تدفع الحرب الروسية – الأوكرانية التي تدور رحاها بأوروبا الشرقية، والتي أججت التوتر بين الغرب وموسكو وتنذر باتساع رقعتها نحو، ما وصفه مراقبون، “حرب عالمية ثالثة” لها تكاليف باهظة ليس على المنشئات والبنية التحتية فقط وإنما على مستوى الأرواح وعلى ملايين الناس الذين تنقلب حياتهم رأسا على عقب، إلى تقليب صفحات الماضي، لاستحضار ما دون من تفاصيل حروب طاحنة جرت خلال القرن الماضي، وبداية القرن الحالي.
في هويات متداخلة، كما في روسيا وأوكرانيا، لم يبق أحد خارج الحرب. انتهت الحروب وحفرت جراحا لا تندمل وعنفا لا ينسى. وفي هذه السلسلة، تعيد “بيان اليوم” النبش في حروب القرن الـ 20 والقرن الـ 21 الحالي، حيث نقدم، في كل حلقة، أبرز هذه المعارك وخسائرها وآثارها، وما آلت إليه مصائر الملايين إن لم نقل الملايير من الناس عبر العالم..
حرب الفيتنام الثانية.. حين قهر صمود الفيتناميين غطرسة الأمريكيين
فور رحيل فرنسا من فيتنام بدأت الولايات المتحدة تساعد حكومة سايغون عسكريا، بحيث سيتم في أكتوبر 1955 انتخاب أول حكومة في فيتنام الجنوبية بقيادة “نغو دينه ديم”، وكان أول قرار اتخذته حكومته هو الامتناع عن أي استفتاء من شأنه أن يؤدي إلى اتحاد الشطرين الفيتناميين، مبررة ذلك بعدم حرية السكان في الجزء الشمالي.
أعلنت أميركا بشكل صريح مساندتها لحكومة الرئيس ديم، في حين كانت حكومة هانوي الشيوعية في شمال فيتنام مصممة على توحيد شطري البلاد. وبدأت المناوشات بين الجانبين، ما جعل اللجنة الدولية المكلفة بمراقبة اتفاق جنيف بين طرفي النزاع الفيتنامي أن كلا الجانبين يخرق الاتفاقيات الحدودية باستمرار.
الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام
ستستمر رغبة الشيوعيين في الشمال في استعادة وحدة البلاد وقوتها، ما سيدفعهم لدعم نظرائهم في الجنوب، وشجعوهم على التغلغل في الجنوب انطلاقا من حدودها، فيما ردت بدورها حكومة الجنوب بالتضييق على الثوار ومسانديهم من الشمال.
فبراير عام 1959 سيؤسس شيوعيو الجنوب “فييت كونغ” وهي أول منظمة في دلتا ميكونغ، وفي دجنبر 1960 سيتم تأسيس الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام، وهي الإطار التنظيمي السياسي والعسكري الذي سيتولى مهمة الحرب ضد أميركا وحكومة سايغون، فما كان من الرئيس الجنوبي ديم إلا أن أعلن قانون الطوارئ.
اشتعل الصراع، وبدأت تتوالى المناوشات بين الشمال والجنوب، الشمال تلقى الدعم من الاتحاد السوفيتي، والصين، وحلفاء شيوعيين آخرين، أما الجنوب الفيتنامي الجنوبي فقد تلقى الدعم من الولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، وتايلاند وحلفاء آخرين مناهضين للشيوعية.
تأجج الصراع وبلغ مداه حين أعلن الحزب الشيوعي الفيتنامي الحاكم في الشمال مساندة الثورة الجنوبية وإمدادها بالعدة والعتاد بشكل رسمي، فيما أعلنت أمريكا وقوفها التام خلف حكومة سايغون، ووقع الرئيس الأميركي كنيدي معاهدة صداقة وتعاون اقتصادي بين بلاده وفيتنام الجنوبية في أبريل 1961، ما أعلن في السنة نفسها عن ترسانة من الدعم اقتصاديا وعسكريا.
القوات الأمريكية في الجنوب
توالت المناوشات بحدة أكبر بين الشمال والجنوب، فأعلنت أمريكا في 1961 عن إرسال 400 جدني لتشغيل المروحيات العسكرية في المعارك الضارية بين القوتين، فيما كبد الثوار المدعومين من الشمال حكومة سايغون خسائر كبيرة.
