تم الإعلان، يوم الجمعة 2 يوليوز 2021، عن النتائج النهائية للانتخابات المهنية التي أجريت مؤخرا. وتكتسي نتائج هذه الاستحقاقات فائدةً مزدوجة على الأقل: فمن جهةٍأولى تـتيح إفراز النقابات الأكثر تمثيلية، أي تلك التي تتجاوز عتبة 6% من المندوبين المُنتخبين، وهي الوحيدة المُــخَــوَّل لها حق في المُشاركة في الحوار الاجتماعي ومختلف اللقاءات ثلاثية الأطراف الجهوية والدولية، وكذا في أشغال اللجان الاستشارية المنصوص عليها في مدونة الشغل. ومن جهة ثانية، وطبقاً لمُقتضيات الدستور والقانون التنظيمي لمجلس المُستشارين، يُــشَــكِّلُ المندوبون المُنتخبون هيأةَ ناخبة في عملية انتخاب أعضاء الغرفة الثانية، حيث سيكونون مَــدعوين إلى انتخاب 20 ممثلاً للمأجورين في مجلس المستشارين. وعليه، فإنه من المنطقي أن تحظى النقابات التي حصلت على أكبر عدد من المندوبين بأفضل تمثيلية داخل هذه الغرفة البرلمانية. وهذا دون الأخذ بعين الاعتبار المندوبين بدون انتماءٍ نقابي، والذين يُمثلون أزيد من نصف مندوبي العمال.
ويلاحظ أن هذه النتائج حملت معها بعض المُفاجآت، حيث أنها وحتى إن لم تقلب المشهد النقابي رأسا على عقب، حيث كـرست موقع أول نقابة في المغرب من حيث تمثيليتها في سائر القطاعات، كما من حيث تاريخ تأسيسها، ويتعلق الأمر بالاتحاد المغربي للشغل… رغم ذلك فإن هذه النتائج أفرزتترتيباً نقابيا جديدا بالنسبة لباقي مكونات المشهد النقابي،إذ احتل الاتحاد العام للشغالين المرتبة الثانية، مزيحا بذلك الكونفدرالية الديموقراطية للشغل التي صارت تشكو من بعض “الإجهاد” نحو المرتبة الثالثة.
أما بخصوص الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، وهي للتذكير نقابة قريبة من الحزب الأغلبي الحاكم، فلقد تلقت “بطاقة حمراء” تجعلها من الآن فصاعداً خارج “اللعبة” النقابية، بالنظر إلى كون هذه المُنظمة النقابية،التي أنشئت تحت مظلة حزب العدالة والتنمية، لم تتمكن من بلوغ عتبة 6% التي تُـــؤهلها للجلوس حول طاولة الحوار الاجتماعي.
أما في ما يخص النقابتين الأُخْــرَيَتــيْن: الفيدرالية الديموقراطية للشغل، والمنظمة الديموقراطية للشغل، والقريبتان، على التوالي، من كلٍّ من حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب الأصالة والمُعاصرة، فَهُمَا معاً لم تتوفقا في تحقيق الانطلاقة اللازمة لبلوغ عتبة 6%، بل على العكس تظل نتائجهما دون المُستوى الذي سجلتهما في انتخابات سنة 2015: 2.79% الآن مقابل 3.8% في 2015 بالنسبة للفيدرالية، و1.18% مقابل 1.84% بالنسبة للمنظمة.
لنعمق النظر، الآن أكثر، في قراءة مختلف هذه القضايا، من خلال الاعتماد على أرقام النتائج:
لقد بلغ عدد المندوبين المنتخبين في القطاعين العام والخاص معاً 47573، بزيادةٍ تقدر بـ36% مقارنة مع سنة 2015. وتعود حصة الأسد في ذلك إلى مندوبي القطاع الخاص “81%”. وهو أمرٌ طبيعي بالنظر إلى مكانة هذا الأخير في التشغيل.
كما انتقلَ عدد المؤسسات المحصية، من بين الوحدات التي تضم أكثر من 10 عمال، من 17019 وَحَدَة سنة 2015 إلى 24414 سنة 2021، في حين بلغ عدد المؤسسات التي نظمت فعلاً انتخابات مندوبي العمال 19553 وحدة، في مقابل 12084 في سنة 2015.
ويمكن تفسير هذا التطور التصاعدي، من وجهة نظرنا، بتظافر عامِلَيْنِ اثنين: أولهما الزيادة الطبيعية في حجم النسيج المُقاولاتي. وثانيهما التقدم في أجرأة تعميم الحماية الاجتماعية التي تُحفز على إدماج القطاع غير المُهيكَل. وهذا يؤشر على بوادر تغييرٍ مُرَشَّحٍ للاتساع أكثر مُستقبلاً.
