جراء جائحة «كوفيد – 19»، عاشت بلادنا، على غرار معظم بلدان العالم، حالة حجر صحي استمرت مدة تناهز ثلاثة أشهر أو تكاد، جعلت الآلة الإنتاجية، والحياة الاقتصادية، تتعثران بشكل شبه كلي، وانخفض ناتجنا الداخلي انخفاضا خطيرا، وتوقفت واردات السياحة الدولية على البلاد، كما قلّت تحويلات «مغاربة العالم».
أما الاستثمارات الأجنبية المباشرة فانكمشت بشكل ملحوظ.
ولا يمكن أن نعتبر كل تمظهرات هذه الجائحة سيئة وسلبية، حيث سجلنا سلوكات وتصرفات إيجابية، برهن عنها أفراد شعبنا، ويمكن أن نوجزها في أمرين اثنين: روح التضحية وروح التضامن.
غير أن الأوضاع الحالية كشفت عن اختلالات ومظاهر عجز بينة، ليس في الميدان الاقتصادي فقط، بل وكذلك، وأساسا، في الجانب الاجتماعي بتعميق فوارق مهولة، مع الأسف، عانى منها مجتمعنا منذ مدة غير هينة، وما زال يعاني منها الأمرين.
وحتى وإن أشرفت ظاهرة الوباء على الانحسار، فهذه الظواهر الاجتماعية السلبية تلزمنا بمراجعة الذات، وتحمل مسؤولياتنا كاملة، وبالتالي هل يُسمح لنا كأمة، وبعد هذه المدة التي مررنا منها ونحن نجابه الجائحة، وبعد ما لمسناه من هفوات غير مرضية، وغير مقبولة، في نسيجنا الاجتماعي، أن نعتبر أن لا شيء أساسي حصل، ونكتفي، بالتالي بحلول ترقيعية لواقع أبان عن عدم قبوله للاستمرار؟
إن هذا الاختيار، إن حدث، سيكون أفظع من الداء الذي نعاني منه، لأنه سيكون بمثابة «كي ساق من خشب»، ودون أن يتحول المرء إلى «نذير شؤم»، فيمكن أن نقول إننا بمثل هذا التصرف سنصل إلى الهاوية، لا قدر الله.
لذا علينا أن نتمعن في المشاكل التي طفت على السطح خلال هذه الفترة (فترة مجابهة الجائحة)، كما علينا أن نخوض في تعميق ما ينادي إليه العديد من المتتبعين، أي الدخول في مرحلة جديدة، أعمق من التغيير الذي شرعنا في تحقيقه قبل عشرين سنة والذي تقوى بشحنة إضافية سنة 2011.
لهذه الأسباب فالتخمينات، والأفكار التي سنقدمها في هذا المقال، لا تطمح إلى الإلمام بجميع جوانب الموضوع الذي نحن بصدده، حيث أنها ستكتفي بالتطرق إلى بعض مظاهره الاقتصادية والاجتماعية.
لقد أبرزت الجائحة واقعا اجتماعيا خطيرا، أكده رسميا وبشجاعة تصريح السيد وزير الاقتصاد والمالية أمام غرفتي البرلمان، عندما أعلن عن إنشاء صندوق دعم وتضامن يمكن من مد يد المساعدة إلى حوالي 4 ملايين و300 ألف أسرة (4.3 مليون)، أي ما يناهز 20 مليون نسمة من ضمن 35 أو 36 مليون مواطن ومواطنة.
إن هذا الواقع يسائل جميع القوى الحية بالوطن، لاسيما عندما نتذكر أنه ملازم لتعطيلٍ شبه عام مفروض على آلتنا الإنتاجية.