مع بداية 1962 ستعزز أمريكا حضورها العسكري في جنوب الفيتنام، حيث بلغ عدد جنودها أزيد من 11 ألف، كما قامت بتأسيس قيادة عسكرية هناك ومجموعة من القواعد، وبدأت تساعد حكومة الجنوب بعدد من الخطط الحربية في مواجهة الثوار، فاقترحت إقامة بعض القرى للمزارعين الموالين لحكومة الرئيس ديم، وذلك باعتبارها كدروع بشرية أو حواجز سكانية.
مع أواخر نهاية 1962 كانت الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام قد فرضت سيطرتها على ما يزيد على 50 بالمئة من تراب فيتنام الجنوبية، خصوصا أمام المشاكل التي عرفها الجنوب والمتمثلة أساسا في معارضة السياسيين الجنوبيين للرئيس ديم وحالة التخبط التي كانت تعرفها حكومة الجنوب عموما، بحيث ستعرف في 1963 انقلابا عسكريا على الرئيس الذي تمت تصفيته جسديا في ظروف غامضة.
استمر تخبط حكومة الجنوب بعد الإطاحة بالرئيس، فعرفت بين 1963 و1965 عشر حكومات عسكرية، لكنها فشلت في ضبط النظام، خصوصا أمام تقدم الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام وإحكامها السيطرة على عدد المناطق بالبلاد.
تدخل عسكري أمريكي مباشر
بعدما وجدت أمريكا نفسها أمام حكومات ضعيفة ومتناحرة على الحكم بجنوب فيتنام وأمام التقدم العسكري للجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام، بدأت تستعد لتدخل عسكري في فيتنام من أجل وقف المد الشيوعي وحماية مصالحها بالجنوب، فوجدت هجوم الثوار على قاذفاتها البحرية في خليج تونكين مبررا لخوض الحرب بشكل مباشر وبدون وكالة.
مع نهاية 1964 وبداية 65 أصدر الرئيس جونسون أوامره إلى الطيران العسكري الأميركي بقصف المواقع الفيتنامية الشمالية ردا على ما أصاب الأميركيين، ووقع القصف على عدد من المواقع بقوة، وفي بداية مارس من العام نفسه قامت القوات الأمريكية بأول إنزال لبحريتها في جنوب دانانغ.
عزز أمريكا حضورها العسكري في حربها مع فيتنام الشمالية، حيث وخلال سنة واحد ارتفع عدد جنودها إلى ما يزيد عن 200 ألف جندي أمريكي بالفيتنام، ثم تعزز أكثر حتى فاق 600 ألف مع نهاية 1968.
استمرت أمريكا في قصف المواقع الحربية التي تتواجد بها الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام، كما شمل قصفها بشكل مباشر شمال الفيتنام، ردا على دعمه ثوار الجنوب، لتمتد الحرب من شمال فيتنام إلى جنوبها مع ما تخلفه من تساقط في الأرواح قدر بمئات الآلاف حينها.
ولعل التاريخ سجل مجموعة من الممارسات القذرة للجيش الأمريكي، باعتراف هذا الأخير، حيث عمد ضباطه وكباره إلى قتل المدنيين بالقرى التي يمرون منها، كما استهدف سلاح الجو الأمريكي آلاف المدنيين بالشمال، وكان هدف أمريكا وراء هذه الممارسات غير الأخلاقية في الحرب هو الضغط على هانوي من أجل ترك دعم الثوار الجنوبيين، غير أن الأخيرة كانت ترفض أي تفاوض مع الولايات المتحدة ما دامت تقصف أراضيها.
استمرت أمريكا في إنزال جنودها، وشرعت في تنفيذ مجموعة من العمليات العسكرية، حتى أنها لم تترك أي وسيلة عسكرية للضغط على هانوي إلا استعملتها، بدءا بالتجميع القسري للسكان ومرورا بتصفية الثوار الشيوعيين الموجودين في الأرياف الجنوبية واستعمال طائرات بي52 لتحطيم الغطاء النباتي، وانتهاء بتكثيف القصف للمدن والمواقع في الشمال الفيتنامي بما الاستهداف المباشر للمدنيين.
