تعتبر السينما من بين أشكال التعبير الفني الأكثر انشغالا بقضايا الإنسان. هذا الإنسان الذي ظل قلقا بشأن كينونته، إنه لا يكف عن تجريب كل الوسائط لترويض الطبيعة ثقافيا، بحثا عن الانتماء الآمن للمشترك الجمعي.
ووسط الصخب البصري والحوارات “الشفافة” التي أصبحت تغمر وسائط التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري، تتزايد الحاجة إلى السينما بوصفها فنا يحكي بـ”ذكاء” و”عمق” وبشكل “بسيط” هموم الكائن البشري، بانتقاء سلسلة من المشاهد البصرية المكثفة رمزيا، والحوارات المشبعة بالمعاني والدلالات.
وفي هذا الصدد، اخترنا في جريدة بيان اليوم الوقوف في هذه الزاوية طيلة شهر رمضان عند بعض الأعمال السينمائية، التي اهتدى مخرجوها إلى معالجة مواضيع اجتماعية وسياسية وثقافية، برؤى فنية وتصورات فكرية مختلفة تعكس اهتمامهم بمشاكل الإنسان.
قد يبدو في الظاهر، أن بعض الأفلام تصور تجارب أشخاص أو جماعات تنتمي لبيئات في مناطق جغرافية أخرى بعيدة بآلاف الأميال، إلا أنها رغم ذلك، تنقل ضمنيا انشغال الذات الإنسانية بوجودها كفرد أو بانتمائها إلى الجماعة.
أن تشاهد فيلما سينمائيا، معناه أن تحجز تذكرة لرحلة سفر جميل واستثنائي، يمثل فرصة للتأمل والتفكير، ولإعادة النظر في الكثير من الأشياء التي قد تبدو مع مرور الزمن من البديهيات، لاسيما في عصر يتسم بالإسهال في “الإنتاج”، إنتاج “اللاشيء” في الكثير من الأحيان.
إننا لا ندعي في هذه الزاوية، تقديم قراءات نقدية عميقة أو أكاديمية، بقدر ما نتوخى الوقوف عند بعض الأعمال الفنية التي حظيت بإعجاب النقاد والمتتبعين.
فيلم FALL للمخرج البريطاني سكوت مان
الموت في سبيل “اللايكات”
باتت وسائل التواصل الاجتماعي تعج بالفيديوهات، توثق لمختلف أشكال الحياة، في اللباس، والأكل، والموسيقى، والرياضة، والتحديات المميتقة والمغامرات المجنونة حتى، كل ذلك على سبيل “جيم”، و”برطاج”، و”الكومونطير”.
وفي هذا الصدد، يحكي فيلم FALL (السقوط)، للمخرج البريطاني سكوت مان، عن تجربة نقل مغامرة تسلق برج إذاعة خارج الخدمة، يبلغ ارتفاعه 2000 متر، لمستخدمي وسائل التواصل الافتراضي، ويتعلق الأمر باقتراح شايلوه هانتر (فيرجينيا غارد نر) على صديقتها بيكي كونور (غريس كارولين) التي كانت تعاني من اكتئاب نفسي حاد، بعد وفاة زوجها دان، أثناء تسلق أعلى الجبل بشكل جماعي.
بدأت رحلة تسلق القمة الحديدية المهترئة، بشكل عبثي، وغير منظم له من قبل، كمفاجأة من هانتر لبيكي التي رفضت أن تخوض التحدي، لأنها منهارة نفسيا، اثر صدمة وفاة زوجها.
وبالرغم من محاولات الأب إقناع ابنته بالتخلي عن ذكريات الماضي الذي يربطها بدان، وعيش تفاصيل حياتها بعيدا عن الحزن الذي غرقت فيه، لدرجة الإدمان على تناول حبوب التخدير، وشرب الخمر لحد الثمالة، إلا أنها ظلت ترفض توجيهات ونصائح والدها.
وشدت هانتر وبيكس الرحال نحو البلدة التي توجد بها القمة الفولاذية القديمة، والتي كانت تستعد السلطات إلى هدمها، حيث تتموقع في صحراء نائية وموحشة، ترتادها النسور فقط..
ولم يدع إصرار هانتر التي تتخذ من تسجيل فيديوهات “التحدي” وبثها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، كمصدر دخل لها، المجال لتردد واعتراض بيكي على مغامرة التسلق، نظرا لفقدانها اللياقة البدنية بعد 11 شهرا من التوقف، عقب حادث موت دان الأليم، وكذا بفعل الإحباط النفسي، وغياب التركيز.
ستنجح الصديقتان في تسلق القمة الحديدية التي لا تشبه القمم الجبلية، وإن كان الخوف والحذر قد سكن بيكي طيلة رحلة تسلق السلم المتآكل بالصدأ، والذي فقد أثناء عملية الصعود العديد من “البلونات”.
ستحتفل المغامرتان بإنجاز التسلق، بتوثيق صور وفيديوهات على منصة القمة، من خلال حركات بهلوانية ورياضية، سرعان ما ستؤدي إلى السقوط الكلي للسلم الحديدي، ومع هذا التحول في مسار الفيلم سيبدأ مسلسل “الإثارة” و”التشويق”، كما عود المخرج سكوت مان جماهيره.
