انتفاضة ماء بوفكران أو معركة “الماء لحلو” في ذكراها 84

في أجواء طافحة بالحماس الوطني والتعبئة المستمرة واليقظة الموصولة، يحيي الشعب المغربي، ومعه نساء ورجال الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير وساكنة مدينة مكناس العريقة في هذه السنة، الذكرى 84 لانتفاضة ماء بوفكران البطولية التي جسدت معلمة مضيئة ومحطة وازنة في مسار ملاحم الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال.
اندلعت انتفاضة ماء بوفكران في مستهل شهر شتنبر من سنة 1937 عندما اصطدمت ساكنة مكناسة الزيتون بغلاة المستوطنين والمعمرين المتطاولين على الموارد المائية للسكان والفلاحين. وجاءت تلك المعركة الحاسمة التي خاضتها الجماهير الشعبية الغاضبة بالعاصمة الإسماعيلية لتنذر الاحتلال الأجنبي باستمرار روح النضال وصمود المغاربة في الدفاع عن وطنهم ومقدراته وخيراته وسيادته، وبأن الإجهاز على المقاومة بجبال الأطلس والجنوب المغربي في أواخر سنة 1934 لم يكن يعني استسلام المغاربة للأمر الواقع. فلقد أصر المناضلون على سلوك خيار جديد بنقل المعركة من الجبال والأرياف إلى المدن والقرى، والانتقال من أسلوب المواجهة المسلحة المتفرقة إلى مرحلة المقارعة السياسية الواعية، وتعبئة الجماهير الشعبية منذ منتصف الثلاثينات بالعديد من الحواضر المغربية إلى حين إنهاء عهد الحماية ووضع حد للتسلط الاستعماري.
لقد تضافرت عدة عوامل موضوعية لاندلاع المواجهة فيما عرف بـ “معركة الماء لحلو”، كان من أبرزها إقدام السلطات الاستعمارية على تحويل جزء من مياه وادي بوفكران وحصره على المعمرين لتستفيد منه ضيعاتهم، وكذا المرافق المدنية والعسكرية الفرنسية بالمدينة الجديدة في وقت كانت فيه حاجة السكان إلى هذه المياه ملحة ومتزايدة.
حدث هذا في بداية تبلور الوعي الوطني عند ثلة من الوطنيين المكناسيين الذين كانوا على اتصال دائم بقيادة الحركة الوطنية بأهم المدن المغربية وخاصة بفاس، فاستشعر هؤلاء الوطنيون تذمر السكان من جراء النقص الحاصل في المياه التي تتزود بها المدينة وأحياؤها الشعبية العتيقة، خاصة أن الأمر يتعلق بمادة حيوية. وكان هذا الوضع الاجتماعي سانحا لشحذ همم وعزائم المواطنين وإلهاب حماسهم لخوض غمار المواجهة المباشرة مع قوات الاحتلال الأجنبي في بداية شهر شتنبر 1937 بعــد إصدار السلطات الاستعماريـة لقرار وزاري فـي 12 نونبر 1936، ونشره بالجريدة الرسمية عدد 1268 بتاريخ 12 أبريــل 1937 لتوزيــع ماء وادي بوفكران بين المستوطنين والمعمرين وسكان المدينة، وإحداث لجنة لتنفيذ هذا القرار في 12 فبراير 1937. وقد نجم عن هذا الوضع الجديد والطارئ انعكاس سلبي وتأثير قوي في تفاقم أحوال ساكنة مكناس، لاسيما وأن المجتمع المكناسي كان يعيش ظرفية صعبة تمثلت في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي مست أوسع الفئات والشرائح الاجتماعية مع قيام السلطات الاستعمارية بفرض ضرائب مجحفة، وحرمان السكان والتنكيل بهم وتهجيرهم من المدينة القديمة إلى المدينة الجديدة بغية الاستحواذ على أجود الأراضي الفلاحية الخصبة بنواحي المدينة.