أمام تعنت القوات الأمريكية وإمعانها في استهداف الشعب الفيتنامي، وجد هذا الأخير ضالته في المقاومة المسلحة، فالتحق بالمقاومة ملايين المدنيين، وارتفعت معنويات الفيتناميين وتفرقوا في الأرياف ومراكز الإنتاج الزراعي وتعززت فيهم معنويات المقاومة، كما استمروا في حماية ما كانوا يسمونه طريق “هوشي منه” الذي تمر منه الإمدادات نحو ثوار الجنوب، إذ لم تستطع أمريكا بالرغم من محاولاتها المستمرة قطعه، وهو طريق كان قد وضع الزعيم الشيوعي هوشي منه مؤسس “فيت مين” أو “اتحاد استقلال فيتنام” في مواجهة الاحتلال الفرنسي والياباني والذي استطاع التفوق عليهما، وأعلن دعمه لثوار الجنوب.
تشبث الفيتناميين بالمقاومة
مع اشتداد المعارك بشمال فيتنام وجنوبها، عززت أمريكا حضورها العسكري من خلال قوات الحلفاء معها، والمكونة من أستراليا ونيوزيلاند وتايلند وكوريا الجنوبية والفلبين، في محاولة لتضييق الخناق على الثوار، وهو ما سيجعلهم يقدمون عرضا لشمال فيتنام، حيث عبرت هذه الدول عن استعدادها في 1966 للخروج من الحرب في حالة انسحاب الفيتنام الشمالية، لترد هذه الأخيرة بالرفض معلنة استمرار المقاومة.
ومع تزامن هذه الحرب، مع ما كان يعرف بـ “الحرب الباردة”، وجه الرئيس الامريكي جونسون دعوة لفيتنام الشمالية من أجل وقف دعم جبهة التحرير بالجنوب، كما وجه دعوة للزعيم السوفياتي كوسيغين من أجل الضغط على هانوي لتنهي الحرب حين التقيا في يونيو 1967، لكن محاولته لم تفلح.
قابلت أمريكا تشبث الفيتنام الشمالية بالمقاومة بمزيد من القصف العنيف على مدنها وعلى غاباتها وعلى أراضيها، حتى أن القصف غطى تراب الفيتنام الشمالية حتى وصل تقريبا إلى حدودها مع الصين، لكن ذلك لم يردع الثوار الذين واصلوا حرب العصابات والهجومات المضادة على القوات الأمريكية.
واعتمد الثوار الجنوبيون المدعومين من الشمال على استراتيجية المباغتة والقتال وسط الغابات وفي الجبال، ما كان يزيد من تعقيد مهام العسكر الأمريكي، وشنوا في 1968 ما عرف بهجوم “تيت”، وهو هجوم عبارة عن مجموعة من العمليات العسكرية الشديدة استهدف، من خلالها الثوار، ما يزيد عن 100 هدف حضري، واستطاعوا بذلك أن يتغلغلوا في الجنوب حتى بلغوا عاصمة الجنوب سايغون وهاجموا الأمريكيين هناك.
خلفت الحرب الدائرة في الفيتنام اثرا سلبيا على الولايات المتحدة الأمريكية في الداخل والخارج، كما أنها وبالرغم من تفوقها العسكري، إلا أن نفسية جنودها تضررت بشكل بليغ، خصوصا أمام صمود الثوار الفيتناميين، الذين وإن تكبدوا خسائر فادحة في أرواح رفاقهم إلا أن ذلك كان يزيدهم قوة وصمودا أمام القف العنيف.
بداية المفاوضات
نهاية مارس 1968 أعلن الرئيس جونسون وقف القصف الأميركي لشمال فيتنام، وبدأت المفاوضات بين الفيتناميين والأميركيين في باريس، قبل أن يفشل الرئيس الأمريكي جونسون في إعادة انتخابه نهاية السنة ويسلم المشعل لريتشارد نيكسون الذي سيأمر في 1969 بسحب أزيد من 25 ألف جندي أميركي من فيتنام، وسحب ما يزيد عن 65 ألفا نهاية تلك السنة.
