عامر بشة روائي تونسي ماطر وغزير،
من مواليد عاصمة الجنوب صفاقس
سنة 1954
عضو اتحاد الكتاب التونسيين، ومتفرغ للكتابة التي تعني له الحياة، كما أنه ضمن فهرس الرواية العربية في تونس 2001 – 2007 في شهادة للدكتور محمد طرشونة، خيمته الواقعية متحولة وبعدها يأتي النص الروائي بهيا وبعديد من الخدمات.
على الباخرة التي أقلتنا من صفاقس إلى جزيرة «قرقنة» بمبادرة من المنتدى العربي علي الدوعاجي للأدب والفكر وجمعية رؤى ثقافية، رتبنا لهذا الحوار لـبيان24
> هناك الشيء الكثير الذي يمكن أن يقال عن حياتك، حدّثنا عن تلك الحوادث التي ورّطتك في متاهة الكتابة؟
> كنت في طفولتي أحسّ بالآخرين، أحسّ بتفوّقهم في دروب الحياة، أو بإخفاقهم. والآخرون كانوا بالنسبة إليّ، هم الجنديّ البطل في ساحة الحرب، وهو يدافع عن وطنه، والمعلّم الذي ينير عقول الأجيال، والفلاح الذي يكدح في حقله ليطعم أفراد المجتمع، وغيرهم. وفي نفس الوقت كنت أعشق جمال الطبيعة، ورحابة الكون، فأكتشف شيئا من الخصوبة في مخيّلتي. ولكي لا أطيل، أذكر أهمّ حادثة أدخلتني إلى عالم الكتابة السّحريّ ـ ولم أقل وقتها ورّطتني فيها ـ هي مع أستاذ اللغة العربيّة الذي كلّف التلاميذ في فصلي، وهو الثالث ثانوي، كلّفـنا بتأليف قصّة في المنزل، فعـملت عـليها بكل جهـدي، وموهـبتي، وحبّي لثراء لغـتي العـربيّة، فجاءت غاية في الإتقان حبكة وشكلا وأسلوبا، في مضمون يطرح مأساة أسرة فقيرة. وكانت المفاجأة صادمة حين أطلعنا الأستاذ على الأعداد التي أسندها إلينا، فكان عـددي تحـت المعـدّل بقليل، ففوجئت، وفوجئت أكثر حيـن قرأت ملاحظته، وهي تقول “على التلميذ أن يعتمد على نفـسه في تحريـر المواضيع” وهي ملاحظة في غير محلّها، إذ ألّفت القصّة بنفسي دون مساعـدة من أحد. وأردت أن أعلمه بذلـك، فكان ردّه “هل أنت جبران خليل جبران، لتكتب هذه القصّة الرائعـة؟ “فغـمرتني فرحة فائضة، وهو يقارنني بالأديب الكبير جبران. ثمّ حاولت إقناعه بعكس ما اعتقـد هو. وفي الأخيـر أكمل لي معـدّلي. يومها أدركت أنني أستطيع أن أكون كاتبا. ثمّ قرّرت ذلك، وبدأت أسعى إلى تحقيق غايتي بإصرار.
> من أين جئت الرواية؟ وماذا تعني الكتابة.. هذا القدر الوجودي، في اللحظة الراهنة؟
> ولجت الرواية من فوضى الواقع، ومن معاناة الفقراء، ومن الظلم السّائد في الأرض.. ومن باب الرغبة الملحّة في بناء العالم من جديد، ولو روائيّا. الكتابة تعني لي الحياة، والصّراع ضدّ الموت. لكنّ هذه الحياة أصبحت في عصرنا الراهن مضطربة إلى حدّ غابت فيه السعادة البشريّة، أو هي على أهبة التلاشي والغياب.
> مرة هتف يسوع “إلهي لماذا تخلّيت عني” وأنت بم تصرخ، لو صرخت؟
> الصّرخة في أعماق نفسي أحسّ بها مكبوتة. ولو فجّرتها لصرخت “أيّها الإنسان، كفى تلويثا للأرض. حافظ على حياتك الأرضيّة من الانقراض، فبانقراضها تكون نهاية وجودك في الكون”.
