تنزع الإنسانية نحو سلخ الإنسان عن أخيه الإنسان لكل مقومات الذاتية والاختيار والحرية. في عالم تغلفه المظاهر والتسارع ونبذ قيم الثبات. عالم شعاره منذ الحداثة مزيدا من التراكم ومزيدا من الاستهلاك، عالم شكلت فيه المتناقضات وحدة لا مثيل لها خصوصا مع خطاب ما بعد الحداثة.. عالم تتسارع فيه القيم منشئة بعدا جديدا للإنسان ذي البعد الواحد. هذا التسارع شكلت فيه الصورة، عبر وسائل الاتصال الجماهيري، أهم ملامحه.
أسطرة الواقع وواقعية الأسطورة
تنهل فلسفة ما بعد الحداثة من نزعة ارتدادية ضد العقل، أو لنقل “نزعة العداء للعقل، تمثلت منذ نشأتها الأولى في الإنسان الواعي بذاته، وعى من الحكمة ما يكفي ليشعر بضآلة الحكمة السائدة في العالم. وهذه نظرة تستحيل في سهولة إلى نوع من الترفع الزائف والإحساس بأن الجماهير قطيع ونحن الحكماء قلة ولنا السيادة ويجب أن تكون لنا. نجد هذا ماثلا في كل سطر من كتابات نيتشه الذي يعد بحق أوضح مثال على هذه النزعة”(1).
إننا سائرون إذن في اتجاه شعار “مات العقل عاشت الرغبة”. هل معنى هذا أن العقل الذي تأسس في البدء على أنقاض الأسطورة ستطوى صفحته وسيقام له قداس جنائزي؟ أهي مسألة تحطيم الأصنام أم أوهام الأصنام؟ وفي كل مرة يستدير الإنسان بضربة ليحطم الصنم الذي يظنه كبيرهم فتصفق بقية الأصنام؟ أهي مسألة عود أبدي، أم أن الإنسان يصنع أصنامه ليعود ليدمرها كطفل يحطم لعبه عندما تتحول رغبته عنها؟
في كتابه “أساطير” ينفخ رولان بارت الحياة في الأساطير لتبعث في تطريز جديد، يقول عنها: إن الأسطورة كلام ” طبعا ليس كأي كلام إذ لابد للغة من شروط خاصة حتى تصبح أسطورة … إن الأسطورة عبارة عن منظومة اتصال، إنها رسالة. من هنا نرى الأسطورة ليست موضوعا ولا فكرة ولا مفهوما. إنها صيغة من صيغ الدلالة، إنها شكل…” (2) أي عندما يصبح كل شيء يحمل أسبابه في ذاته، عندما يقول المرء هو هكذا، لأنه ينبغي أن يكون هكذا في نوع من الطوطولوجيا البريئة، وبعبارة بارت إنها إنتاج للبداهات وطبعنة الوجود الاستهلاكي إن«الأسطورة لا تخفي شيئا ولا تفصح عن شيء إنها تحرف. الأسطورة ليست كذبة ولا اعترافا إنها انحراف ” إذن ستبحث الأسطورة عن مخرج لن يكون سوى التطبيع “، هاهنا وصلنا إلى مبدأ الأسطورة وهو المبدأ الذي يحول التاريخ إلى طبيعة.. والشكل إلى فراغ والدلالة تتجمد خلف الحدث. إن فعل التدليل فعل شفاف وكثيف في الآن معا، لأن الأسطورة كلام مشروح ومعاد” (3) لكنه كلام معلل أي على عكس الدليل اللساني فالأسطورة تقوم على نوع من التعليل لا الاعتباطية. هذا التعليل هو ما يسهل هذا الانتقال من مستوى دلالي إلى آخر يقتضيه ويفترضه. وهذا السلب هو ما يجعل الأسطورة تاريخية، هي كينونة سالبة ترتجف تظهر وتختفي لتظهر من جديد، ما يميزها أنها لغة مسروقة كما قال بارث: “إنها تتميز بتحويل المعنى إلى شكل، بمعنى آخر الأسطورة سطو مستمر على اللغة” (4) ويعطي بارث مثالا على ذلك صورة لزنجي يقف بإجلال ليقدم التحية إلى علم فرنسا. هذه الصورة لها شكل ومعنى أول، إنه مثال على مساواة فرنسا بين مواطنيها كان ما كان أصلهم أو لونهم، وهذا الدليل أو العلامة يشتغل كشكل لمعنى ثاني هو صورة فرنسا الإمبريالية التي تحاول الصورة تطبيعه. فالعلامة الأولى تم سلبها وسرقت لصالح الدلالة الثانية. ولنضرب على ذلك مثالا آخر نفكك من خلاله أسطرة كرة القدم: لنلاحظ معجم ألفاظ كرة القدم: معسكر التداريب، الميدان، مهاجم، هجوم، مدافع، قدفة، مرمى، هدف، إصابة، خطة، تغطية، بطل/ بطولة، قائد الفريق/ عميد، هزيمة، انتصار، شارة/ قميص الفريق.
