يكاد يكون خطاب التشويق، بشكل من الأشكال، قاسما مشتركا بين الأجناس الأدبية على السواء، إذ لا سبيل لشد القارئ أو المشاهد وجعله رهينا بين ما يتلقاه يتلهف لمتابعته إلى الأخير، سوى بتأثيث العمل منذ بداياته بأثاث الدهشة والتشويق، ولا تكاد تكون لعمل إبداعي قيمة وأثر في نفسية القارئ وأفق تطلعاته، وإضفاء قدسية الدهشة والذهول، فهو لا يعدو أن يكون العنصر الأساسي في كافة الأعمال المكتوبة والمسموعة والمرئية. يمكن كذلك اعتبار العناوين الكبرى والغلاف الخارجي تشويقا يشد بتلابيب القارئ . فما هو التشويق؟ وما هي بعض تجلياته؟ وكيف يخلق لدى القارئ رغبة جامحة لمتابعة العمل.
التشويق إحساس مفاجئ يتفنن المبدع في خلقه،كما يعد منوسائل التسلية والترفيه. فالتشويق ليس حكرا على الخيال وحسب. بل قد يحصل هذا الشعور في دراما مصورة أو سلسلة من الأسباب التي تترك الشخص في مفارقة، مع الشعور ببعض الاضطراب. وفي هذا السياق وصف المخرج السينمائي ألفريد هتشكوك هذا النوع من التشويق بأنه يتجلى إلى الجمهور عندما يتوقعون شيئاً سيئاً يحدث أو يعتقدون أن لديهم وجهة نظر متفوقة على الأحداث في التسلسل الهرمي للسينما الدرامية للمعرفة، لكنهم عاجزون عن التدخل لمنع حدوثه. الأفلام التي لديها الكثير من التشويق تنتمي إلى النوع من الإثارة.
في تعريف أرحب، تتكون عاطفة الشخص حيال ذلك لما يكون هذا الشخص أمام مفارقة تستدعي معرفته حول تحول حدث ذي قيمة هادفة؛ وبالتالي فالتشويق هو جمع بين الترصد وعدم الإدراك في التعامل مع غموض الآتي من المستقبل، من حيث التنبؤات السردية.
ذهب الفيلسوف اليوناني أرسطو إلى القول: التشويق هو لبنة هامة من الأدب. وبعبارة عامة جداً، تتألف من وجود خطر حقيقي يلوح في الأفق وشعور بالأمل. إذا لم يكن هناك أمل فالجمهور يشعر باليأس. إن التشويق فن وبلاغة تتشربه اللذات القارئة ضمنيا في أي عمل إبداعي كيفما كان، ويحضر هذا الفن بشكل جلي ومتوقع في الروايات البوليسية.
بلاغة الخطاب التشويقي في النص الروائي:
التشويق في اللغة من شاق مصدره شوق، نقول شاقه الحب اليه أي هاجه وحركه، وشاقه أسلوبه أي أعجبه وتتبعه و طرب إليه ،فالتشويق شعور مختلط إمّا من الحزن أو الفرح مبهمة المصدر، وهي لا تختصّ فقط بالخيال بل إنّ عنصر التشويق غالباً ما يأتي من نصوص مكتوبة وتسلسل أحداث ينتابه الغموض ويضع القارئ في شك، خاصة إذا اكتشف القارئ أن النتيجة تفوق توقعاته، وعرّف البعض التشويق بأنه توتّر في السرد خاصّةً في القصص والروايات والكتابات الدرامية
يعد الإمتاع في اي عمل إبداعي سلطة لا مفر منها وعنصر بالغ الأهمية لتقييد المتلقي وجذب اهتمامه وتركيزه على العمل المقدم له، وذلك بإضفاء عنصر التشويق في مستوى من مستويات العمل خاصة في النص الروائي، لكونه عملا إبداعيا طويل الحجم عامر الأحداث والخطابات، فالرواية سلسلة من الأحداث تُسرد بشكل نثري طويل يصف شخصيات خيالية أو واقعية وأحداثا على شكل قصة متسلسلة، كما أنها أكبر الأجناس القصصية من حيث الحجم وتعدد الشخصيات وتنوع الأحداث، وقد ظهرت في أوروبا بوصفها جنساً أدبياً مؤثراً في القرن الثامن عشر، والرواية حكاية تعتمد السرد بما فيه من وصف وحوار وصراع بين الشخصيات وما ينطوي عليه ذلك من تأزم وجدل وتغذية يتميز عن باقي الأجناس الأدبية بمميزات كثيرة أبرزها الحجم الكبير الذي يتمتع به، وهذا ما يجعل من الخطاب التشويقي حبل سميك يجر به القارئ إلى الصفحة الأخيرة . إضافة إلى الخطاب التشويقي تتميز الرواية بعدة خصائص تجعل منها عملا متكاملا الأبعاد ومن أبرز هذه الخصائص :
الغلاف الخارجي؛ وهو السلطة الأولى في ذهن القارئ الذي يحمل رموزا دلالية ومفاتيح استكشافية، تضع القارئ أما مفارقات تشويقية تضفي على الرواية قراءة أولية تلامس ظلال المتن، ومن أبرز من قرأت له هذه التيمة بقوة الميلودي شغموم في رواية “عين الفرس”.
إن الخطاب التشويقي بلاغة أصولية نجدها بقوة في السرد الشفهي قبل تحوله للكتابة الإبداعية، فهو لا يزال قائما عند الحكواتيين المعاصرين يجمعون شتات المسامع، ويجعلهم واقفين ساعات طويلة بفضل حنكة الحكواتي وتفننه في بلاغة الخطاب التشويقي أو الاستهلالي ،ومنهم من يجلس جلسة حتى تنتهي الحكاية، كما نجده في حكايات الجدات، فلا نبالغ إذا قلنا بأن التشويق عنصر مهم في خطاباتنا اليومية و في الحياة ككل .
