انسحاب أمريكا من «اتفاقية باريس» للتغير المناخي.. المخاطر والتحديات

حقق دونالد ترامب جزءا من وعوده الانتخابية من خلال الانسحاب الأمريكي من اتفاقية باريس للمناخ، والتي تمت تحت مظلة أمريكية صينية، بتوقيع حوالي 195 دولة عليها في باريس عام 2015، في تجمع للمرة الأولى لمعظم دول العالم في اتفاقية واحدة.
وتهدف الاتفاقية إلى الحد من تغير المناخ والاحترار العالمي والاحتفاظ بدرجات حرارة الأرض والسعي لتقليلها، وخفض كمية الغازات الدفيئة المنبعثة من نشاطات الإنسان، وذلك بمراجعة مساهمة كل دولة في تقليل انبعاث الغازات كل خمس سنوات، بما يسمح بقياس حجم مواجهة تحدي التغير المناخي. بالإضافة إلى أنه يتعين أن تكون الدول المتقدمة في الطليعة في مستوى اعتماد أهداف خفض الانبعاثات، في حين على الدول النامية مواصلة تحسين جهودها في التصدي للاحتباس الحراري في ضوء أوضاعها الوطنية. 
وفي الأول من يونيو 2017، أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية قائلاً: «اعتبارا من اليوم، ستكف الولايات المتحدة عن تنفيذ مضمون اتفاق باريس، ولن نلتزم بالقيود المالية والاقتصادية الشديدة التي يفرضها الاتفاق على بلادنا». مضيفا، أنها تكلف الاقتصاد الأمريكي 3 تريليونات دولار من الناتج العام وتقضي على 6 ملايين وظيفة صناعية، لذا فلم يكن من الممكن تصور أن يكون هناك اتفاق دولي يمنعنا من إدارة شؤونها الداخلية، مؤكدا أنه يسعى إلى التفاوض على إبرام «اتفاق أفضل».
غير أن قرار الانسحاب شهد انقساما في الداخل الأمريكي ما بين مؤيد ومعارض، ففي حين احتفل أعضاء حزب ترامب الجمهوري بالقرار، وأشاد زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش مكونيل به؛ «لتوجيهه ضربة جديدة لاعتداء إدارة أوباما على الإنتاج المحلي للطاقة والوظائف». انتقده آخرون، باعتباره تهديدًا للجهود العالمية للحد من ظاهرة تغير المناخ، ويعمل على تسريع وتيرة حدوث أزمة كوكبية، كما أنه يعد انكماشًا للدور الأمريكي، ما جعل زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، تشاك شومر يصفه بأنه «أحد أسوأ التحركات السياسية التي اتخذت في القرن الـ 21 بسبب الضرر الهائل لاقتصادنا وبيئتنا». 
وفي الوقت نفسه سارع رجال الأعمال الأمريكيون إلى انتقاد مزاعم الرئيس بأن التراجع عن الاتفاق كان جيدًا للأعمال التجارية الأمريكية، وأعلن الرئيسان التنفيذيان لشركتي «تسلا» و«والت ديزني» إيلون ماسك وروبرت إيغر، أنهما سيتركان المجالس الاستشارية للبيت الأبيض بعد قرار ترامب اعتراضًا على القرار، وعبر الرئيس التنفيذي لشركة «آبل» تيم كوك، عن خيبة أمله جراء الانسحاب، فضلاً عن تشكيل العديد من حكام الولايات ورؤساء البلديات الأمريكية تحالفات للتصدي له.
وتلك ليست هي المرة الأولى التي ينسحب فيها رئيس أمريكي من جانب واحد من معاهدة دولية تتناول تغير المناخ، فلقد انسحب جورج بوش الابن من بروتوكول كيوتو عام 2001، وهو ما قوبل بغضب وإدانة دوليين.
أما عن ردود الفعل الدولية حول القرار، فقد أعرب كثير من قادة الدول عن خيبة أملهم من خلال بيان مشترك صرح فيه كل من إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، وأنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، وباولو جنتيلوني وزير الخارجية الإيطالي قائلين: «إننا نعتبر الاتفاقية لا رجعة فيها، منذ أن باتت فعلاً أداة حيوية لكوكبنا ومجتمعاتنا واقتصاداتنا»، ومن ثم أكدت تلك القوى أنها ماضية في تنفيذ تلك الاتفاقية؛ لتحصل القارة البيضاء بذلك على فرصة ذهبية لحمل لواء قيادة العالم بدلا من أمريكا، على الأقل في هذه القضية. وقالت وكالة الأنباء الصينية (شينخوا) إن قرار ترامب يعد «انتكاسة عالمية»، ووصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الخطوة بأنها «خيبة أمل كبرى»، فيما قالت الهيئة التابعة للأمم المتحدة التي تقود مفاوضات المناخ: «أنه لا يمكن إعادة التفاوض في شأن الاتفاق بناء على طلب دولة منفردة».