واستشعرت هانتر وبيكس خطورة الوضع، لأنهما تتواجدان في مكان خال من الناس، لهذا ستشرعان في البحث عن حلول للنجاة من الورطة التي وجدتا نفسيهما فيها، خصوصا وأنهما لم يخبرا أقربائهما بتفاصيل وجهتهما.
جربت الصديقتان في البداية مجموعة من محاولات الاتصال، برمي الهاتف إلى أسفل القمة الحديدية، ونشر رسالة “الإغاثة” على حسابها بـ”الإنستغرام”، لأنه لا وجود لتغطية لشبكة الاتصال في الأعلى، كما أنهما حاولا أيما مرة بعث رسالة عبر طائرة “الدرون” إلى الفندق الذي أقيمتا فيه ليلة واحدة، بيد أن الفشل كان حليفهما في المحاولتان معا، وهو الفشل الذي اعترضهما أيضا، في لفت انتباه أحد الغرباء لإنقاذهما.
وحتى عندما نجحتا في التواصل عن طريق شعلة نارية مع شخصين كانا بالقرب من الفضاء، لم يقدما المساعدة لهما، واكتفيا بسرقة سيارتهما التي كانت عند بوابة السياج الذي يحيط بالقمة.
وأثناء وقت مستقطع من ورطة المغامرة، ستفتح بيكي النقاش حول علاقة الحب التي كانت تجمعها بدان، إلا أنها ستكتشف أن هذا الأخير، كان يخونها مع رفيقتها هانتر التي وشمت الأرقام الثلاثة “143” في أسفل قدمها، وهي الأرقام التي تدل على كلمة “أحبك” لدى دان، لتدخل بيكي في صدمة ثانية، بعد صدمة سقوط السلم الحديدي.
وفي هذا الصدد، ستوجه بيكي انتقادات لهانتر، وعبرت عن امتعاضها من الخيانة، ما جعلها تتخلص من خاتم الزواج في القمة، إيذانا بنهاية قصة الحب التي عاشتها مع دان، علما أنها ظلت متشبثة بالعلاقة ما بعد وفاته.
وسيكشف المتلقي بعد تطور الأحداث أن لدى الإنسان طاقة محدودة على الصمود والمقاومة، لهذا ستسقط هانتر جثة هامدة على الأرض، وستكون أداة مساعدة على لبيكي التي ستنجو بأعجوبة من العمود الفولاذي الخطير.
وإذا كان فيلم FALL في ظاهره يناقش فكرة التسلق والمشاكل التي تواجه المغامرين أثناء ممارسة هذه الرياضة، فإن هذا التسلق يحيل أيضا على فكرة العلاج التدريجي للخوف والإحباط والاكتئاب النفسي الذي يدخل فيه الأفراد، وهكذا كانت هذه التجربة فرصة لبيبي للتخلص من كوابيس وفاة دان الذي اكتشفت بشكل متأخر قصص خيانته.
وبالفعل، تمكنت بيكس من تطهير نفسها على منصة القمة الفولاذية، واستطاعت أن ترجع ثقتها التي عن طريقها نجت من الموت المحقق، لتعود إلى معانقة والدها الذي رفضت لمدة طويلة التواصل معه، لا لشيء إلا لأنه كان يتألم لحالها، وهو يراقب تحركاتها وتصرفاتها “الغريبة”.
ومن جهة أخرى، يتناول الفيلم بشكل غير مباشر قضية السعي وراء الشهرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وما ينتج عنها من مخاطر، استنادا إلى هذه القصة، التي تطرح تساؤلا حول حدود المغامرة والمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الأشخاص في سبيل جذب الانتباه على الإنترنت.
وهكذا، تمثل هانتر، على وجه الخصوص، جيلا من الشباب الذي يعتمد بشكل كبير على منصات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، يوتيوب، انستغرام، تيك توك..)، ذلك أنها لا تخوض المغامرات لمجرد المتعة، بل تحاول توثيق تجاربها الخطيرة لجذب المتابعين وزيادة شهرتها، وتحقيق الانتشار الواسع لحساباتها، وبدا ذلك جليا من خلال إصرارها على تسلق البرج المهجور، ليس لتحقيق الحلم، فقك، وإنما أيضا للحصول على محتوى مثير لوسائل التواصل الاجتماعي.
ويقدم الفيلم، بشكل ضمني، نقدا لثقافة المخاطرة من أجل المحتوى الرقمي، حيث يعكس كيف أن بعض الأشخاص قد يسعون إلى جذب الانتباه بأي ثمن، ولو استدعى الموضوع معانقة الموت، ومن ثم فإن هوس هانتر بالعالم الافتراضي، سيدفع بيكي إلى اتخاذ قرارات متهورة تتضمن تسلق برج خطر، مما يعكس ثقافة التحديات والمخاطرات التي يتم نشرها على الإنترنت.
ومن خلال موت هانتر في النهاية، يقدم الفيلم رسالة تحذيرية قوية، مظهرا كيف أن السعي وراء الشهرة المزيفة يمكن أن يؤدي إلى نهايات أليمة ومأساوية، قد تبلغ حد الموت.
ويعكس الفيلم بوضوح كيف أن الأشخاص قد يتخذون قرارات متهورة ومبنية على رغبات اللحظة دون التفكير في العواقب الطويلة الأمد، صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة وأداة فعالة للتواصل والإبداع، لكنها تخفي أيضا وجهها المظلم عندما تقذف بمستخدميها إلى “الدمار” و”الموت” باسم التحدي لتحقيق الشهرة والربح المادي.
****