تدفع الحرب الروسية – الأوكرانية التي تدور رحاها بأوروبا الشرقية، والتي أججت التوتر بين الغرب وموسكو وتنذر باتساع رقعتها نحو، ما وصفه مراقبون، “حرب عالمية ثالثة” لها تكاليف باهظة ليس على المنشئات والبنية التحتية فقط وإنما على مستوى الأرواح وعلى ملايين الناس الذين تنقلب حياتهم رأسا على عقب، إلى تقليب صفحات الماضي، لاستحضار ما دون من تفاصيل حروب طاحنة جرت خلال القرن الماضي، وبداية القرن الحالي.
في هويات متداخلة، كما في روسيا وأوكرانيا، لم يبق أحد خارج الحرب. انتهت الحروب وحفرت جراحا لا تندمل وعنفا لا ينسى. وفي هذه السلسلة، تعيد “بيان اليوم” النبش في حروب القرن الـ 20 والقرن الـ 21 الحالي، حيث نقدم، في كل حلقة، أبرز هذه المعارك وخسائرها وآثارها، وما آلت إليه مصائر الملايين إن لم نقل الملايير من الناس عبر العالم..
حرب كوسوفو.. حرب نتيجة قرون من النزاع
تعد حرب كوسوفو من الحروب التي ساهمت في تغير الخريطة الأوروبية نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، كما تعد من النزاعات التي ما يزال النقاش مستمرا بشأنها وتركت الأجواء مشحونة بين عدد من القوى الأوروبية خصوصا بالبلقان.
تاريخ النزاع
يمتد النزاع بكوسوفو إلى قرون مضت، حيث كانت كوسوفو دائما محط أطماع مختلف الإمبراطوريات، وساحة عراك بين مختلف القوى في مختلف المراحل التاريخية، وذلك يرجع بالأساس إلى موقع وغناها وأرضها المعطاءة وسهولها الخصبة.
كانت كوسوفو من المناطق الواقعة تحت الحكم العثماني الذي امتدّ حتى 1912، وشكل المسلمون الأغلبية فيها، وبعد سلسلة من الحروب التي سميت “حروب البلقان” التي اندلعت بين عامي 1912 و1913 ، انتقل الحكم على كوسوفو إلى صربيا في دولة يوغوسلافيا، وأصبحت إحدى أقاليمها بعد الحرب العالمية الثانية.
في عام 1974 ووفقا للدستور اليوغوسلافي، صارت كوسوفو وحدة فدرالية سابعة في يوغوسلافيا، مما مكنها من إدارة أمورها بحرية أكثر، مما سيولد الكراهية في نفوس الصرب لها، وتوترت العلاقات بين الصرب والألبان في كوسوفو، خصوصا مع نشاط حركة “عصبة برزرن” التي كانت قد برزت في عام 1878 كأول حركة وطنية ألبانية تناضل للحصول على استقلال كوسوفو من السيطرة العثمانية، واستمرت هذه الحركة في نشاطها وتطورها حتى بعد استقلال كوسوفو عن الحكم العثماني، وإلحاقها بيوغسلافيا.
سحب الحكم الذاتي
بعد وصوله إلى الحكم في يوغسلافيا في عام 1988، قام سلوبودان ميلوسيفيتش الرئيس المنتخب بتفعيل وتنشيط الوطنية الصربية ومحاولة تجميع الصرب في كوسوفو، وبعدها قام مباشرة بسحب صلاحيات الحكم الذاتي من كوسوفو في عام 1990، وأخضعها لإدارة صربيا المباشرة، وجاء ذلك مزامنة مع احتدام الصراعات بالبلقان نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، والذي ترتب عنه استقلال كل من كرواتيا وسلوفينيا، وذلك بالضبط عام 1991.
ستؤدي هذه الأحداث المترابطة إلى إذكاء شعلة الاستقلال في نفوس حركة “برزرن”، التي بدأت تطالب باستقلال كوسوفو بشكل أكبر قوة وأكبر احتشادا، كما تزامن ذلك أيضا، مع اندلاع المعارك في البوسنة عام 1992.
سئمت الحركة التي تطمح إلى تحرير كوسوفو من السلمية في تحقيق مطالبها، وإنشاء دولة خاصة بها والانضمام إلى ألبانيا، لتشرع في الحشد من أجل تغيير “تاكتيك” المطالبة بالاستقلال وتنتقل من السلمية إلى المواجهة المباشرة، حيث شرعت الحركة في حشد المتطوعين وتوفير العتاد لما سمي حينها “قوات جيش تحرير كوسوفو.
