اختارت الهيئة العربية للمسرح الفنان الجزائري سيد أحمد أقومي لكتابة رسالة اليوم العربي للمسرح الذي يصادف كل سنة اليوم العاشر من يناير الذي يتزامن مع افتتاح الدورة الجديدة لمهرجان المسرح العربي المتنقل، والذي افتتح أمس الخميس بالمسرح الكبير بدار الأوبرا بالقاهرة.. وفيما يلي نصها:
جئت إلى المسرح لأنه كان حلمي، المسرح هو فن الوهم الذي يؤازر الحقيقة ويقف في وجه الأكاذيب.
جئت إلى المسرح حين أدركت أن الخيال يستطيع أن يغير الواقع.
حين كان التاريخ دجلاً، أردت أن أعتلي الخشبة لأقول الحقيقة. لم يكن المسرح بالنسبة لي قناعة فكرية فقط، بل كان إيماناً يلامس الروح، كنت أحمل جمرة المسرح بغبطة وفرح من يحمل أغلى كوهينور (KOHINOOR) (ماسة) في العالم، المسرح عندي درب سري مدهش قادني إلى ماهيتي، إلى كينونتي الحقيقية؛ لم أكن أمثل، كلا أبداً، كنت أعيش، أعيش أسئلتي، عزلتي، حيرتي، دهشتي، تمردي، ثورتي، عذاباتي، فرحي، إنسانيتي؛ كنت أنهمر على الخشبة بكل كياني وكان المسرح هو الخلاص.
جئت إلى المسرح حين كان الليل يخاف من النهار”
دخلته في الزمن المناسب.
عشته مع فنانين استثنائيين
دخلت تفاصيل حلمي الذي بدأ في سن السادسة، كان حلمي الوحيد أن أكون ممثلا مسرحيا لا غير.
كان المرحوم “محمد بوديا” (1) ينظر إلي باندهاش ويقول: كيف لشاب فنان ومثقف مثلك ألا يدخل معترك السياسة؟! كنت أضحك وأجيبه: “لقد كذبت على أبي حين وعدته – من أجل أن يتركني في الحضرة المقدسة للمسرح – أن أكون سفيرا أو محاميا أو طبيبا، لكنني أبدا لم أعده أن أكون سياسيا”.
وقد كنت على الخشبة سفيرا للحلم الإنساني ومحاميا لكل القضايا العادلة وطبيبا يحاول أن يجد دواء للحماقة البشرية.
سأعود إلى بدايات هذا الحلم، إلى بدايات المسرح في الجزائر…
بعد زيارات الفرق المسرحية العربية المتكررة للجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي، اكتشفت النخبة الوطنية أن هذا الفن خطير وفعال، يمكنه أن يغير ويخلق لدى الجمهور وعياً سياسياً. لذا تأسست الفرق المسرحية والجمعيات، وكان هدف هذا التأسيس هو تكريس وعي وطني من أجل تحرير الجزائر؛ من هذه الفرق الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني التى تأسست بتونس والتي كان يشرف عليها أستاذي المرحوم مصطفى كاتب.
ولقد استمر هذا النهج بعد الاستقلال وهو خدمة القضايا الوطنية وكل قضايا الشعوب التي تسعى إلى التحرر من كل أنواع الهيمنة؛ في هذا السياق، أرى أنه على الفنان المسرحي الحقيقي، كي لا يكون أداة دعائية، الاحتفاظ بشعلة الإبداع لديه والابتعاد عن التسطيح .
إن المسرحي المسكون بالتمرد هو دائم الانخراط في القضايا الإنسانية. إنه اللامنتمي بامتياز، والمنتمي بامتياز أيضا للحق والخير والجمال؛ ذلك أن المسرح ليس بيانات سياسيةً أو شعارات فارغة أو خطبا جوفاء.
إذا أصبح المسرحي في خدمة هذا النوع من المواضيع، فما عليه إلا مغادرة بناية المسرح وحمل الأبواق والاتجاه إلى مقرات الأحزاب والتجمعات السياسية، وليعلن موته هناك.
إننا نتقاسم مع السياسيين أحيانا نفس الفضاءات ونتوجه لنفس الجمهور، ومثلهم نطمح للتأثير على المتلقي، لكن الفرق شاسع بيننا.
قد يقول البعض إن شكسبير نفسه كان يهتم بالسياسة، هذا صحيح، لكنه لم يكن سياسيا، لقد كان فنانا مبدعا عملاقا، وتأتي إشاراته السياسية في ثنايا مسرحياته بذكاء ودهاء كبيرين، ولم تكن مسرحياته غارقة في السياسة والايدولوجيا.
يريد منا السياسيون أن نكون همزة وصل …
لقد قالها لنا ذات يوم الرئيس الراحل هواري بومدين “أريدكم أن تكونوا همزة وصل بين القمة والقاعدة”؛ عفوا أيها الحضور الكريم، المسرحي الحقيقي لا يمكن أبدا أن يكون جسرا أو بوقا أو همزة وصل، إنه صوت الحقيقة وضمير الأمة، عليه أن يحمل بأمانة الرسالة “ليكون رسولا وليس عبدا مأجورا”، الرسالة التي وجد من أجلها المسرح، ألا وهي خدمة قضايا الإنسان، وعليه أن يجعل أي فضاء يتحرك فيه حدثاً مسرحيا يشجع على التفكير والمساءلة والنقد.