وردا على هذا الأمر بادر البعض، فرديا أو جماعيا، بتقديم تصوراتهم واقتراحاتهم لتجاوز المعضلة، هكذا تفضل الاتحاد العام لمقاولات المغرب بعرض «مخطط من أجل انطلاقة مجددة لآلة الإنتاج». ومن المنطقي أن يركز المنتمون إلى نقابة أرباب المقاولات، على ما يهم، أو ما يمثل أداة مساهمتهم في الحياة الوطنية أي المقاولات التي يمتلكونها أو التي يديرونها.
فمقترحاتهم هذه، إن كانت تستجيب إلى ضرورة وطنية، وهي عودة المقاولات الصناعية والمقاولات «الخدماتية» إلى العمل، فإنها تثير، رغم كل شيء، ملاحظات، نجد من بينها ما يبدو مطابقا لـ «المصلحة العمومية»، في هذا الظرف بالذات، كتلك التي تنادي إلى «توفر دولة أكثر (تدخلية)». لكن من حقنا أن نتساءل عن نوعية وطبيعة هذه الخصلة المطلوبة من الدولة، هل الهدف من ذلك هو فقط «إنقاذ العرض وإذكاء الطلب» والعمل من أجل «تغيير الاقتصاد الوطني»؟، كما ورد في نص وثيقة اتحاد المقاولات.
فبجانب هذه المطالب التي تعتبر إيجابية، حتى وإن بقيت ملتبسة، وهذا شيء طبيعي لأن «كل فرد يرى الظّهر عند عتبة منزله» (Chacun voit midi à ça porte)، نجد مقترحات أخرى، يمكن اعتبارها سلبية، أو على الأقل متناقضة بعضها مع بعض، كتلك التي تعلن عن رفض تفعيل قرار، اتفق حوله قبل سنتين، والقاضي بزيادة في قيمة الحد الأدنى للأجور بـ 5 بالمائة مع حلول شهر يوليوز المقبل، وهو ما يتعارض مع فكرة «تقوية الطلب»، أي الاستهلاك الذي تؤكد عليه الوثيقة.
لكن ما يزعج أكثر المتتبع للحياة الوطنية (حتى وإن لم تكن للاتحاد العام لمقاولات المغرب أي مسؤولية في ذلك) هو أن مسلسل إنعاش الآلة الإنتاجية الوطنية، يقتضي مساهمة طرفين أساسيين وهما: الرأسمال ومن يمثله، من جهة، والعمل ومن يعبر عن مصالح ومطالب الشغيلة من جهة ثانية، غير أننا سمعنا رأي وتصورات أرباب المقاولات في النازلة، أما ممثلو العمال، أي النقابات، فإننا نجدهم صم بكم!.
هل يعزى هذا الموقف (غير المناسب في اعتقادي) إلى احتجاج النقابات على عدم استدعائها لتكون طرفا داخل «لجنة اليقظة الإستراتيجية؟».
إن هذا الواقع الذي يرفضه الجميع والذي لا يهم النقابات لوحدها، بل يشمل كذلك الهيئات السياسية ومنتخبي الجهات، لا يشفع للنقابات صمتها.
ومهما كان من أمر، يمكن القول إنه حان الوقت لتتدخل في النقاش كل القوى الحية في الوطن، وبدون إقصاء لأي واحدة منها في النقاش والتحاور حول مغرب ما بعد كوفيد 19.
وهذه الملاحظة تعود بنا إلى صميم الموضوع أي كيف يمكن أن «نغير» الاقتصاد الوطني تفعيلا للتعبير «المحفز» الوارد في وثيقة الاتحاد العام لمقاولات المغرب؟.
كيف إذن يمكن لنا أن نحول أفراد الـ 4.3 مليون أسرة، التي تتسلم مساعدة من الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا «كوفيد- 19»، من موقع أشخاص معوزين محتاجين إلى دعم وتصدق، إلى موقع أشخاص يتقاضون أجورا مقابل عملهم؟
إن هذا السؤال يجد تبريره في ثلاثة أمور:
1. إن هذا الصندوق الذي أحدث لتدبير جائحة كورنا، محكوم عليه بعدم الدوام.