هذه العلامات تم السطو عليها من قبل الأسطورة وتحييدها من القاموس الحربي، وتم ملؤها بدلالات إيحائية تبعد العنف والجدية لصالح دلالات رخوة ولينة تفيد اللعب والمتعة. هذا ما يبين استسلام اللسان للأسطورة مما يجعل إمكانية التدليل ممكنة… “إن اللسان يقترح على الأسطورة معنى مفرغا وببساطة يمكن للعلامة أن تدخل فيه وتتضخم ” (5)
لنتساءل إذن ما كرة القدم؟ هل هي نزال أم لعب؟ جد أم هزل؟ والمقابلة هل هي لحظة لإشباع اللذة أم هي لحظة لتحقيق المتعة؟ أم هي لحظة لتفريغ الدوافع العدوانية في صورة بديلة؟
قال بيل شانتيي إن النتيجة في كرة القدم هي مسألة حياة أو موت، إنهم مخطئون، إن الأمر أكبر من ذلك، هذا ما أعرب عنه ماتياس غو في كتابه “سقراط بالحذاء”، فالكرة تبدو من جهة نشاطا بلا معنى، وتارة أخرى جديا للغاية فهي مركز تقاطع السياسة بالإقتصاد بالإعلام …إنها في جديتها يمكن أن تقود حربا كما وقع في سنة 1967 بين الإكوادور والهاندوراس أو مأساة المدافع إسكوبار…كما أنها يمكن أن تصبح مقدمة للتناول الفلسفي والميتافيزيقي خصوصا إشكالية القيم التي تسوقها ومعيار الحقيقة في أحكام الحكام، وإشكالية الذاتي والموضوعي، اللجوء إلى الصورة كمعيار للتحقق من صلاحية الحكم والحقيقة عند الشرود والأهداف المشبوهة، أو حالات العنف.
قال عنها الأنجليزي أورويل: كرة القدم بدت لي لا تلعب لمتعة، ركل كرة في الأرجاء، لكنها أحد أنواع القتال. وفي نفس السياق لا يخفي أمبرتو إيكو مقته لشغف الكرة، ففي مقال له تحت عنوان: “كيف ترحل مع الصومو أو كيف لا تتحدث عن كرة القدم”، يعرض إيكو موقفه قائلا: “إنني لا أكره الكرة، بل أكره المهووسين بها …ولا أحب التيفوزي لأنه له خاصية غريبة، فالتيفوزي لا يفهم لماذا لست تفوزيا ولا يفتأ يحدثك على أنك كذلك “خاصة سائقو الطاكسي الذين يتحدثون بلا انقطاع، ويعتقد السائق أنك تجاريه في الكلام والتفكير، إنها السباحة ضد التيار. على شاكلة سمك الصومو، لقد تأسطرت الكرة وأسطرت معها حياة الناس. إنه استلاب مركب يتساوى فيه الجميع غنيا كان أم فقيرا، والكل مستعد ليصبح عنيفا مستعدا ليفطس أنف جاره.
