إن تتبع ما يجري في قطاع التربية والتكوين بعد بدء اللقاءات الخاصة بصياغة النظام الأساسي الجديد لموظفي وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة يفضي أساسا إلى الشعور بالريبة والشك المصحوبين بانحطاط منسوب الثقة في رؤية الإصلاح الرسمية. فكيف يعقل أن يتم تسريب عدة أخبار مفادها حذف فئة معينة أو تقليص أدوار فئة أخرى أو تعزيز مهام فئات معينة دون تفاعل رسمي ببلاغات التأكيد أو النفي أو حتى التوضيح لطمأنة الفاعلين التربويين في الميدان، خصوصا أن الموسم الدراسي الحالي لم يكتمل بعد ونحن مقبلون على امتحانات تستوجب درجة من اليقظة والانخراط التكاملي لعدة فئات من الممارسين التربويين. كما أن الانتباه لمحتويات التسريبات المتناسلة، خصوصا تصريحات الوزير المكلف بالقطاع وكذا تصريحات الكاتب العام والمديرين المركزيين، ثم مجريات أشغال اللجان التقنية الخاصة ببلورة بنود النظام الأساسي، يعزز لدى أي متتبع مهما كانت درجة درايته بمشاكل التربية والتكوين مشاعر عميقة للخوف مما هو آت في السنوات القادمة وكذا مستقبل المدرسة المغربية ومنها مستقبل الأجيال الصاعدة. هذا الخوف لا يجب عزله عن فقدان المرتفقين لعامل الثقة في تدبير الدولة لمختلف المرافق العمومية التي تم تفويضها في إطار التدبير المفوض للخواص أو منظمات من المجتمع المدني. كما أن ما يشهده قطاع التربية والتكوين يعزز ويزكي قلقا كبيرا لدى كل مكونات الشعب المغربي حول التقائية هذا القطاع مع مختلف المخططات الحكومية الأخرى ثم درجة تماهيه مع التراكمات التشريعية والتنظيمية المحققة إلى اليوم. فاستبشار الأغلبية للخير في القادم من الأحداث جراء صدور قانون إطار للتربية والتكوين والبحث العلمي سرعان ما تبخر مع أولى التسريبات المتعلقة ببعض مبادئ النظام الأساسي الجديد وذلك من خلال:
1- تسمية المدرسين وتقويم عملهم: ما القصد وأي اتجاه للغاية؟
فرغم ما تعرفه فئة الأساتذة من مشاكل غاية في التعقيد من حيث تنوعها واعتماد التوظيف الجهوي بإنهاء التوظيف ضمن الوظيفة العمومية فإن تسمية أفرادها بأساتذة التعليم الابتدائي ثم الثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي جعلهم معنيون فقط وحصرا بالعمل في سلكهم الذي يحملون تسمية منسوبة إليه. واقتراح التسريبات الواردة من غرف إعداد النظام الأساسي المغلقة تسمية بديلة من خلال اعتماد صفة “أستاذ التعليم المدرسي” (ابتدائي وثانوي) يجعل عمل هذه الفئة مرتبط بالمؤسسة وليس السلك حيث سيطالب كل مدرس حامل لهذه التسمية بعد صدور النظام الأساسي بالانخراط الملزم في أي عمل يتم داخل المؤسسة أو مرتبط بها وليس بسلكه أو مادته فقط، وبالتالي فإلزام المدرسين بالعمل في الأندية ومشروع المؤسسة وأنشطة الحياة المدرسية سيكون أخف المتطلبات الساعية إلى إقرار التسمية الجديدة، بل سنجد أساتذة التعليم الابتدائي يطالبون من قبل المدبرين للقطاع بتدريس أقسام التعليم الأولى المتواجدة داخل المؤسسة و التربية غير النظامية التي ستقتحم الإعداديات والمدارس الابتدائية، وهنا نشير إلى وجود برامج تجريبية حالية مع الاتحاد الأوربي لإعداد منهاج لهذه الفئة. كما أن نجاح التدبير المفوض لبنيات التعليم الأولي من خلال جمعيات معدة خصيصا لهذا الغرض من قبل من كانوا يعرفون مسقط الكرة بعد رميها منذ سنة 2018 (سنة إقرار الإطار المنهاجي للتعليم الأولي) سيجعل إدماج التعليم المدرسي برمته في إطار هذا التدبير مسألة واردة وخصوصا التعليم الابتدائي الذي ولجت الجمعيات المعنية مؤسساته وإمكانية تفويضه هي مسألة وقت فقط. كما أن استمرار الاحتجاج من قبل أساتذة التوظيف الجهوي يفسد رهان الوزارة على الأكاديميات الجهوية كمؤسسات عمومية قادرة على تدبير القطاع في إطار التفويض ولن يكون لها من مخرج سوى اللجوء للتدبير المفوض لجمعيات مثيلة لجمعيات التعليم الأولي ولما لا هي نفسها، خصوصا بعد تعديل أنظمتها الأساسية لتشمل العمل في التعليم الابتدائي وبنيات التربية غير النظامية.