وقد أدت هذه الأوضاع المتأزمة إلى تفجير ثورة المكناسيين بعد أن استنفذوا كل أشكال النضال السلمي والاحتجاجات الهادئة وتقديم العرائض وتكوين لجنة الدفاع عن ماء بوفكران، حيث تمادت السلطات الاستعمارية في تعنتها وتماديها في تطبيق قرارها الجائر وفي تقليص وإضعاف صبيب ومنسوب مياه واد بوفكران وتحويله لصالح أهدافها التوسعية، فكانت انطلاقة انتفاضة ماء بوفكران في فاتح وثاني شتنبر 1937 حدثا تاريخيا وازنا ومتميزا، جسد فيه المكناسيون أروع صور ومواقف النضال الوطني، مسترخصين التضحيات الجسام في مواجهة القوات الاستعمارية التي أدهشها رد فعل أبناء المدينة، ولم تكن تتوقع أبدا أنهم وصلوا بعد إلى مستوى النضج والتنظيم السياسي القادر على مواجهة القوات الاستعمارية الكثيرة العدد والمجهزة بأحدث الآليات والمعدات العسكرية، فكانت معركة ضارية ورهيبة لم يتوان الوطنيون والمناضلون وساكنة مكناس بكل فئاتهم وشرائحهم في خوض غمارها بشجاعة وإقدام، تحديا للوجود الأجنبي، وتصديا لمؤامراته، وصونا للعزة والكرامة، ودفاعا عن المقدسات الدينية والثوابت الوطنية.
كما مثلت هذه الثورة المباركة لساكنة مكناس والنواحي فاتحة عهد جديد في مناهضة سياسة المحتل الأجنبي، وكانت هذه المعركة الغراء إيذانا بالتحول الذي طال إستراتيجية مواجهة المغاربة للاستعمار، بنقل المعركة من الجبال والأرياف إلى الحواضر والمدن والدخول في صيغة جديدة لأعمال المقاومة، تُزَاوِجُ بين الكفاح المسلح والنضال السياسي الذي بدأت إرهاصاته الأولى تظهر على الساحة الوطنية في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي.
وحسبنا أن نستحضر في هذا المقام دررا غالية مما قاله جلالة المغفور له الحسن الثاني أكرم الله مثواه عن معركة ماء بوفكران عند زيارته لهذه الربوع العريقة يوم 27 يوليوز 1992م، حيث قال: ”… قضية بوفكران: بوفكران وما أدراك ما بوفكران، لأنني لما فتحت عيني في الثامنة من عمري وقعت واقعة بوفكران، واستشهد فيها الرجال والنساء، حيا الله شهداء بوفكران، وحيا الله الناس الذين ضحوا بكل غال ونفيس في سبيل الحفاظ على مائهم، ذلك الماء الذي حَبَّسَهُ جدي المولى إسماعيل رحمة الله عليه على مدينة مكناس، وها هو حفيده اليوم بكل سرور وفرح يقول لكم: إن بوفكران سيرجع كما كان أو أحسن ..”.
لقد أبانت حاضرة مكناس عن ادوار بطولية مجيدة أربكت مخططات القوات الاستعمارية، فكانت تتويجا للمقاومة والممانعة التي خاضها الوطنيون وعموم المواطنين بالمدينة ونواحيها منذ احتلالها سنة 1911 من قبل الجنرال “مواني” والتي سجلت خلالها القبائل المجاورة صفحات بطولية خالدة من المقاومة، قبائل بني مطير وكروان وعرب سايس ضد القوات الغازية المحتلة. ولم تهدأ ثائرة المكناسيين في تجسيد مواقفهم النضالية التي تجلت مرة أخرى بقوة في معركة ماء بوفكران سنة 1937، فضلا عن الدور الوطني الكبير لرجالاتها في ملاحم النضال السياسي ونشر الوعي الوطني وإذكاء التعبئة وخوض غمار المواجهة المباشرة والمستميتة للوجود الأجنبي والتسلط الاستعماري، حيث كان لأبنائها حضور وازن في مناهضة ما سمي بالظهير البربري، وفي المواقف النضالية للحركة الوطنية، وفي تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، ثم في تعزيز انطلاقة المقاومة الفدائية إلى أن تحققت إرادة العرش والشعب بعودة الشرعية والمشروعية التاريخية وإشراقة شمس الحرية والاستقلال، لتتواصل نضالات أبناء هذه الربوع في ملاحم الجهـاد الأكبر الاقتصادي والاجتماعي لبناء المغرب الجديد وإعلاء صروحه.