كرة القدم من الميتولوجيا إلى الأنطولوجيا
إذا كانت الكرة أسطورة كما قال بارت وإيكو فهي من جهة أخرى نمط وجود، أو لنقل هي شكل من أشكال الكينونة والبحث عن هوية للذات “فبعض الكائنات الوحشية… صنعت لتصبح أبطالا بلا روح، تحيط بها جماهير مبتهجة تتفرج عليها لكي ترى كيف تحرك أجسادها، يتعلق الأمر هنا بنوع من الاستبداد المعنوي الذي يفرض على الأغلبية نسيان جسدها، لتعجب بجسد أقلية” (6) إن الجسد في كرة القدم هو محفل الوجود، يتحول من كومة بيولوجية إلى أيقونة دالة، هذا الجسد يملأ القميص ويسكنه، لا ينبغي البحث عنه خلف المتواري، إذ لم يعد القميص دلالة على الإخفاء بل يكشف كل تفاصيله وتعاريجه ونتوءاته ومقعراته ومحدباته، لقد تماهى القميص بالجسد حتى أصبح كالجلد الذي هو منتهاه وعمقه، بل حقيقته كما يقول فوكو، فالقميص يمثل عري الجسد، يتزيى به كما يلبس ركام اللحم جلدته. إن إدراك اللاعب يتمفصل عبر صورة الجسد الذي لا يحيل إلا على ذاته حسب تعبير بودريار، سيمولاكر أو صورة غير ذات شكل محدد، إنه وجود لا مشخصن بل هو وجود مشيأ، تبخرت منه الذاتية وتم افتراسها، إنه رقم داخل رقعة الملعب بل أكثر من ذلك، فقد أصبح اللاعب في مجتمع ما بعد الحداثة، مجتمع الاستهلاك سلعة مثله في ذلك مثل نجوم أمثال مادونا وتوم كروز ومايكل جوردان.. بمثابة المنتوج والصورة السلعة التي يباع باسمها وعلامتها المسجلة، بل التي تباع من خلالها سلع أخرى، مثل البيبسي والكوكا كولا…على كل حال، يصبح المشاهير صورة ضمنية (6) تستهلك وتنفد كالوميض أو فقاعات الرغوة، هؤلاء النجوم ترفعهم الميديا إلى عنان السماء ثم تهوي بهم فتسحق وجودهم، إنه وجود لا واقعي أو هو صورة لواقع مزيف، فكثيرا ما لا يشعرون بأن تسليط الأضواء والكاميرا عليهم قد يكون الغرض منه الإشهار الخلفي الذي يوجد خلف جيدهم على مشارف الملاعب، هذا الجسد هو حد أوسط بين التشويق والتسويق .
وعلى غرار هذا الجسد المشترك تنحت أجساد أخرى، الأجساد الخاصة أجساد الجماهير المفتونة بهؤلاء الأبطال حد العبادة على حد تعبير كارلايل، الذي يوافقه إيكو عندما قال: “إذا كنا حتى الآن قد تحدثنا عن الرياضة المربعة التي تمارس عليها المضاربات والمساومات والاستهلاك القسري، فإنه الآن ينبغي الحديث عن الرياضة المكعبة بمعنى أن هناك الرياضيين … والمشاهدين .. وأخيرا الملايين من الذين لم يحضروا المباراة ولكنهم يتحدثون عنها. مبددين بذلك طاقات كان يجدر بهم توظيفها في مشاكل المجتمع، وكيفية إدارة الاقتصاد أو محاربة الإرهاب، إنها طريقة حقا ماكرة لصرف الناس عن الحياة الاجتماعية والسياسية”.(7) نجد إذن من خلال ما سبق تطابقا بين ما تفعله الكرة في الجمهور وما يفعله السوفسطائي حسب أفلاطون فـ”عندما يجتمع عدد كبير من الجمهور معا في مجلس عام أو في محكمة أو مسرح أو معسكر، أو في أي مجتمع عام آخر، ويجلسون معربين بالصراخ عن استحسانهم أو استهجانهم لأي شيء يقال أو يفعل وهم في كلتا الحالتين مبالغون..”