وفي حين اتفق الكثيرون على آثار هذا القرار بالنسبة إلى الجانب الأمريكي، إلا أنهم أقل اقتناعًا بأن القرار سيعجل من تفاقم أزمة تغير المناخ، حيث يقول البعض إن قرار ترامب يبدو أنه أعاد التركيز على مدى الالتزام على المستوى العالمي وعلى المستوى المحلي داخل الولايات المتحدة، بمعالجة هذه القضية، وأنه عزز من الدعم الدولي للمعاهدة.
من ناحية أخرى، مثل انسحاب واشنطن من الاتفاقية فرصة للصين لبناء العلاقات وتعزيز التحالفات، فذكرت صحيفة الجارديان البريطانية أن بكين تشكل تحالفا مع الاتحاد الأوروبي لتبوء مكانة رائدة في التصدي لتغير المناخ. وقال ميجيل آرياس كانيت، مفوض المناخ في الاتحاد الأوروبي: «إن الاتحاد الأوروبي والصين يتكاتفان بقوة من أجل المضي قدما في تنفيذ اتفاق باريس، وتسريع الانتقال العالمي لاستخدامات الطاقة النظيفة»، فحصلت الصين بذلك على فرصة ذهبية للقيام بدور رائد على الساحة الدولية، والظهور بمظهر «الزعيم العالمي الجديد» الذي يخشى على مستقبل هذا الكوكب أكثر من أي طرف آخر، رغم أنها أكبر دول العالم تسببا في الانبعاثات الكربونية وتأتي بعدها الولايات المتحدة.
وهذه ليست المرة الأولى التي تستفيد الصين فيها من سياسات ترامب، فعندما انسحبت الولايات المتحدة من الشراكة عبر المحيط الهادئ سارعت بكين لبدء محادثات مع الدول لملء هذا الفراغ، كما طرحت نفسها كشريك تجاري أكثر مصداقية لكندا والمكسيك عقب تعهده بإعادة التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، وهناك من يتفق على جهد الصين لطرح نفسها كبديل معتدل موثوق به عن واشنطن ورائدة  للتجارة الدولية وقضية تغير المناخ.
وهنا، يثار التساؤل حول موقع الدول النامية ودول الشرق الأوسط بالتحديد من هذه الاتفاقية، إذ ذهب محللون إلى أن انسحاب الولايات المتحدة سيجعل من الصعب على العالم التوصل إلى الأهداف التي حددتها اتفاقية باريس، وستكون هناك مشكلة تتعلق بالتمويل، التي تتحمل واشنطن 23 % من ميزانيتها، أو للمساعدات الدولية المقدمة للدول الفقيرة لمواجهة الظاهرة، فالولايات المتحدة تسهم بنسبة نحو 15 % من انبعاثات الكربون في العالم، بيد أنها في الوقت نفسه مصدر مهم لتقديم التمويل والتكنولوجيا للدول النامية لدعم جهودها في مكافحة ارتفاع درجات الحرارة. فلقد ألزمت اتفاقية باريس الدول الغنية بتقديم مائة مليار دولار سنويا للدول الفقيرة بدءا من 2020؛ لمساعدتها في الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة.
وفي الإطار نفسه، أشار الباحث جاكو دو توا، من فرع الصندوق العالمي للطبيعة في جنوب إفريقيا إلى أن انسحاب أمريكا يعرض مقاومة آثار ظاهرة التغير المناخي في القارة الإفريقية للخطر.
وإجمالا، فإنه إذا كان انسحاب أمريكا من اتفاقية باريس سيؤدي إلى معاناة هائلة للبلدان التي تعيش على الخط الأمامي للتغير المناخي، حيث سيقلص من موارد المياه وهطول الأمطار ويؤثر على الإنتاج الزراعي ومصائد الأسماك ويسهم في سوء التغذية والأمراض المعدية والسيول وأسعار الغذاء، إلا أنه في الوقت نفسه، سيضرّ بالبيئة الأمريكية وصناعاتها الأكثر تفوقا في العالم، في مجالات الإبداع كافّة. 
فالمشكلة هي أن الولايات المتحدة هي من أكبر المصادر لانبعاث الغازات المسبّبة للاحتباس الحراري بسبب الفحم، ومن ثم، فقد يقوّض انسحابها من الجهود الدولية لحماية التوازن البيئي.. كما أنه بمعزل عن الصدمة الناجمة عن هذا الإعلان، فهو يثير مخاوف فعلية بشأن التمويل، سواء لاتفاقية الأمم المتحدة للمناخ، أو للمساعدات الدولية للدول الفقيرة على غرار «الصندوق الأخضر»، ويعبر هذا القرار عن انتهاج سياسة لا ترقى إلى مقامها ودورها في السياسة العالمية، ما يعطي دورا أكبر للصين التي فرضت نفسها كبلد رائد في «دبلوماسية المناخ»، كما أن ثمة مخاوف من اتباع دول أخرى نهج الولايات المتحدة  أو إبداء التزام أقل بأهداف اتفاقية باريس.

Related posts

Top