أسلوب التشويق في الرواية
يعتبر التشويق بنية ضمن نظام فني متغير يسعى التعبير الإنساني الأدبي والفني إلى خلقه وجعله محركا أساسيا لعناصر الرواية (اللغة، الأحداث، الأفكار، الزمان، المكان)، إنه مدار يطلي القول والنص بالإبداعية، وهو ملمح جمالي يربط العلاقة بين الكاتب والعمل و المتلقي.
إن الاهتمام باللغة الفنية، والتقديم والتأخيرتركيبا، والمجاز والتصريح، واعتماد التلغيز والإخفاء والمفاجأة يساهم في بناء التشويق الذي يحقق وجود الحكاية ويضمن استمرارية أثرها في ذهن المتلقي.
لقد وقفت عند خطاب التشويق و قد شدني باهتمام بليغ، في رواية “انتخريستوس” وجعلني أسيرا لصفحاتها، هذا التشويق النابع من أسلوب كاتبها المتفرد، وأحداثها المحبوكة المتسلسلة وقضاياها الملغومة التي تبطن أكثر مما تظهر، وحنكة كاتبها الروائي أحمد خالد توفيق، فخطابها التشويقي الاستهلالي يذيب في نفس القارئ ملل القراءة، ويجذبها لتسلق عباراتها المؤثرة طول عدد صفحاتها الكثيرة، هي رواية جديرة بالقراءة، فلنأخذ مثلا مقطعا من بداية صفحات الرواية:
“لقد أصبحنا وحدنا أخيرا .. أنا وأنت .. أخيرا انفردت بك ..
وصرت أملكك .. وأملك عينيك .. في كل مرة تنظر فيها إلى كلماتي .. و تقرأ فيها سطوري ..
ستكون هذه هي آخر رواية ستقرأها لي في حياتك .. فأنا على شفا حفرة من الموت ..
ولم يتبق لي في هذه الحياة إلا سويعات لا أدري عددها .. لكنني أعرف أنها قليلة .. وبرغم ذلك فهي كافية لأسقيك بما أريد أن أسقيك إياه من الحديث.
قبل أن أبدأ أقول لك .. يجب أن تقرأ هذا الكتاب وتحرقه .. فسيحاولون التخلص منه ومن كل من قرأه .. كما فعلوا مع كل الكتب التي شابهته”.
أحمد خالد توفيق (تاريخ النشر 2014]
هذه مجموعة من العبارات ابتدأت بها صفحات الرواية، تلوح في أفق التشويق والإثارة، كما تخللت أجزاءها وباقي صفحاتها رياح المفاجأة والدهشة ،بالإضافة إلى العجائبي و الغرائبي الذي يحفل بها هذا العمل الروائي.
لقد سار الروائي الفلسطيني “غسان كنفاني” نهج الخطاب الروائي البوليسي المبني على التشويق من خلال روايته “الشيء الآخر- من قتل ليلى الحايك؟”، قدم لنا نموذجا للكتابة التشويقية، ولأنها رواية لم يتم الاحتفال بها لارتباط الاسم العلم بقضية العرب الأولى”فلسطين”. من ثم تداول التلقي النقدي العربي الحديث لروايتيه “رجال في الشمس” و”عائد إلى حيفا”، دون بقية الأعمال الروائية المتميزة بجمالية تشويقها وشعريتها الرفيعة. فإذا كان غسان بهذه الرواية، انخرط في كتابة الرواية البوليسية، فإن الدكتور”عبد الله العروي” لجأ إلى توظيف الشكل البوليسي والخيال العلمي في الرواية الأخيرة من مشروعه “الآفة”. وهنا نلاحظ بأن وضعية كتابة رواية بوليسية عربيا، لا تتباين وكتابة رواية في الخيال العلمي.
بيد أن ما يثير إلى إشكالية التجنيس، وعبر تاريخية الرواية البوليسية عالميا، كون الذين برزوا في هذا النوع من الكتابة إما أنهم كانوا موظفين في جهاز الشرطة، ومن خلال حكيهم لملابسات وقوع الجريمة، يظهرون دقة وكفاءة وتمكنا في منطقةالحدث، وبالتالي قراءة نفسية المجرمين، وإثارة الشك في البعض دون الآخر، برغم الوقوع في الأخطاء.ويمكن أن يكونوا قريبين جدا من الدائرة حيث عن طريقها يجسدون كفاءتهم.إنهم بمثابة وسائط في الكتابة وعلى التأليف.
إن العديد من التجارب الناجحة في الكتابة الرواية البوليسية، استأثرت باهتمام المخرجين فأقدموا على تحويلها إلى حقل الصورة بما له من بلاغة التأثير وقوته، بل إن عملية التحويل وقوة التشويق أعادت التلقي لقراءة النصوص بهدف المقارنة، وتأملوا ما كتبه الروائي والباحث الإيطالي “أمبرتو إيكو” في هوامشه حول روايته الأولى”اسم الوردة”. كما تم تحويل أعمال روائية بوليسية إلى أحداث مصورة تترجم التشويق والإثارة من المكتوبة إلى المرئية ولعل روية “اللص والكلاب” للروائي المصري نجيب محفوظ خير دليل على ذلك.
ولكم نماذج لبعض الروايات البوليسية العالمية في هذا المضمار. روايات بوليسية من أفضل ما كتب في الإثارة والغموض والتشويق
الرمز المفقود – دان براون
جريمة في قطار الشرق السريع – أجاثا كريستي
نيلوفر أسود – ميشيل بوسي
العشاء – هيرمان كوخ.
> بقلم: عبد الهادي شفيق