2. الطريقة المختارة حاليا، القاضية بتبليغ المساعدة، التي هي «صدقة» في الواقع، تذكرنا بالمثل المغربي المعروف والبليغ «ولّف عادة وترك عادة، عليها تتعادا»، وبتعبير أدق فإن العملية عبارة عن «قنبلة» مؤجلة على المستوى الاجتماعي، ونعلم جميعا أننا في حاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى استقرار أحوالنا لضمان سلامة حاضرنا ومستقبلنا الجماعي المشترك، دون أن نمر من خانتي السوط والسجن.
3. تغيير أو تطوير الاقتصاد الوطني، الذي ينادي به الاتحاد العام لمقاولات المغرب، لا يمكن له أن يقتصر على إعادة تحريك واقع اقتصادي أبان عن محدوديته، واستنفاد قدراته، فلا مناص من أن نذهب أبعد، وبالتالي فمن المحبذ أن نلجأ إلى وصفة ونموذج سارت على نهجهما كل الدول التي وجدت نفسها في مواجهة أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة، ألا وهي الأشغال الكبرى القادرة، في آن واحد، على تنمية الجهاز الاقتصادي وإيجاد حل للقضايا الاجتماعية الخطيرة.
وبدون أن نعود بالذاكرة التاريخية إلى تجربة «الأوراش الوطنية»، التي مرت بها فرنسا في منتصف القرن 19، يمكن أن نشير إلى «الصفقة الجديدة» أو الاتفاق الجديد أو «نيو ديل» (New Deal) التي أطلقت في عهد الرئيس الأمريكي روزفلت بعد الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929، تلك الصفقة التي اشتملت على أشغال كبرى، والتي عرفها المؤرخون بالألفات الثلاثة وهي: «الإغاثة والإنعاش والإصلاح» أي إغاثة العاطلين والفقراء، وإنعاش الاقتصاد، وإصلاح النظام المالي لمنع حدوث الكساد مرة أخرى، كما يمكن التذكير بما أقدمت عليه ألمانيا في نفس الفترة الزمنية (1929 – 1930) أو الأوراش الكبرى التي أنجزت زمن ستالين بالاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، أو ما أنجز بالصين خلال ما سمي بـ «القفزة الكبرى» التي مهدت الطريق إلى ما وصلت إليه الصين فيما بعد من تقدم وتحول.
إن هذا الاختيار له ميزة كبيرة، وهي أن له منفعتين اثنتين: منفعة اقتصادية وأخرى اجتماعية. لكن، إذا أردنا ربح مثل هذا الرهان، فما علينا، في مغربنا، إلا أن نوفر بعض المستلزمات (وهنا سنكتفي بالجانب الاقتصادي والاجتماعي بمعناه المباشر):
1
أولى هذه المستلزمات هي أن نجعل حياة صندوق الدعم والتضامن، حياة أطول من تلك التي أريدت له في الأصل، أن نمدده إلى خمس سنوات، عوض الاستجابة المؤقتة للاحتياجات المحدودة للمعوزين في أشهر معدودات. وهذا يقتضي أمرين إضافيين لتلك المستلزمة الأولى التي نسردها حاليا:
الأمر الأول هو توجيه النداء إلى أريحية المواطنين والمواطنات الذين لهم القدرة والاستعداد للمساهمة المالية، حتى تتمكن الدولة من التخفيف من العبء المالي المفروض على الميزانية والخزينة العامتين. أما الأمر الثاني فهو التحضير لإعادة التعبئة التي خاضتها البلاد عند تنظيم المسيرة الخضراء.