الأميركيّة توني موريسون تمكث تسعة أيّام متواصلة لتكتب دون انقطاع.. بالمناسبة، هل لديك طقوس معيّنة في الكتابة؟ وهل كتابة النهار هي ذاتها كتابة الليل؟
** إنّي أقرأ كل يوم، تقريبا.. قبل القيلولة، وفي وسط السّهرة. أمّا الكتابة فإنّي أمارسها كل يوم أيضا، حيث أكتب عند الفجر، أو في المساء، أو أثناء الليل. وقد أكتب في اليوم فقرة أو صفحة أو صفحتين، ثمّ أعيد العمل على ما كتبته في انتظار أن يستقيم، أو في انتظار أن تأتيني أفكار جديدة لأتابع بها إبداع الرّواية. ويوجد اختلاف بالنسبة إليّ بين كتابة النهار وكتابة الليل، فأثناء الليل أبدع عادة، وأثناء النهار أعيد العمل على ما أبدعته.
> الواقعيّة الاجتماعيّة، الواقعيّة السحريّة، الواقعيّة الانتقاديّة، فأين نجدك في خيمتك؟
> خيمتي متنقلة، لا تستريح في مكان معيّن، أو في واقعية معيّنة، فهي دائمة الترحال لكشف خفايا العالم، واستجلاء كوامن النفس البشريّة. أحيانا أجدني مائلا إلى الواقعيّة الاجتماعيّة، وأحيانا إلى الواقعيّة الانتقاديّة، ولا أمنع ذاتي المبدعة من الغوص في بحر الواقعيّة السّحريّة، ليأتي العمل الرّوائي باهرا وجذّابا.
> جميل الهمّامي يرى أن شخصيّاتك الروائيّة كرويّة، وغير ثابتة، كما تقدّم خدمات دراميّة. ما تعليقك؟
** أشكر الأستاذ جميل الهمّامي، كما أشكر كل الذين يهتمّون بكتاباتي الرّوائيّة ويكتبون عنها. جميل الهمّامي يرى أن شخصيّاتي الروائيّة كرويّة وغير ثابتة، كرويّة بلغة الشباب المفتون بلعبة كرة القدم. إنّي أحترم آراء النقاد والدارسين، وأقول إنّ شخوصي الروائيّة هي في الحقيقة متطوّرة ومتجدّدة، في حياتها الاجتماعيّة، وفي حالاتها النفسيّة. وربّما أراد الأستاذ جميل أن يعبّر عن هذا بوصفه المشتقّ من الكرة غير الثابتة على أرضيّة الملعب. ورواياتي بطبيعتها تفتح بصورة نسبيّة خدمات دراميّة، وهي متعدّدة الأبعاد.
> لغتك بسيطة ساحرة، وتتصيّد القارئ.. فمن أيّ معجم أتيت بهذه اللغة؟
> ما تقوله سيّدي عن لغتي إنّها بسيطة ساحرة، وتتصيّد القارئ، وأيضا تقدّم له ما يلائمه ويلائم ذوقه، كما لاحظ بعض النقاد، هو ما أحسّه به فعلا، وأسعى دائما إلى تحقيقه. إنّني أكتب بهذه اللغة البسيطة والعميقة، وقد أتيت بها من معجم الجمال، ومن إحساسي بحياة اللغة التي لا تموت بإحياء جمالها دائما.
> أنت روائيّ غزير، وماطر، فما الحكاية؟
> ما أجمل الـغزارة، وما أجمل المطر حين يكون غزيرا. وكذلك ما أجمل الكتابة عندما تكون في مثل هذه الصّورة الرّائعة. الرواية هي عالمي السّحريّ الذي لا أستطيع الخروج منه. ولو خرجت لفترة زمنيّة قصيرة بغية التأمّل، فإنني سرعان ما أعود إليه. وهي صوتي إلى الإنسان وإلى العالم. هذه الغزارة في الكتابة الروائيّة وإصدار الرّوايات سببها مواظبتي على الكتابة التي ما تزال مستمرّة، مع إصراري على التجدّد، وتقديم الإضافة لجنس الرواية الذي أريده خصبا ويلامس الهمّ النبيل لدى الإنسان، ويرقى بخطابه إلى المستوى الفنيّ الخلاّق.