لكن هذه التغييرات لم يستفد منها كل المشاركين في هذه الاستحقاقات، بنفس القدر. حيث يبدو أن الاتحاد المغربي للشغل والاتحاد العام للشغالين هما النقابتان اللتان استفادتا أكثر، مع تسجيل اختلاف نوعي هام في ما بينهما: فإذا كانت المركزيتان المذكورتان متساويتَيْ النتائج عددياً في القطاع الخاص من خلال حصول كل منهما على نحو 13% من المندوبين، إلا أنه ينبغي الانتباه إلى أنَّ الاتحاد المغربي للشغل قد حصل على تمثيلية واسعة في القطاعات الاستراتيجية التي لها وزنٌ كبير على مستوى تأثيرها في مجموع الاقتصاد الوطني وعلى مستوى مساهمتها في خلق القيمة المُضافة. ويتبين ذلك بكل وُضوح من خلال دراسة مقارنة دقيقة للنتائج بحسب حجم المقاولات. كما يتأكد ذلك من خلال البلاغ الصادر عن هذه المركزية النقابية غداة الإعلان عن النتائج، حيث يتوضح أن الاتحاد المغربي للشغل حقق في بعض القطاعات الاستراتيجية نتائج غير مسبوقة بلغت في بعض الحالات نسبة 100% من مجموع المندوبين المُنتخبين، كما هو الشأن بالنسبة لقطاعات: السيارات والطائرات والموانئ والطرق السيارة والأبناك…إلخ “أنظر الموقع الإلكتروني umt.ma”.
كما يتضح، أيضا، من خلال عمليات حسابية أجريناها انطلاقا من الأرقام الرسمية، أن الاتحاد المغربي للشغل قد حصل على نسبة 18.2% من المندوبين في الإدارات العمومية، و30% في الجماعات الترابية، و53% في المؤسسات العمومية.
وتبقى المسألة المتعلقة بالمرشحين المُستقلين “أي من دون انتماء نقابي”، تذكرنا في بعض جوانبها بالوضعية سيئة الذكر المتصلة بالمرشحين دون انتماء سياسي، والتي كانت الغاية منها تشويه الحياة السياسية وتفصيل الخريطة السياسية على المقاس. ومن حُسن الحظ أن ذاك الزمن قد ولى، ونأمل أن يحصل نفس الأمر بالنسبة لظاهرة المُرشحين من غير انتماء نقابي. فمن غير الطبيعي أن نرى أزيد من نصف المقاعد “51.35%” ينفلت من بين أيدي المنظمات النقابية. والأدهى أنَّ هذه النسبة تصلُ إلى 57.3% بالقطاع الخاص!
وفي الحقيقة، هذا الواقع السوسيولوجي يحتاج إلى دراسةٍ وتحليلٍ مُعمقيْن، وإلى أبحاثٍ ميدانية، من أجل فهم أسبابه وأبعاده وإسقاطاته. ولذلك نكتفي، اللحظة، بطرح بعض الملاحظات في شكل فرضيات ليس إلاَّ.
إن وجود هذه الشريحة من المندوبين المستقلين، بهذا القدر من الحدة، قد يُفهَمُ منه، لأول وهلة، ضُعف التواجد النقابي. كما يمكن تأويلُهُ من خلال تصرفات بعض مسؤولي المقاولات الذين تشمئز نفوسهم من كل تنظيمٍ نقابي، ويعمدون إلى “وأد” أي محاولة لتأسيس مكتبٍ نقابي معين. وهذا التصرفُ المُعادي للعمل النقابي المُنَظّم موجودٌ بكثافة داخل مقاولاتنا، وتُكَرِّسُهُ بعض الممارسات لبعض النقابيين الذين تُــعوِزُهُم التجربة اللازمة. وحتى عندما يَقْبَلُ عددٌ من أربابُ العمل بتنظيم الانتخابات على صعيد مقاولاتهم، فإنهم يلجؤون إلى أسلوبهم الخاص الذي يفضي إلى “تنصيب” من يشاؤون كمناديب للعمال. وفي حالاتٍ أخرى يُفَضِّلُ بعضُ النقابيين، من تلقاء أنفسهم أو حتى بتنسيقٍ مع المنظمة النقابية التي ينتمون إليها، الترشح كمستقلين، تجنباً للمواجهة مع أرباب العمل وتفادياً لإثارة غضبهم.
في الختام، نريد إثارة ملاحظتين اثنتين: الأولى نُسجل من خلالها، بارتياح، إجراء الانتخابات المهنية في موعدها رغم الظروف الصعبة بسبب جائحة كوفيد 19، حيث خرجت الديموقراطيةُ في بلادنا مُنتصرةً، لأننا في حاجة إلى منظمات نقابية قوية، ديموقراطية، وذات تمثيلية واسعة، بنفس قدر حاجتنا إلى هياكل دائمة للوساطة والحوار على جميع المُستويات. ولقد قطعنا خُطوة جبارة في هذا الاتجاه.
أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بالمرأة العاملة التي كانت حاضرة بقوة في هذه المعركة الديموقراطية، وحققت تمثيليتها قفزة ملحوظة، إذ انتقل عدد النساء المندوبات من 5349 امرأة في سنة 2015 إلى 9444 في سنة 2021 في القطاع الخاص لوحده. وهو ما يمثل زيادة قدرها 76.5%، ويشكل ربع مجموع المندوبين…نعم، من دون شك لا يزال هذا العدد محدودا وغير كاف، غير أنه يمكن اعتباره مشجعا للغاية.
< بقلم: د. عبد السلام الصديقي