أما الأمر الثاني فيعني مطالبة مؤسسات دولية عمومية أو/ وخصوصية بتقديم دعم إما بدون مقابل أو في إطار نظام شبيه بذلك الذي استعمل خلال الحرب العالمية الثانية، وهو نظام ((Prét –bail الشبيه بنظام الليزين (Leasing) حيث تؤدى الديون المستحقة في هذا النظام بناء على ارتفاع الناتج الداخلي الخام للبلاد.
2
المستلزمة الثانية هي المتجسدة في كون الأشخاص المعنيين في إطار إنجاز الأشغال الكبرى مطالبين، إضافة إلى العمل الجسدي أو الذهني المطلوب منهم، أن يتابعوا دروس محو الأمية، إن كانوا أميين، أو الاندراج في حصص خاصة بتكوينهم المهني، إن توفرت لهم أسس القراءة والكتابة والحساب. وهذه التكوينات، من محاربة الأمية، أو اكتساب مهارات معينة، ستندرج في إطار نظام «التعلم مدى الحياة»، وذلك حسب مؤهلات كل واحدة أو كل واحد ممن سيشتغل في إنجاز الأشغال الكبرى.
ولا داعي للتذكير أن وزارة التربية الوطنية والوكالة الوطنية لمحاربة الأمية لهما ما يكفي من الطاقات والخبرات البشرية والتنظيمية للقيام بذلك مع مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني.
ولا شك في أن هذا التكوين والتعلم المصاحب له، سيساعدان على الإدماج السريع لما يسمى بالقطاع غير المهيكل في الاقتصاد المنظم، مع ما سيترتب عن ذلك من أرباح على المستوى العام، وعلى المستوى الفكري، والثقافي، وحتى على المستوى الجبائي.
3
لا يمكن اختيار هذه السياسة، أي سياسة الأشغال الكبرى من أجل التنمية، من دون وضع مخطط دقيق ومرتب بالنسبة لكل ميدان من الميادين التي ستشملها هذه الأشغال الكبرى.
فما هي يا ترى هذه الميادين والمرافق؟.
3 – 1 الميدان النباتي والزراعي والغابوي
يمكن الخوض في توسيع المساحات المغروسة بأشجار ملائمة للأوضاع المناخية والترابية لكل منطقة من مناطق البلاد (الزياتين – التين – الورديات – الخروب – الرمان – الجوز – الصبار، إلخ …)
إن لوزارة الفلاحة وأطرها الخبرة والنصوص القانونية والتنظيمية التي من شأنها تحقيق الهدف وإثراء الفلاحين والاقتصاد الفلاحي الوطني لاسيما إذا ما تركزت العناية على الفلاحين الصغار والمتوسطين في المناطق الجبلية والبورية.
وتجدر الإشارة هنا إلى وجود دراسة ومخطط في رفوف وزارة الفلاحة اسمه «مشروع ت – ت» (أي تاونات – تارودانت)، ويعني هذا المختصر (ت – ت) أن أطر الفلاحة وخبراءها وضعوا، منذ مدة، برنامجا يهدف إلى تشجير سفوح جبالنا من الريف إلى الأطلس الصغير.
لا شك أن هذا البرنامج – المشروع في حاجة إلى تحسين، علما أن الدولة سبق لها أن فكرت، في تقديم مساعدات إلى الفلاحين الذين يهمهم الأمر، حتى تنضج الأشجار التي ستغرس، لاسيما بالنسبة لصيانة مواشيهم من جهة وحماية الأشجار الصغيرة من تسلط الحيوانات عليها، من جهة ثانية.
وبجانب هذا العمل الذي يهم الأراضي الصالحة للزراعة، والتي من الممكن أن تسجل تطورا هائلا بفضل غرسها، هناك أراضٍ غابوية أصيبت بعملية جث أشجارها، فيمكن للأشغال الكبرى، والتعبئة التي تستوجبها، أن تمكن من إعادة غرس تلك المناطق، وتكثيف الجهود المبذولة، حاليا، في عمليات التشجير ومحاربة التصحر.