> متى يرتعش قلم عامر بشّة؟ وأين يجد الرواية؟
** الكتابة الإبداعيّة ممارستها صعبة، وهي تتطلب كثيرا من الوقت والصّبر. والنسيج الروائي لديّ يتكوّن على مراحل، إلى أن تكتمل الرواية وتغدو مهيّأة للخروج إلى الناس. وأنـا أمسك القلم بغية ذلك عندما أكون في حالة هدوء نفسيّ واجتماعيّ، وليس في وقت محدّد، أو في مكان معيّن. وتحفّزني على الكتابة ولادة فكرة جديدة أحسّ فيها روح المغامرة، وإحداث الصّدمة التي تـوقظ الإنسان من غفلته. ثمّ تتطوّر هذه الفكرة فتصبح موضوعا شيّقا لرواية. ويحفّزني جمال امرأة، أو روعة مشهد طبيعيّ، أو اهتمام قارئ أو قارئة، أو مقال ينشره ناقد حول أحد أعمالي.
أجد الرواية في معالجة القضايا الإنسانيّة والكونيّة، وفي حبّ الوطن، وحبّ الحياة، وفي ثنائية الخير والشرّ، ناظرا إلى الجانب الخيّر في الإنسان الذي يدعو إلى الحرّية والعدالة بين بني البشر، في عالم مليء بالظلم، وبما يحدثه هذا الظلم من فوضى، ومن تشويه للواقع الإنساني.
> من بين حروفك تفوح
>رائحة صفاقس التونسيّة.. فإلى أيّ مدى تأثرت ببيئتك المحيطة؟
** مدينة صفاقس الجميلة، المناضلة، هي موطني الرّائع الذي أنطلق بيانمنه، وإلـيه أعود. هي موطن طفولتي وأحلامي في وطني العزيز تونس، البلاد الكبيرة بتاريخها وأهلها وسحر طبيعتها. لقد تأثرت ببيئتي ومحيطي كمعظم الكتّاب، وأضيف إنّني تأثرت إلى حدّ العشق.
> بم يهتمّ عامر بشّة؟
>إنّني أهتمّ أوّلا بابتكار أشكال جديدة لرواياتي من عمل إلى آخر، برغبة أكيدة في خلق الإضافة الفاعلة إلى الرّواية التونسيّة والعربيّة والعالميّة، ثمّ بكل شيء جميل في الوجود. وأهتمّ بالمطالعة وأحرص على ممارستها يوميّا. وأهتمّ بالفنّ التشكيليّ فأرسم أحيانا لوحة تجريديّة. وأهتمّ بالموسيقى، فأستمع إلى بعض الأغاني القديمة الخالدة. هذا فضلا عن اهتمامي البالغ بما يجدّ في العالم من أحداث نبيلة، أو من أحداث مدمّرة تنجم عن عبث الإنسان أو عن عبث الطبيعة.
> بما يحلم عامر بشّة، روائيّا، وسياسيّا؟
>روائيّا، أحلم بأن تكون الرّواية هي أدب المستقبل، فعلا. وأن تكون رواية تونسيّة، ومغاربيّة وعربيّة، متطوّرة، ومتجدّدة، تعبّر عن هموم الإنسان العربي، بانفتاح عن الواقع البشري، مع وارف احترامي لبقيّة الأجناس الأدبيّة. وسياسيّا، بأن يجتاز وطني مراحله الصّعبة، ويصبح مزدهرا وآمنا، ويطيب فيه العيش لكل سكّانه، مع دوام علاقاته راقية بأشقّائه العرب من المغرب والمشرق، وبأصدقائه من أقطار الأرض. وكونيّا، أحلم بعالم مفعم بالسّلام لا تنهشه الفوضى، ولا تهان فيه كرامة الإنسان..
حاوره: عبد الله المتقي