وإن أسرة المقاومة وجيش التحرير وهي تخلد، ككل سنة، هذه الذكرى المجيدة ، لتؤكد على واجب الوفاء والبرور بالذاكرة التاريخية الوطنية وبرموزها وأعلامها وأبطالها الغر الميامين. وهي في ذات الوقت، تحرص على إيصال الرسائل والإشارات القوية وإشاعة رصيد القيم والمثل العليا ومكارم الأخلاق في أوساط وصفوف الشباب والناشئة والأجيال الجديدة والقادمة لتتشبع بأقباسها وتغترف من ينابيعها، ما به تتقوى فيها الروح الوطنية وحب الوطن والاعتزاز بالانتماء الوطني لمواصلة مسيرات الحاضر والمستقبل تحت القيادة المتبصرة والحكيمة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله لبناء وإعلاء صروح المغرب الجديد، مغرب الحداثة والديمقراطية والتنمية الشاملة والمستدامة والتضامن والتكافل الاجتماعي.
والمناسبة سانحة للتأكيد مجددا على الموقف الثابت للشعب المغربي، ومعه أسرة المقاومة وجيش التحريـر، وكافة مكونات وأطيــاف المجتمع، وتعبئتهم المستمرة ويقظتهم الموصولة وتجندهم الدائم وراء عاهل البلاد جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، من أجل تثبيت المكاسب الوطنية والدفاع عن وحدتنا الترابية غير القابلة للتنازل أو المساومة، متشبثين بالمبادرة المغربية القاضية بمنح حكم ذاتي موسع لأقاليمنا الجنوبية المسترجعة في ظل السيادة الوطنية.
واحتفاء بهذه المناسبة الوطنية الخالدة بما يليق بها من مظاهر الاعتزاز والإجلال والإكبار، وإبراز دلالاتها الوطنية وأبعادها الرمزية وإشاعة قيمها النبيلة في أوساط الناشئة والأجيال الجديدة، أعدت النيابة الإقليمية للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بمكناس بتعاون وتنسيق مع نشطاء وفعاليات المجتمع المدني برنامجا حافلا بالأنشطة والفعاليات يتضمن إلى جانب كلمة المناسبة التي سيلقيها السيد مصطفى الكتيري، المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، فقرات تربوية وثقافية وتواصلية مع الذاكرة التاريخية تضم زيارات حضورية وافتراضية لفضاءات الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير بالإقليم، ستتوج بتنظيم ندوة فكرية، يوم الثلاثاء 07 شتنبر 2021، ستتمحور أشغالها حول موضوع: “بوفكران بين المتخيل والحقائق التاريخية”، بمشاركة صفوة من الأكاديميين الدارسين والباحثين. ويتعلق الأمر ب:
– الدكتور سعيد بنحمادة، الذي سيقدم مساهمة في موضوع: “دلالات ماء وادي بوفكران في تاريخ مكناس: الوظائف والرمزية”؛
– الدكتور سعيد عبيدي، الذي سيتناول موضوع: “معركة الماء لحلو: بين قلم المؤرخ وصورة السياسي”؛
– الدكتور عبد الواحد هاروني، سيقدم عرضا تاريخيا بعنوان : “إستراتيجية الماء في الاستغلال الاستعماري بمكناس وأحوازها : مياه وادي بوفكران أنموذجا”؛
– الدكتور عبد القادر العبوي، سيقارب موضوع: “أحداث بوفكران من خلال الأرشيف الفرنسي”؛
– الأستاذ عبد المجيد أو الطالب، سيساهم بورقة علمية موسومة ب: “أحداث مياه بوفكران، شتنبر 1937م: جوانب من حركة الاحتجاج في المدنية المغربية خلال القرن العشرين”.
وجريا على التقليد الموصول، وحرصا من المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير على تحسين الأوضاع المادية والاجتماعية والمعيشية للمنتمين لأسرة المقاومة وجيش التحرير في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها بلادنا، سيتم توزيع حصة من الإعانات المالية والمساعدات الاجتماعية والإسعافات على عدد من المستحقين للدعم المادي والاجتماعي ومن هم في وضعية العسر الاجتماعي والعوز المادي، وفق برنامج تم تسطيره من لدن النيابة الإقليمية للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بمكناس في تقيد والتزام تام بالتدابير والإجراءات الاحترازية المعمول بها.

Related posts

Top