بداية النزاع المسلح
في عام 1997 قامت قوّات جيش تحرير كوسوفو بمهاجمة القوات اليوغوسلافيّة، في أول هجوم رسمي، شكل مثابة للخروج من السلمية نحو المواجهة المباشرة، وهو ما ردت عليه قوات الأمن الصربية بهجمات قاسية، واستعانت بقوات المسح الأمني للمنطقة.
بدأ جيش تحرير كوسوفو بوصفه قوة صغيرة، وبمساعدة ألبانيا يتحوّل إلى قوة كبيرة حصلت على أسلحة ومتطوعين تبادر إلى الهجوم وتحقيق بعض الانتصارات، وتمكنت من السيطرة على 40 بالمئة من الإقليم.
في يونيو عام 1998 صعد ميلوسيفيتش هجماته القاسية ضدّ الكوسوفيين، وشملت هجمات حملة الصربية الهجوم على القرويين والمدنيين، فقتل الكثير منهم، ونزح كثير من السكان إلى ألبانيا، ولم تتمكن ما سمي حينها “مجموعة الاتصال المكونة من عدة دول” من عقد اتفاق لفرض عقوبات ضد الصرب، فاستمرت القوات الصربية في الهجوم المضاد على المدنيين وجيش تحرير كوسوفو حتى تغلبوا عليهم في معظم الأماكن في الإقليم.
أدانت الأمم المتحدة ما وصفته بالإرهاب الصربي ضد القرويين الألبان، وسط تصاعد حدة المعارك بين القوات الصربية والكوسوفيين، وأدت إلى مقتل 50 شخصا في دجنبر 1998. ما جعل الطرفان يرسلان وفودا إلى رامبيولي في فرنسا بهدف التوصُل إلى السلام، وذلك في فبراير عام 1999.
بالرغم من انطلاق المفاوضات إلا أن القوات الصربية لم تتوقف عن مهاجمة الكوسوفيين الألبان، وقام الصرب بتحصين حدودهم مع جمهورية مقدونيا تحسبا لتدخل قوات الناتو.
تدخل الناتو
قررت ألبانيا التي تدعم كوسوفو في الحشد الدولي ضد صربيا، واستطاعت ألبانيا باعتبارها عضوا في الناتو من إقناع هذا الحلف في الدخول على خط الحرب ووقف ما سماه الإرهاب الصربي.
وفي 24 مارس 1999 بدأت الناتو فعليا في قصف يوغوسلافيا، وتواصلت الهجمات الجوية لما يزيد عن 78 يوما، قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق يسمح للقوات الصربية بالانسحاب في 9 يونيو، وكانت المهلة 11 يوما فقط، مع شرط يسمح بنشر قوات دولية لحفظ السلام بالمنطقة.
معاهدة كومانوفو ونهاية الحرب
وضعت معاهدة كومانوفو نهاية لحرب كوسوفو، فقد وافقت القوات اليوغوسلافية في هذه المعاهدة على الخروج من كوسوفو، وسمحت للتحالف الدولي التدخل فيها، من خلال إنزال قوات دولية لحفظ السلام.
تم مباشرة بعد ذلك، حل ما سمي “جيش تحرير كوسوفو” وانضم بعض أعضائه إلى جيش تحرير بريسيفو، وبويانوفاك وميدفيدا في وادي بريسيفو وقاتلوا للتحرير هناك.
أدت الحرب بشكل مباشر إلى خسائر فادحة سواء في الأرواح بالنسبة لكلا الطرفين كوسوفو وصربيا، كما أدى بشكل كبير إلى تدمير البنية التحتية لصربيا، خصوصا عقب التدخل الدولي والقصف الذي سنته القوات الأمريكية التي كانت ضمن حلف الناتو، حيث تشير التقارير أن تدمير المصانع في صربيا أوقف 400 ألف عامل عن العمل، وارتفع العدد الإجمالي بعد نهاية الحرب إلى نصف مليون، كما غادر 100 ألف شخصا البلاد، وانهار الوضع الاقتصادي.
بشكل عام، أودت حرب كوسوفو بنحو 13 ألفا قتيل معظمهم من الألبان، ووضع الإقليم بجنوب صربيا تحت إدارة الأمم المتحدة، وأعلن استقلاله رسميا عن صربيا في عام 2008.
واستمرت المفاوضات بين الجانبين خلال السنوات الأخيرة، كما قبلت صربيا بتنفيذ حكم قضائي صادر في حقها يقضي بدفعها 25.9 مليون دينار صربي (240 ألف دولار) إلى 24 من أفراد من عائلات 14 من الضحايا.
> إعداد: توفيق أمزيان