المواقف والممارسات الصادرة، في الفترة الأخيرة، عن الحكومة الإسبانية، ضمن تداعيات الأزمة مع بلادنا، فضحت عقلية استعمارية حقيقية متفشية وسط العديد من النخب السياسية والأمنية والعسكرية والإعلامية في إسبانيا، ولم تتردد الحكومة الحالية وأنصارها في الكشف عنها عند كل خطوة عدائية تقترفها ضد المغرب.
هذا هو المعطى الواضح والفاضح والحقيقي في الأزمة المشتعلة الآن، وقضية استقبال مجرم الحرب المدعو إبراهيم غالي تعتبر من تجليات هذه العقلية، وليست سبب الأزمة الوحيد أو الحقيقي.
الدولة التي كانت تحتل الصحراء من قبل، هي التي لا تنتبه اليوم لأي تطور في مسلسل إنهاء النزاع المفتعل حول مغربيتها، ولا تقدم أي مساهمة من أجل الحل، والدولة التي لا زالت، بلا خجل، تستعمر سبتة ومليلية والجزر المغربية، هي التي تتنطع اليوم وتجر أوروبا لاعتبار المدينتين السليبتين حدودا لأوروبا.
المغرب، من جهته، يصر اليوم على أن تتعرى إسبانيا أمام العالم وتقر بأنها دولة احتلال في القرن الواحد والعشرين، ويجب أن تخضع لمنطق العصر، وأن تتغير، وأن تتعامل مع المغرب الجار باعتباره دولة حقيقية ومستقلة وذات سيادة.
لا يمكن أن تستمر إسبانيا في الاستفادة من المغرب في محاربة الهجرة غير القانونية ومحاربة تجارة المخدرات والتهريب، وفِي مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، وأن تستفيد من التعاون بين البلدين في الصيد البحري، وفِي الفلاحة، وفِي تحقيق الشركات الإسبانية لأرباح من خلال استثماراتها بالمملكة، وفِي توافد السياح المغاربة…، ولكن في نفس الوقت تواصل عداءها للحقوق الوطنية المغربية في الصحراء وفِي سبتة ومليلية، وتستمر في محاربة المصالح الإستراتيجية للمملكة…
هذا التنطع الإسباني هو الذي يجعل مدريد ترغب في الاستفادة من المغرب لصالح اقتصادها وشعبها، وفِي نفس الوقت تصطف في خندق أعداء المغرب ضد حقوقه الوطنية المشروعة، وهذا السلوك العبثي والأرعن هو الذي يواجهه المغرب اليوم، ويقول بشأنه: «باسطا».
في الأزمة الحالية بين بلادنا وإسبانيا، تأكد من جديد أن العقلية الاستعمارية المتفشية لدى الجيران الشماليين، جعلتهم يبدون جاهلين تماما للمغرب والمغاربة، وحتى غالبية الصحافة الإسبانية اختارت اقتراف معالجات سطحية وجاهلة لتداعيات وخلفيات الأزمة التي أشعلتها حكومة بلادها، وبدا العديد من الصحافيين الأسبان منحازين لبلدهم، وبعضهم اقترف تجاوزات لأخلاقيات المهنة تستحق الإدانة.
لدينا نحن أيضا معضلاتنا الداخلية، اجتماعية واقتصادية وحقوقية وإعلامية وغيرها، ولكن هذه مشكلتنا، وهي لا تمنعنا أن نسجل، في نفس الوقت، وقوع وسائل إعلام إسبانية وفرنسية في سقطات مهنية وأخلاقية فاضحة ضد بلادنا وشعبنا ومؤسساتنا.
الإعلام الإسباني، وبعض العناوين الفرنسية، ارتكبوا فعلا تجاوزات واضحة في حق بلادنا خلال الأزمة الحالية مع إسبانيا، ووسائل إعلام أخرى، عربية وغيرها، بدت غير مدركة تماما لما يحدث، وتجهل كل شيء عن احتلال إسبانيا لمدن مغربية، وهو ما يطرح مهمة أخرى على بلادنا ودبلوماسيتنا ومؤسساتنا المهنية تجاه الرأي العام الإقليمي والدولي.
النظام العسكري الجزائري، من جهته، مستمر في تكلسه وعبثيته، وهو يعاني من مرض العداء للمغرب، ويمكن أن يتبنى أي موقف أو اختيار، فقط أن يكون ضد المملكة وقضاياها، وهو لا يرى أي مشكلة في مساندة الاستعمار الإسباني، فقط لأن الأمر يتعلق بأراضي مغربية.
ولهذا، فاستمرار الاحتلال الإسباني للمدن المغربية في الشمال، وحنين مدريد للعودة إلى احتلال الصحراء المغربية في الجنوب، قضية يجب أن تسائل اليوم المجتمع الدولي، والضمير الديمقراطي العالمي، وأن تشعر أوروبا الحديثة، بشأنها، بالخزي والعار.
المغرب ليس بلا عقل أو بعد نظر، ليقرر فجأة إشعال التوتر مع جيرانه، أو لإرباك شراكته التاريخية والإستراتيجية مع الاتحاد الأوروبي، ولكنه يرفع نقطة نظام ووضوح صارمة تشديدا على حقوقه الوطنية، وعلى سيادته واستقلاله وكرامته.
هذه الأزمة مع إسبانيا تفتح أعيننا عن التبدلات الكبرى والتحولات المهولة التي تلف العالم ومنطقة المتوسط، وتفرض اليوم الوعي بمصالحنا الوطنية والإستراتيجية، وضرورة الدفاع عنها بقوة وصرامة ووضوح، والأزمة كشفت أمامنا كذلك طبيعة جيراننا، وما يطرحه علينا هذا الجوار من تحديات في الشرق وفِي الشمال، وكشفت أيضا حاجتنا لتمتين جبهتنا الوطنية الداخلية والاعتماد على أنفسنا والنجاح في بناء دولتنا ومجتمعنا وتحقيق الإصلاحات الضرورية، ونبهتنا إلى أهمية تنمية وعينا الوطني الجماعي وتطوير أدواتنا الدفاعية والترافعية، بما في ذلك الإعلام والأحزاب وسواهما.
وقبل كل شيء، هذه المعركة التي تخوضها اليوم بلادنا تفرض الاصطفاف في عمق الموقف الوطني ضد خصوم وحدتنا الترابية واستقلالنا وسيادتنا، ودفاعا عن كرامة وطننا.
<محتات الرقاص