3 – 2 ميدان المواصلات
يشمل هذا الميدان التراب الوطني برمته، وسيعنى بجميع أنواع الطرق بدءا بالمسالك لفك العزلة عن سكان العديد من أريافنا، وصولا إلى الطرق السيارة، ومرورا بالطرق الإقليمية، والجهوية، والوطنية. هذا بدون إغفال ما يمكن القيام به من أشغال كبرى من أجل توسيع شبكة السكة الحديدية وإتمام برنامج بناء موانئ صغرى، ليس من أجل الصيد الساحلي فقط، بل وكذلك من أجل الملاحة الشاطئية (Cabotage) للتبادل التجاري ونقل السلع، وحتى لنقل المسافرين، لاسيما من يرغب في الوصول إلى مناطق وعرة ومنها بالخصوص مناطق الواجهة البحرية لجبال الريف.
بالنسبة لشبكة السكة الحديدية، لا بأس إن تذكرنا تجربة فرنسا في هذا الميدان، خلال النصف الأخير من القرن 19، حيث فتحت الدولة الباب على مصراعيه أمام كل من كان لديه نصيب من المال، ويود استثماره في إنشاء شركة تؤسس على طريقة الاكتتاب.
مكنت هذه العملية فرنسا من توسيع شبكة خطوطها الحديدية، مما ساعد على تنمية مناطق بكاملها، كانت معزولة ومتخلفة.
إن نهجنا نهجا شبيها بالذي سارت عليه فرنسا، سنستطيع إدراج عدد كبير من المواطنين في اقتصاد عصري، ومتطور، وتمكين مناطق تعاني العزلة من الالتحاق بركب التنمية، والتقدم، اقتصاديا واجتماعيا، لاسيما إذا حرصنا على إدخال هذه الشركات (المؤسسة على طريقة الاكتتابات) في الاقتصاد الاجتماعي والتعاضدي والتضامني.
3 – 3 ميدان الطاقات المتجددة
إضافة إلى ميدان المواصلات بمختلف أنواعها، باستثناء المواصلات السلكية واللاسلكية الحديثة، مثل تلك المعتمدة على الإعلاميات والرقمنة، يمكننا أن نضيف ما يهم الطاقات المتجددة (الريحية والمائية والشمسية)، وذلك على الأقل فيما يخص التجهيزات القاعدية.
في هذا الباب بالذات، أود شخصيا، أن أذكر بمشروع مهم لإنتاج الطاقة الكهربائية المائية على حافات سبخة الطاح، ذلك المنخفض الواقع بين مدينتي طرفاية والعيون، والذي له ارتفاع سلبي بالنسبة لمستوى المحيط الأطلنتي (ناقص 50 إلى 55 متر)، والبعيد عنه ببعض عشرات الكيلومترات.
في إطار هذه الأشغال الكبرى والتعبئة الجماهيرية يمكن مد قناة تأتي بماء المحيط إلى المنخفض، وتأسيس مجموعة من مراكز توليد الكهرباء باستعمال قوتي الانحدار والجاذبية.
هذا مثال من الأمثلة التي يمكن أن تساهم، ليس فقط، في تطوير المنطقة التي توجد بها هذه السبخة، بل وكذلك تطوير ما يجاورها من فضاء، لاسيما إذا اقترن توليد الكهرباء بتحلية ماء البحر… وأترك المجال مفتوحا لمخيلة القارئ.
