرعي والاستعانة بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي.
وعلى أن أي مقرر الاستجابة لطلب الإذن بزواج القاصر غير قابل لأي طعن.
كما تنص المادة 21 على أن زواج القاصر متوقف على موافقة نائبه الشرعي، وأن موافقة النائب الشرعي تتم بتوقيعه مع القاصر على طلب الإذن بالزواج وحضوره إبرام العقد، وأنه إذا امتنع النائب الشرعي للقاصر عن الموافقة بت قاضي الأسرة المكلف بالزواج في الموضوع.
وهذه المواد مع المطالبة بتعديلها اليوم من الإنصاف القول بأنها متقدمة عن الفقه التقليدي الذي لا يحدد أي سن لزواج الصغيرة، ولا يشترط إذن القاضي، ومع ذلك فإن هذه المواد مما ينبغي تعديله اليوم، خصوصا أن هذا الاستثناء أصبح قاعدة، ومن النادر جدا أن يرفض القاضي طلب الإذن، مع عدم اقتناع كثير من القضاة التقليديين بالقانون، علما أن عددا من الدراسات التي أجريت حول الموضوع خلصت إلى أن هذه الزيجات لا تنجح لأسباب مثل التعرض للعنف وعدم تحمل المسؤولية، ومشاكل أسرية، وعدم دراية بالعلاقة الجنسية.
المادة 148 و158 حول إثبات
النسب بالفراش:
تنص المادة 158 من مدونة الأسرة على أنه “يثبت النسب بالفراش أو بإقرار الأب أو بشهادة عدلين أو ببينة السماع، وبكل الوسائل الأخرى المقررة شرعا بما في ذلك الخبرة”.
كما تنص المادة 148 من مدونة الأسرة، وذلك بحذف جملة “لا يترتب عن البنوة غير الشرعية بالنسبة للأب أي أثر من آثار البنوة الشرعية”.
وهذه النصوص تتعارض مع مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في تحمل مسؤولية العلاقة خارج مؤسسة الزواج، كما تجعل الطفل المولود ضحية فعلا لا يد له فيه، وبالتالي ليس من العدل عدم إثبات نسبتهم للأب البيولوجي ما دام يمكن معرفته باستعمال وسائل العلم الحديثة.
وليس من المعقول الاعتماد على أحكام فقهية قديمة تعتمد على “الولد للفراش” في زمن لم تكن هناك وسيلة أخرى مناحة لإثبات النسب غيرها على ما فيها من ظنية، وترك الوسائل الحديثة القطعية في حكمها.
كما أنه مما يخالف العدل تحميل المرأة والمولود كل تبعات هذه العلاقة وإعفاء الأب من أي مسؤولية، فذلك يختلف حتى مع قواعد الدين ومقاصده في تحقيق الإنصاف وتحميل المسؤولية تبعا للمشاركة.
واستعمال الوسائل الحديثة لإثبات النسب هو حق لهؤلاء الأطفال بمنطق المواطنة وكل المواثيق الدولية، مما يفرض الانفتاح على آراء داخل الفقه الإسلامي نفسه لا مانع لديها في إثبات النسب بغير الطرق التقليدية.
المادة 49 حول اقتسام ممتلكات
الزوجين بعد الطلاق:
تنص المادة 49 من مدونة الأسرة على أن لكل واحد من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن الآخر، غير أنه يجوز لهما، في إطار تدبير الأموال التي ستكتسب أثناء قيام الزوجية، الاتفاق على استثمارها وتوزيعها. ويضمّن هذا الاتفاق في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج. ويقوم العدلان بإشعار الطرفين عند زواجهما بهذه الأحكام.
ورغم أن هذه المادة اعتبرت من مستجدات المدونة وإيجابياتها، إلا أن صياغتها وجعلها على سبيل الخيار منع من تنزيلها على الواقع، إما لعدم التزام العدول بإخبار المرأة بحقها في توقيع هذا الاتفاق، وإما للإحراج الذي يمنع المرأة من المطالبة، مما يستدعي تغيير الصياغة لجعل الأمر على سبيل الإلزام، وتمكين القضاء من آليات تنفيذية تجعل توقيع هذا الاتفاق أمرا لازما وليس على سبيل الاختيار.
ولا يتعارض ذلك نهائيا مع المقتضيات الشرعية، خصوصا في الحالة المغربية، حيث تحدث ابن عرضون المالكي قديما عن حق الكد والسعاية، وأن للمرأة نصيبها من الممتلكات المحدثة بعد الزواج قبل قسمة الإرث، بحكم مساهمتها في تكوين تلك الثروة، بل وجعل كثير من الفقهاء خدمة البيت من المساهمة التي تجعل للمرأة نصيبا في تلك الممتلكات، مما يشكل إعادة النظر في هذه المادة أمرا لازما.
المادة 16 حول ثبوت دعوى الزوجية:
تنصّ المادة 16 من مدونة الأسرة على أنه: “تعتبر وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج، وإذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات وكذا الخبرة، وتأخذ المحكمة بعين الاعتبار وهي تنظر في دعوى الزوجية وجود أطفال أو حمل ناتج عن العلاقة الزوجية، وما إذا رفعت الدعوى في حياة الزوجين، ويعمل بسماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية لا تتعدى خمس سنوات، ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ”.
فهذه المادة وجدت في الأصل لتجعل الأصل في إثبات العلاقات الزوجية هو عقد الزواج، ولمحاربة ظاهرة “زواج الفاتحة” المنتشر في مناطق كثيرة من المغرب، ولدى بعض المتدينين بحجة استيفائه للشروط الشرعية، لكن تطبيق هذه المادة حولها إلى أداة للتحايل، وشرعنة بعض أنواع الزواج التي لم يأذن بها القاضي مقدما، كزواج القاصرات والتعدد، ووضع الجميع أمام الأمر الواقع للقبول بالأمر تحت دعوى إثبات الزوجية.
كما أن الأرقام الصادرة عن عدة جهات حول استمرار “زواج الفاتحة” بعد ستة عشرة سنة على سن القانون الذي منح مهلة خمسة سنوات مددت مرات متعددة، تثبت أن الظاهرة لا زالت موجودة، بل في أحيان كثيرة داخل المدن ومن أشخاص متعلمين، مما يجعل التدخل لتعديل هذه المادة أمرا لازما تفاديا لكل رغبة في الاحتيال على القانون.
يظهر من خلال ما سبق عمق الإشكالية، وينبغي برأيي الحسم في مرجعية هذه القوانين، ليتمتع كل المواطنين بحقوق متساوية، وليكون القانون حاسما في فصل كل النزاعات والخصومات، دون وقوع أي لبس أو تردد بين كون الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وبين كون المغرب دولة حديثة مواكبة لعصرها وحاجياتها.
< بقلم: محمد عبد الوهاب رفيقي