أما بخصوص تقويم عمل هذه الفئة فهو أكبر مؤشر دال على وجود توجه نحو تفويض مجموعة من الأدوار ولما لا التدبير برمته لجهات خارجية، فحسب ما يروج حول النظام الأساسي وخصوصا ما صرح به الزعماء النقابيون المشاركون ستصبح لملاحظات الآباء في إطار قياس رضا الزبون دور هام في ترقية وتقويم عمل المدرس، ولا يفوت هنا التأكيد على كون ترويج ما سبق يتم بنوع من البطولة وكأنه إنجاز عظيم إذ يستشف عدم بلوغ المروجين لكنه القصد ومعنى تفويض أدوار العاملين في القطاع لأشخاص خارجيين، إذ حتما هي بداية الشك المقترب من اليقين بقدوم مرحلة التدبير المفوض في قطاع التربية والتكوين وخصوصا التعليم الابتدائي.
2- إطار المتصرف التربوي: التخبط التشريعي وإدماج الإسناديين أي قراءة جديدة للأدوار القديمة؟
في حقيقة الأمر، وعلى عكس ما يضنه أغلب أفراد هذه الفئة، لم يقترح ما تم ترويجه من مبادئ النظام الأساسي المرتقب أية أدوار جديدة لهذه الفئة من فئات العاملين في القطاع، وهنا يكفي الرجوع إلى القوانين والضوابط التشريعية لنكتشف بأن تقويم أداء المدرس هو اختصاص قديم للمكلف بمهمة المدير التربوي في المؤسسة. والرجوع إليه بهذه الغزارة في التسريب والتأكيد له أهداف واضحة، إذ تم استغلال الصدامات المتكررة بين فئة المتصرفين التربويين المكلفين بالإدارة خصوصا بالتعليم الابتدائي بفئة المفتشين جراء عدم وضوح القوانين والمذكرات الرسمية. فيكون الهدف الأول هو صرف النظر للفئة الأصلية من المتصرفين التربويين عن الاحتجاج ضد إدماج باقي أطر الإدارة في هذا الإطار، علما أن مبدأ امتناع الفئة الأصلية هو الذي سيمنع التحاق حاملي الدكتوراة بالتعليم العالي لكن في حالة المتصرفين لم يتم إعماله. ثم الهدف الثاني هو إعادة هيكلة مساهمة أطر الإدارة في التقويم من خلال قبول هذه الفئة بانخراط الأباء والشركاء في تقويم الأداء المهني للمدرس واستثمار ملاحظات المؤطر التربوي وفقا لما سرب من النظام الأساسي، نفس هذا القبول سيكون وبال شؤم عندما سنتحدث عن تقويم المكلف بالإدارة نفسه، بهذا الشكل سيقبل المدير التربوي مشاركة الأباء والشركاء في مهمة كانت حكرا عليه ودون استثمار ملاحظات أي إطار أخر بخصوص عمل المدرس، وبالتالي فدرجة فعالية أدائه المهني ستحدد انطلاقا من قدرته على ضبط المؤسسة وبلورة مشروع عمل سنوي يندرج ضمن مشروع مندمج للمؤسسة ثم قدرته على استثمار ملاحظات المفتش التربوي حاليا وترجمتها إلى نقطة عددية وفي النهاية ملاحظات المرتفقين في إطار نفس المبدأ المقبول سلفا من الفئة في تقويم المدرسين وهو قياس عامل الرضا عند الزبون. بل ستجد هذه الفئة نفسها أمام عدة متدخلين في إطار تقويم أدائها المهني، من مرتفقين وأباء المتعلمين وشركاء المؤسسة ولجان تتبع تنفيذ مشروع المؤسسة ثم الضغط الذي سيبرزه التنافس بين المؤسسات في تنفيذ المشاريع وبالتالي تصنيف المؤسسات حسب الفعالية والنجاعة. بهذا الشكل فالوزارة الوصية ستقحم المتصرف التربوي في مشاكل تدبيرية عويصة وتجعله هدفا واضحا لتدخل خارجي في تقويم نجاعة الأداء، علما أن مشروع خلق إطار إداري خاضع للتكوين كان الهدف الأساسي منه هو اعتماد مدير بمثابة قائد تربوي قادر على تغيير الوضع المؤسساتي نحو الأفضل بتكامل تام مع باقي الهيئات العاملة في القطاع وليس اعتماد منصب تقني فقط عرفت سنواته الأولى