. إن الجمهور في نظر أفلاطون مثل حيوان شرس خبر السوفسطائي كيف يحرك فيه الغضب وكيف يجعله يهدأ. إن الجماهير تشتق نمط وجودها من وجود هؤلاء الأبطال، يتماهون معهم، يقلدونهم في كل صغيرة وكبيرة. إن الصورة التي تنقلها وسائل الإعلام الجماهيري ليست صورة بريئة، رغم كونها تلبس رداء البراءة والاعتيادية، إنها لا تحيل إلا على ذاتها، فهي تصنع، تخطط وتبرمج من خلال النقل لظروف الاستعدادات البدنية والنفسية التي يخوضها الفريق في معسكرات، والاستعدادات الموازية للأولترا، هذا النقل يجيش الجمهور وينمط وجوده على نمط الوجود وينسلخ منه الوجود في الذات، فكل فرد لا يحيل على ذاته طالما أن وجوده انسحق في النحن الميتافيزيقي، أو الغير متعين، إنه كل واحد ولا أحد بعينه.. إنه بعبارة أخرى يسلب الكينونة الذاتية لتنكشف ذاته الجماعية. هنا تنجح الصورة على خلق الأشباه والنظائر والنسخ وإعادة النسخ كي تروضهم على نمط من الاستجابات العاطفية والحركية والانفعالية والقيمية، ليدخلوا عالم الاستهلاك من بابه الواسع. إن الوجود يتقلص إذن إلى حدث تاريخي. إن الصور التي تخلقها الميديا قد يظن أنها تحاكي الواقع، بل هي تصنع الواقع لأننا لا ندرك الواقع ولا نتعرف عليه إلا من خلالها”. لقد أصبح الواقع صورة شاحبة من الصورة، إن الصورة هي الأساس وليس الواقع، والصورة أصبحت تسبق الواقع وتمهد له، الصورة تحدث أولا ثم تحدث المحاكاة لها في الواقع..” (8). هنا تتقلص المسافة بين الواقعي واللاواقعي، حيث يغدو اللاواقعي هو الأصل وهذا الأصل ينسخ إلى ما لا نهاية على شاكلة المرايا المتقابلة. إنه يعرفنا كيف نعيش وكيف نحب ونكره وكيف نمارس الجنس، ينحت تفاصيل حياتنا بكل دقة لأنها تعنيه، فهي ملك له وليس لنا. إنه يحررنا من ثقل ذاتنا المملة ليرمي بنا في ذات الجماعة بل الإنسان ذي البعد الواحد.
وعلى الجملة فإذا كانت الحداثة محاولة للسيطرة على الواقع والطبيعة لامتلاكها وترويضها، فقد امتلك الإنسان هذا الواقع واستهلكه، نحن نعلم أن الاستهلاك يخلف وراءه نفايات، لا نفايات في عصر العولمة، الكل قابل للتصنيع وإعادة التصنيع والتسليع، وهناك جماليات للنفايات والقبح، وجماليات للعهر، والقهر، وهناك الفوضى والفوضى الخلاقة والمنظمة، وهناك القوة والقوة الناعمة هذه هي صورة الصورة وأشباح الأشباح وخيال الظل وصورة إنسان لا إنسان.
المراجع
1 _ تشكيل العقل الحديث، كرين برينتون، ترجمة، شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة عدد 82 . ص ،319
2 _ أسطوريات ، أساطير الحياة اليومية ، رولان بارث ترجمة د. قاسم مقداد دار نينوى للنشر2012 ص 225
3 – نفسه ص ، 247 -248 بتصرف
4 – نفسه ، 250
5 – نفسه ، 251
6 – ماتياس غو في حوار متلفز مع
أوليفيبار
7 – الموت لكرة القدم، امبرتو ايكو، ترجمة المصطفى السهلي نشر بهيسبريس 17 – 11-2009، عن موقع مغرس
8 – عصر الصورة، شاكر عبد الحميد، سلسلة عالم المعرفة ، عدد 311 ، 2005 ص ، 372
9 – الموت لكرة القدم مرجع سابق
10 – الجمهورية افلاطون، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة المصرية العامة للتاليف والنشر 2004 ص، 217 – 218
11 – عصر الصورة، عبد الحميد شاكر، 361
بقلم: جواد رضوان