ولم يؤدي الانسحاب الأمريكي وانطلاق المفاوضات في باريس بأي شكل من الأشكال إلى إيقاف الحرب التي استمرت بشكل قوي بين الجانبين، وحتى بعد وفاة الزعيم الشمالي “هوشي منه” رفض الثوار وقف المقاومة، متشبثين بضرورة الانسحاب الأمريكي الكامل كشرط أساسي لوقف إطلاق النار.
بدأت نهاية الحرب تلوح في الأفق مع نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، خصوصا بعد الأثر النفسي البليغ في نفوس الأمريكيين، الذين خرج الآلاف منهم في مظاهرات مكثفة بالشوارع للمطالبة بوقف الحرب الفيتنامية، خصوصا بعد كشف كبريات الصحف الأمريكية للممارسات التي وصفت بالبشعة وغير الإنسانية التي عامل بها الجيش الأميركي المواطنين الفيتناميين.
في يناير 1972، أعلن الرئيس نيكسون طبيعة المفاوضات الأميركية الفيتنامية وما قدمته الإدارة الأميركية بشكل سري للفيتناميين، كما كشف اللثام عن مخطط جديد للسلام مكون من ثماني نقاط بينها إجراء انتخابات رئاسية في الجزء الجنوبي من فيتنام، بالمقابل كانت فيتنام الشمالية تشترط ضرورة تنحي الرئيس الفيتنامي الجنوبي “تيو” عن السلطة كشرط أساسي للسلام، والامتناع عن تسليم الأسرى الأميركيين إلا بعد تنازل الولايات المتحدة عن مساندة حكومة سايغون.
هجوم كاسح وعودة القصف
مع اقتراب الحرب من وضع أوزارها، قامت فيتنام الشمالية في مارس من عام 1972 بهجوم كاسح نحو الجنوب داخل منطقة “كانغ تري” متجاوزة بذلك المنطقة المنزوعة السلاح، لترد أمريكا باستئناف القصف بشكل شديد على شمال البلاد.
وعلى إثر ذلك، بدأت المفاوضات السرية بين الطرفين، حيث اجتمع مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي بمندوب فيتنام الشمالية، للتباحث عن مخرج للحرب ينهي الصراع الذي امتد لما يزيد عن عقد من الزمن، لكن لجأت أمريكا إلى وسيلة للضغط على الفيتناميين، حيث عمدت إلى قصف شديد وعنيف نهاية 1972 للعاصمة هانوي وهايبونغ، فصبت طائرات بي52 نيرانها على المدينتين في قصف لم تعرف الحرب الفيتنامية نظيرا له طيلة مدة الحرب.
فضيحة “ووترغيت”.. ودخول الثوار العاصمة سايغون
في يناير 1973، توصل الطرفان إلى اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ يوم 28 من الشهر نفسه، والذي بموجبه التزم الطرفان بوقف جميع أنواع العداء، وانسحاب القوات الأميركية من جنوب فيتنام خلال الشهرين التاليين للتوقيع، وإطلاق سراح الأسرى من الطرفين خلال 15 يوما من التوقيع، بالإضافة إلى الاعتراف بالمنطقة المنزوعة السلاح بين الشطرين على أنها مؤقتة لا أنها حدود سياسية، وكذا إنشاء لجنة دولية (مكونة من ممثلين عن كندا وهنغاريا وإندونيسيا وبولونيا) مكلفة بمراقبة تطبيق الاتفاق، كما سمح الاتفاق ببقاء 145 ألف جندي من شمال فيتنام في الجنوب،
ومع مغادرة آخر جندي أمريكي لأراضي فيتنام، تفجرت بالولايات المتحدة الأمريكية ما سمي حينها بفضيحة “ووترغيت” التي أجبرت الرئيس نيكسون على الاستقالة في غشت 1974 وجعلت أميركا غير قادرة على مساندة حكومة سايغون، لينتهز الثوار الفرصة، وشنوا هجوما كاسحا على الجنوب محتلين مدينة فيوك بنه في يناير 1975، وتابعوا هجومهم الكاسح الذي توج بدخول سايغون يوم 30 أبريل.
> إعداد: توفيق أمزيان