تخبطا تشريعيا خطيرا من حيث مخرجات التكوين ووضعية المتخرجين تلاها إغراق الإطار الفتي بأعداد مهمة من المديرين الذين لم يستفيدوا من تكوين مماثل، حيث نؤكد هنا بأن القصد ليس التقليل من قيمة أطر الإدارة الغير خاضعين للتكوين بل إبراز الأخطاء التدبيرية المقصودة للوزارة في هذا الصدد، وبالتالي جعل قيمة الإطار في مهب الريح فبدل منح الاستقلالية أكثر سيجد الإداري نفسه مطالبا بالخضوع لجهات خارجية عنه في أداء واجبه وهذا لهو أكبر تهيئ للمدرسة لتفويض تدبيرها لجهات أخرى كما وقع في بنيات التعليم الأولي التي لا يستطيع نفس المدير المتواجد في المؤسسة المحتضنة حاليا تغير حتى وقت الدخول ووقت الخروج أو تنظيم الدراسة بين الصباح والمساء.
3- هيئة التفتيش التربوي: الأدوار المعطلة والصراع المركزي، أي تقزيم للرقابة قبل التفويض؟
على عكس ما يضنه أغلب العاملين في قطاع التربية والتكوين، فهيئة التفتيش التربوي تقوم بعدة أدوار ومهام متزامنة لها ارتباط بكل المصالح الإقليمية والجهوية ثم المركزية، قد تصل في بعض الأحيان إلى 40 مهمة حسب ما تشير إليه تقارير المجلس الأعلى للتربية والتكوين ومجموعة من الباحثين في السياسات العمومية. غير أن هذه المهام أغلبها تدبيري بالدرجة الأولى وتجعل المفتش التربوي في علاقة مباشرة بالمدبر الإقليمي والجهوي الذي يفترض بأنه محط ملاحظة وتتبع ومراقبة. فأمام ضغط المهام المتزامنة آنفة الذكر لا يجد الممارس التربوي ضمن هذه الفئة بدا من إهمال جانب التأطير ومواكبة العمل الميداني للمدرس، بل ويتم ذلك أحيانا بطلب من المدبر نفسه من خلال وقف استغلال السيارات أو التكليف بمهام أو غياب وسائل العمل …، بالإضافة إلى بروز ممارسات فردية مضرة بعمل هذه الفئة يركز عليها المدبر لإخضاع أصحابها وتحييد تقاريرهم وأدائهم المهني المرتبط بالرقابة. ولعل بروز تسريبات وأقوال بخصوص مهاجمة المفتش العام لهذه الهيئة من خلال عدد الشكايات المتوصل بها وكذا عدد التقارير والمهام المنجزة من قبل الهيئة، ليعد أكبر صفعة للمفتشية العامة نفسها وله هو بالتحديد كما أنها أكبر دليل على رغبته، ومن خلاله المتحكمين في دواليب الوزارة، في ترك الوضع ليستفحل أكثر. فلماذا لم تفعل الجهة الوصية القانون في المخالفين؟ ولماذا لا تحاسبهم عن عدد المهام والتقارير؟ ولماذا تركت المفتشية العامة المفتش التربوي في مواجهة الإدارة دون تنبيه للوزارة بكون التدبير يختلف عن التقويم؟ بل والسؤال المحرج والذي يظهر الرغبة الواضحة في ترك المشاكل تتناسل أكثر لامتلاك المبرر الذي سيعطي للوزارة الوصية بطاقة الأمان للمرور إلى تفويض تدبير المؤسسات التعليمية لجهات أخرى من خلال تقزيم دور هذه الفئة، هو لماذا يستمر المفتش العام في مهامه التدبيرية كمدير مركزي وهو على رأس جهاز الرقابة؟ أليس هذا جمعا غير مقبول من قبل كل التنظيمات والتشريعات الوطنية والدولية بين التدبير والتقويم؟ بل ويشارك في صياغة نظام أساسي سيرسم مستقبل المنظومة التربوية لما هو آت من الزمن. غير أن كل ما سبق له ما يبرره بالعودة لتاريخ هذه الهيئة ورفضها غير ما مرة الانخراط في مخططات الوزارة، وخصوصا صقور مديرياتها المركزية، الرامية إلى سن تشريعات أو تدابير ماسة بالاستقرار المهني لمختلف الفاعلين التربويين وكذا نجاعة الأداء التربوي للمؤسسة التعليمية ومجانية التمدرس لأبناء الفئات المقهورة، ولنا فقط في تقويم الأداء المهني لسنة 2005 وكذا عزل قيادات فوج الكرامة من الوظيفة العمومية بداعي عدم الكفاءة خير دليل على وجود صراع بين الفئة التي تجد نفسها غارقة في مهام تعرقل وظيفتها الأساسية المتمثلة في التأطير والتقويم وبين تدبير إداري للوزارة الوصية ومديرياتها المركزية يرغب كل متحكم في إحداها في سن ما يخدم مآربه الشخصية والوظيفية الخاضعة لسياسة البيع والتفويت. كل هذا يستوجب نزع العراقيل الممكن مصادفتها في طريق التخلص من تدبير خدمة التعليم إسوة بباقي الخدمات العمومية التي تشرف عليها جهات خارجية في إطار التدبير المفوض، والاحتفاظ للسلطة المركزية بمهمة الإشراف العام على سياسة المناهج والتشريعات العامة وكذا المراقبة العمودية. فكما هو معلوم، على أفراد هذه الهيئة وكذا باقي العاملين بالقطاع أن يعلموا بأن هيئة التفتيش هي الجهاز الوحيد الذي يربط وبشكل مباشر المؤسسات التعليمية بالأكاديميات الجهوية والوزارة وكذا المفتشية العامة للتربية الوطنية وبأن التهيئة للتدبير المفوض في أية مؤسسة تقتضي العمل على قطع أي رابط بينها وبين باقي الأجهزة والتنظيمات الرسمية وغير الرسمية، ولنا في تدبير بنيات التعليم الأولى خير مثال مرة أخرى من خلال قطع الصلة بين أقسامه ومختلف العاملين بالمؤسسة المحتضنة بما فيهم المفتش التربوي.
بصفة عامة، فتتبع الوضع ومجريات الأحداث داخل قطاع التربية والتكوين، يفضي إلى الإقرار بوجود صراعات مستمرة يطفو دوي معاركها للعيان بين الفينة والأخرى بين المتحكمين في دواليب الوزارة وجهتين متباعدتين، تكون أولاهما هي مؤسسة الوزير نفسه ولنا في حدث الأطر المرجعية للامتحانات الإشهادية برسم هذه السنة خير دليل على ذلك. فكيف يعقل أن يشرف الوزير الوصي على القطاع على تسليم مواضيع الامتحانات الخاصة بالباكالوريا لمديري الأكاديميات دون صدور الأطر المرجعية الخاصة بها من جهة، ومن جهة أخرى وهي قاسمة ظهر القطاع صدور هذه الأطر المرجعية في اليوم الموالي لحدث التسليم بأخطاء كارثية وصيغة قديمة تم تغيير سنة الصدور عليها فقط. وثانيتهما هي هيئة التفتيش التربوي بالمغرب التي وصل الصراع بينها وبين المتحكمين في صلب القرار المركزي إلى رغبة كل طرف في إنهاء تواجد الاخر ضمن المنظومة التربوية والتقليل المبالغ فيه من دور كل منهما في صناعة الأثر التربوي في مخرجات المنظومة. وليس هناك حالة من الصراع المستعر أعلى وأعمق من تنصل جهاز معين من أفراده الضامنين لتواجده في الميدان كما وقع في تصريحات المكلف برئاسة المفتشية العامة، المراقب الأعلى لجهاز التدبير الذي يتحمل فيه في نفس الآن مسؤولية مدير المناهج والمدبر الأكبر للسياسة التربوية. كل هذه المخططات لا نجد لها تفسيرا أو استشرافا للمألات إلا إعداد القطاع للمناولة أو التدبير المفوض أو رغبة ملحة في تفكيك القطاع وفسح المجال أمام القطاع الخاص للانتعاش أكثر واكتساح العرض التربوي بالمغرب. وهي سياسات ومخططات خطيرة قد تعصف بمستقبل منظومة التربية والتكوين برمتها، ولا سبيل لوقفها سوى اتحاد الفئات السالفة الذكر من مدرسين ومديرين ومفتشين لكونهم الهياكل الأساسية لانتصاب المؤسسات واقفة في وجه الطوفان القادم والخضوع للجهات الخارجية مستقبلا.
سعيد اخيطوش
باحث في قضايا التربية والتكوين والسياسة التربوية