إن قائمة ما يمكن إنجازه في إطار الأشغال الكبرى، وبتوظيف الطاقات البشرية المتوفرة، والتي ما زالت إلى حد اليوم غير مشغلة، ولا تستفيد من أي تنمية، لا تنحصر في ما أشرت إليه، حيث يمكننا كذلك التفكير في ما يمكن القيام به في قطاع السكنى والبناء وتنظيم فضاء حواضرنا، ومدننا متوسطة الحجم والصغرى، الحديثة منها والعتيقة، دون إغفال ما يلقب بـ «المراكز الناشئة» التي بدأت تبرز بسرعة متزايدة، نظرا لحرمان العديد من سكان أريافنا وبوادينا من بقع أرض يزرعونها ويقتاتون منها، هم وذويهم، ويجدون بالتالي، أنفسهم مرغمين على الهجرة إلى مدن لا يجدون فيها أي عمل كريم. فهذه «المراكز الناشئة» في حاجة إلى إعداد وتجهيزات تلبي حاجات منشئيها والوافدين عليها من سكان، وتوفير ماء الشرب والإنارة، إضافة إلى المستلزمات الأولى للحياة الاجتماعية المناسبة، من مستوصفات ومدارس ودور ثقافة ومراكز الترفيه وملاعب رياضية إلخ…
ولا شك في أن هناك ميادين أخرى يمكن الإشارة إلى إمكانية تنميتها وتوفيرها لشعبنا من مدارس ابتدائية، وإعدادية، وثانوية، وجامعات، ومستشفيات، ومراكز أبحاث، وتكوين أطر، وتكوين المكونين.
4
أكرر، أن تعبئة هذا الكم من اليد العاملة غير المشتغلة، أو على الأقل المشغلة بشكل ذاتي جزافي، سيمكن وطننا من خلق إنسان مغربي جديد، متفائل بالنسبة لنفسه، وبالنسبة لمصير وطنه، كما سيمكن البلاد من استدراك ما راكمته من تأخر في الميدان الاجتماعي، منذ أن فُرضت عليها مطلع الثمانينات من القرن الماضي، تلك الخطة المشؤومة الملقبة ببرنامج «التقويم الهيكلي» الذي أدى بنا إلى تراجع وتيرة تجهيز البلاد في ميداني الخريطة الصحية، والخريطة المدرسية، والجامعية، وذلك رغم الجهود التي بذلت عكس ما أوصى به مبتكرو هذا «البرنامج التقويمي» سيء الذكر.
إن الأوضاع قد تغيرت، سواء داخل البلاد أو على المستوى الدولي، وأصبحنا نسمع من خارج حدودنا أصواتا تعترف بما ارتكب من جرم في حق الشعوب، بسبب فرض هذه الأنواع من «البرامج التقويمية» عليها. ولقد أبان وباء كورنا المستجد «كوفيد – 19» عن مدى الآثار السلبية التي نتحملها كشعب عندما نتأمل في أعداد الأسر التي هي في حاجة إلى مساعدة ودعم لتلبية حاجاتها الأساسية.
إن اغتنام وطننا لهذه الفرصة التاريخية المتاحة له، وشروعه في تعبئة من النوع الذي نحن بصدد الكلام عنه، سيمكننا من استدراك ما تكبدناه، منذ بداية العقد الثاني من القرن الـعشرين، من عجز على المستوى الاجتماعي عموما، وفي قطاعات كانت تعتبر مكلفة وغير منتجة للثروة كالتعليم والصحة !
صحيح أن قضيتنا لا تتلخص في هذه الجوانب المتصلة بما يمكن أن نسميه بالبنى التحتية التربوية والصحية، لكن هذه الجوانب تمثل جانبا من العجز الذي تراكم في الميدانين التعليمي والاستشفائي.
يبقى أن الجانب الآخر لا يخلو من أهمية، ويدفعنا إلى إثارة قضايا نوعية متصلة بالبرامج ومضمونها، وبإشكالية تكوين المكونين، وبالاختيارات المتاحة للمتعلمين (التكوين الكلاسيكي، النظري، الإجرائي، التكوين المهني)، وكل هذه الأنواع التكوينية والطرق المتصلة بها مرتبطة باختيارات التلاميذ والطلبة أنفسهم، ولكن في آن واحد باحتياجات الوطن والمجتمع، بدون أن ننسى متطلبات البحث العلمي والتنمية.
