بعيدا عن مكاسب الداخل الأمريكي من انتخاب جو بايدن رئيسا خلفا للرئيس دونالد ترامب؛ فإن فوز بايدن يمثل فرصة عالمية لإخراج قضية البيئة والمناخ من غرفة الإنعاش بعد أن تحمل ترامب وزر انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ كأول دولة في العالم تنسحب رسميا من هذه الاتفاقية المهمة التي تهدف إلى الحفاظ على انخفاض معدل ارتفاع درجة الحرارة العالمية خلال القرن الحالي وإنقاذ كوكب الأرض من كارثة محققة تتسبب فيها بشكل رئيسي الدول الصناعية الكبرى لاسيما الولايات المتحدة، حيث تنفث حاليا نحو 15% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
لحسن الحظ وفي نفس اليوم الذي بدأ تنفيذ الانسحاب، أعلن بايدن بانضمام بلاده مجددا إلى اتفاق باريس، حيث تستطيع أن تنضم إلى الاتفاقية مرة أخرى في المستقبل، إذا اختار رئيسها ذلك. وقال بايدن أن ذلك سيكون في غضون 77 يوما في إشارة إلى تاريخ بدء الولاية الرئاسية المقبلة، بل إنه وعد بإقرار خطة بقيمة 1700 مليار دولار تهدف لبلوغ مرحلة الحياد الكربوني في الولايات المتحدة بحلول 2050.
لقد أصبحت قضية حماية البيئة قضية سياسية بامتياز نظرا لأهمية قضية التغير المناخي، وأثرها القوي على العلاقات الدولية، كما أن الأخطار الكارثية الكونية لا يمكن معالجتها إلا عبر قرارات سياسية في أعلى مستوى. وسبق أن عرضت القضية البيئية على مجلس الأمن الدولي على أساس أن تغير المناخ سوف يؤثر على أمن وسلامة العالم كله.
لكن ترامب بدا مستهترا بقضية البيئة ومشككا على غير علم في تغير المناخ، وقال ترامب يوما متجاهلا مناشدة أحد المسؤولين الأمريكيين بعدم تجاهل العلم بشأن تغير المناخ: “لا أعتقد أن العلم فعليا يعرف”. بل سبق أن وصف ترامب تغير المناخ بأنه شيء “أسطوري”، أو “غير موجود”، أو “خدعة باهظة الثمن”. مع ملاحظة أن الفرد الأمريكي يستهلك 13 ألف كيلو وات طاقة في السنة، بينما يستخدم الفرد في دول أوروبا في الشمال الأكثر برودة 7 آلاف كيلو وات طاقة في السنة. وارتبط موقف واشنطن بالتكلفة الاقتصادية، حيث ضغطت الشركات الكبرى على الإدارة الأمريكية بحجة أن تكلفة تحويل التكنولوجيا من أجل تقليل انبعاث الغازات الدفيئة ستكون عالية جدا.
ويبدو من ناحية أخرى أن موضوع البيئة واهتمام بايدن بها، فرصة يحاول رئيس وزراء بريطانيا بوريس جنسون ليمد عبرها حبال الوصل مع بايدن. وقد بدا جونسون يتيما بعد خسارة حليفه ترامب خاصة مع حالة عدم الود التي يكنها بايدن لجنسون الذي يحاول أن يجعل من استضافة بريطانيا لمؤتمر الأمم المتحدة المقبل للمناخ في نوفمبر 2021، محاولة لإصلاح علاقته الشخصية مع بايدن. وظل بايدن يصف كلا من جونسون وترامب بأنهما يجسدان الشر الشعبوي الذي تعهد بمكافحته وأن “جونسون نسخة بريطانية لترامب”.
وبايدن الذي يعتز بأصوله الإيرلندية ظل غاضبا من موقف جونسون المتحمس لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ إذا يرى أن ذلك يهدد السلام في إيرلندا الشمالية، ولذا يخشى جونسون من أن يعطل بايدن اتفاقية التجارة مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحتاجها بريطانيا بشدة بعد مفارقتها الاتحاد الأوروبي، بل إن ذلك يجعلها في موقف تفاوضي ضعيف وهي تسعى لاتفاقيات اقتصادية مع أوروبا بعد خروجها. وربما لا ينسى بايدن، لجونسون سخريته من الرئيس باراك أوباما، الذي كان معارضا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حينها صرح جونسون بشكل عنصري بأن “أوباما يعارض البريكست بسبب أصوله الكينية”. فهل تصدق صحيفة ديرشبيغل الألمانية التي وصفت محاولة جونسون استرضاء بايدن بالمحاولة الشاقة؟
إن الحديث عن ضرورة الحد من الغازات الملوثة للجو والبيئة، يعني بالضرورة الحد من النشاطات الاقتصادية؛ وهنا يتعارض الأمر مع مصالح قوى كبرى، وهي تمانع التوجه نحو الاستثمار في نشاطات اقتصادية صديقة للبيئة، أو نشاطات صناعية نظيفة وخضراء، لارتفاع التكلفة، وهنا تشتبك السياسة وتتداخل مع المال، فيظهر تأثير رجال المال والاقتصاد على السياسيين، وهذا ما زاد من صعوبة نقاش موضوع التغيرات المناخية في قمة المناخ بفرنسا 2015، خاصة من جانب الدول الصناعية الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين واليابان والهند. ويبدو أن جعل الطاقة أكثر تكلفة مسؤولية سياسية وهذا هو التحدي الماثل.
وللأسف فإن الدول النامية معرضة بشكل خاص لآثار تغير المناخ، وهي الأقل قدرة على الاستعداد له والاستجابة لآثار ارتفاع درجات الحرارة في العالم، وأحوال الطقس الشديدة مثل الفيضانات والجفاف وحرائق الغابات، وكذلك أزمات بطيئة الحدوث مثل ارتفاع مستويات البحر والتصحر. ويتوقع البنك الدولي أن يدفع تغير المناخ أكثر من 100 مليون شخص في الدول النامية إلى ما دون خط الفقر بحلول سنة 2030.
بيد أن تقديم الدعم للدول والمجتمعات الفقيرة، يمكنها من التأقلم وتنمية صمودها أمام آثار تغير المناخ. وتدابير مثل أنظمة التحذير المبكر من العواصف، والاستثمار في قنوات لتصريف مياه الفيضانات، وإنتاج محاصيل مقاومة للجفاف تعتبر فعالة جدا ومجدية من حيث التكلفة، ولا تقتصر على توفير الأموال وحسب، بل أيضا إنقاذ الأرواح وسبل المعيشة. وكل ذلك سيقود إلى تحقيق هدف التنمية المستدامة، وهي التنمية التي تضمن الاستجابة لاحتياجات الجيل الحاضر، مع عدم التعدي على حقوق الأجيال القادمة في المعيشة بمستوى يعادل الجيل الحالي أو يفوقه إن أمكن.
ولقد قدرت الأمم المتحدة حجم الأموال المطلوبة لمعالجة قضايا البيئة على المستوى الدولي بنحو 100 مليار دولار بحلول 2020. وعلى أية حال هي تقديرات نظرية أو دعائية تناقض التركيز الإعلامي المرتبط بقضية البيئة، خاصة عندما تصطدم بتحدي اتباع القول بالعمل، وهي مشكلة عويصة ترافق التعهدات الدولية تجاه العديد من القضايا.
ياسر محجوب الحسين