يتحدث الكثير من المثقفين والإعلاميين والسياسيين ضد العنف اللفظي والبدني الممارس على بعض الفئات والأفراد، لكنهم يتناسون أو يتجاهلون العنف الذي مورس ويمارس منذ زمن طويل على الفنان المسرحي، والذي- للأسف الشديد – لم يصنف بعد كمبدع للقيم الجمالية، وإنما استُهجِنَ فنُّه بتصنيفه كمهرج – مضحك – عجاجبي.
هذا التصنيف ظل مكرساً في اللاوعي الجمعي إلى يومنا هذا، ولهذا ظل الفنان المسرحي في أدنى المراتب الاجتماعية.
لقد تنازلت عن لقبي واخترت اسما مستعاراً سيد أحمد أقومي من أجل المسرح والمسرح فقط، فالمسرح كينونتي، وهويتى التى أعتز بها حيثما أكون. وحتى حين أكون في المنفى، فإن لي في كل بناية مسرح وطناً، وفي كل خشبة أقف عليها حبلا سريا يجمعني بأخي الإنسان.
وإذا كان المسرح الإغريقي قد بنى فلسفته على مبدأ الصراع بين البشر والآلهة، فعلينا نحن كمسرحيين عرب في هذا الزمن الشائك أن نوظف فننا السامي لخدمة مجتمعاتنا، وذلك بإرشاد المتلقي إلى منابع الفهم والحكمة ومن أجل التغيير، التغيير الذي لا يكون بالوقوف ضد أشباه الآلهة فوق هذه الأرض فقط، ولكن من أجل ذلك التغيير الذي يصنع منا متمردين حتى النخاع، تمرد الفهم المقدس الذي يعرف الكثير عن الأعالي والأعماق، وليس مجرد ثوريين سطحيين.
تلك هي رسالة المسرح
وهذا هو المسرح الذي أريد
شكراً للهيئة العربية للمسرح على هذا التكريم الذي أسعدني كثيراً، إنه تكريم للمسرح الجزائري العريق، وهو أيضاً تكريم للشهيدين الكبيرين علولة (2) ومجوبي (3).
شكراً لأنكم جعلتموني أستحضر في هذه اللحظة أصدقائي وزملائي الذين رحلوا، وصنعوا من مسيرتهم مناراتٍ نهتدي بها كلما حاصرتنا الظلمات والعواصف
شكراً لسمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي لدعمه المستمر للمسرح، ذلك لأنه يدرك أن المسرح يبني ما يعجز عنه السياسيون
وسيبقى المسرح ما بقيت الحياة
هوامش
[1] محمد بو ديا (1932 – 1973) مقاتل ثوري ومسرحي وصحفي جزائري انخرط في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولد في حي الباب الجديد (من أحياء القصبة العليا) في الجزائر العاصمة. بعد تلقي تعليمه، تأثر بالتيار الوطني الاستقلالي ثم اهتم بالمسرح حيث التحق بالمركز الجهوي للفنون الدرامية في عام 1954. هاجر بعد اندلاع الثورة إلى فرنسا وانضم إلى فيدرالية جبهة التحرير هناك، شارك في عدة عمليات فدائية جرح في إحداها عام 1956، كانت أكثر عملياته شهرة هي تفجير أنابيب النفط في مرسيليا يوم 25 غشت 1958م التي قبض عليه بسببها وحكم بالسجن 20 عاماً. نجح في الهرب من السجن عام 1961م ولجأ إلى تونس. عمل في فرقة المسرح التابعة لجبهة التحرير الوطني، وفي يناير عام 1963 أصبح مدير الإدارة للمسرح الوطني، وهو أول مسرح أقيم في الجزائر بعد الاستقلال. أسس جريدة “نوفمبر” و”الجزائر هذا المساء”.
[2] عبد القادر علولة (1939 – 1994) كاتب مسرحي جزائري. ولد يوم 8 يوليوز عام 1939 في مدينة الغزوات بولاية تلمسان في غرب الجزائر، ودرس الدراما في فرنسا. وانضم إلى المسرح الوطني الجزائري وساعد على إنشائه في عام 1963 بعد الاستقلال. وكان قبل مقتله في يناير 1994 يتهيأ لكتابة مسرحية جديدة بعنوان «العملاق»، ولكن يد الإرهاب الأعمى كانت أسرع. عندما أغتيل شهر رمضان في 10 مارس 1994، على يد جماعة مسلحة.
[3] عز الدين مجوبي ممثل ومخرج مسرحي جزائري ولد في مدينة عزابة بولاية سكيكدة في 30 أكتوبر 1945، ابن محام تعود أصوله إلى حمام قرقور (سطيف). أغتيل في 13 فيبراير 1995 بالجزائر العاصمة.
[4] الجملة التي ختم بها صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي رسالته في اليوم العالمي للمسرح عام 2007