لكن كل هذه الجوانب تبدو، لأول وهلة، بعيدة عن الأشغال الكبرى، واختيار هذا النهج لتطوير الآلة الإنتاجية الوطنية.
وحيث أن هذا المقال لا يدعي الإلمام بكل ما يهم تطوير حياة مجتمعنا فسنقف عند هذا الحد مؤكدين على وجود منطقة تماس كبيرة بين هذه الاقتراحات المتلخصة في اختيار سياسة الأشغال الكبرى وما تفرضه من تعبئة وتنظيم وما يهم مضامين سياستي التربية والتكوين والصحة العمومية.
في الخلاصة، يجدر بنا التأكيد، مرة أخرى، على أن الخوض في مثل هذا البرنامج (برنامج الأشغال الكبرى) يقتضي بالضرورة وضع مخطط وطني خاص وشامل، كفيل بتفعيله لتؤدي نتائجه إلى تغير كبير في أوضاع أمتنا المغربية وحياتها. وسيمكن من إثراء الوطن وجميع من ينتمي إليه، بجعل ناتجنا الداخلي يصعد إلى مستويات لم يعرفها من ذي قبل، وسيمكن في آن واحد (وهذا أهم) من تخليص شعبنا من الأمية والجهل، كما سيساعد على ظهور الآلاف، إن لم نقل الملايين من «نجاة بلقاسم»، إنه سيمثل بداية للتخلص من هذا الاقتصاد غير المنظم والخفي الذي يمثل حاليا، حسب الأخصائيين الاقتصاديين، ما يناهز نصف ناتجنا الداخلي الخام الحالي، وبالتالي فإن هذا المخطط، إن اعتمد وفعل، سيؤدي دورا مركزيا في انتقال اقتصادنا إلى مرحلة الحداثة ومستلزمات العصرنة، كما سيجعل من مواطنينا، مواطنين أكثر وعيا بأهمية الديمقراطية الحقة، من خلال إدراكهم لمضمونها بالممارسة.
لعل البعض سيرد قائلا بأن تعبئة هذا الكم الهائل من المواطنات والمواطنين، فوق طاقتنا، لكن يمكن، كرد على قولهم هذا، أن نذكر بما قام به المغاربة خلال تشييد «طريق الوحدة» سنة 1958 وما تحقق خلال إعداد وإنجاز «المسيرة الخضراء»، التي مكنت الوطن من التخلص من الاستعمار الإسباني بدون إطلاق رصاصة واحدة ورغم كيد الكائدين.
إن هاذين المثالين ليمثلان قدرة وطننا على إنجاز «المعجزات» بفضل الكفاءات التي يمتلكها وقدراته كجميع الشعوب الأخرى، على تنظيم ما لم يكن سهل التنظيم والإنجاز.
إن الوضع الاجتماعي والاقتصادي الناجم عن مرورنا بهذه الجائحة، جعلنا نشعر جميعا بنقائصنا وبضرورة تجاوزها بالعمل، لا بالكلام، وهذا يفرض على الجميع فتح الأعين أمام الواقع. فإذا لم نع في هذه الظروف خطورة الوضع، فما علينا إلا أن ننتظر – لا قدر الله – ما لا تحمد عقباه.
نعتبر صادقين أن على بلادنا أن تستخلص الدروس من تجاربها الماضية والحالية، والتي تبرهن على قدرة الوطن والمجتمع على الصبر والتجلد وتجاوز الصعاب، مهما كان حجمها ومصدرها.
إن التحديات التي نجابهها اليوم، تفرض علينا إيجاد الرد المناسب، ولا شك في أن اختيار طريق الأشغال الكبرى يمثل أحد المسالك الكفيلة بالانعتاق.
إن استقرار أوضاعنا في الحال أو مستقبل الأجيال الآتية ليفرضان ذلك.
> بقلم: إسماعيل العلوي