ترجمة النص الديني ما بين الضرورة الملحة والنزوع إلى معرفة الآخر

لا يختلف إثنان على أن موضوع الترجمة هو من المواضيع المهمة التي شغلت الدّارسين والمهتمين، نظراً لما يعتريها من إشكالات تطبيقية ارتبطت بالثقافة والمثاقفة؛ خاصة عندما يَتعلق الأمر بالترجمة المتخصصة التي تتداخل فيها الأنظمة اللغوية والثقافية. إن ترجمة النصوص المتخصصة تُعد مهمةً عسيرةً وشائكةً،  فترجمة أي نص متخصص هو في حد ذاته تجربة جديدة، بغض النَّظر عن  النصوص التي نقلها المترجم في أعماله السابقة، فالأمرُ متعلق ها هنا باختلاف النصوص، واختلاف مرجعياتها، حتى وإن اشتركت في نفس الميدان، أو صَدرت عن نفس الكاتب. فالنصوص تتباين من حيثُ تراكيبها النحوية المستعملة، ومصطلحاتها، ومفرداتها، بل وحتى مواضيعها، وإن كانت في الحقل نفسه. لذلك فالتَّرجمة باعتبارها أداة للتواصل ومد للجسور المعرفية، قد تكون في كثير من الأحيان خلقاً جديداً أو إبداعاً مبهراً، لم يعد فيه من الأصل إلا آثاره، كما قد ترتدي لبوسا تأويليا يُرضي رغبات المترجم أو المترجم لهم، وقد نجد أن الترجمة تتعدى حدود اللغة لتترجم المفاهيم الحضارية وبعض اللمسات الخفية التاريخية، وتُحول وتُغير بعض التقاليد بأخرى، وبعدما كانت الترجمة وسيلة للتواصل تُصبح حاجزا أمامه.  

إن تعدد اللغات جعل الإنسان يحتار في الكيفية أو الطريقة التي تُمكنه من تجاوز الحواجز وتذليل العقبات، من أجل التواصل مع باقي الشعوب، لذلك سخر الترجمة في هذا المسعى، غير أن مفهوم الترجمة ظل مبهماً، وظلت هي نفسها متعثرة ومقصرة بالرغم من أنها ضرورة ملحة، إذ نلاحظ أنها تتأرجح بين الإمكانية والاستحالة، لاسيما عندما يكون الأمر له صلة مباشرة أو غير مباشرة بالنص الديني، فالمتتبع لمراحل التّطور التاريخي لنشاط الترجمة في الغرب، يثير انتباهه ذلك الترابط الوثيق والمتين لهذا النشاط بالمؤسسة الدينية. فقد عرفت الكتب الدينية، منذ ظهورها، ترجمات عديدة إلى غير اللغات التي كُتبت بها في الأصل. وكان ذلك في الغالب استجابة لظروف سياسية ودينية معينة. ولا شك في أن ترجمة التوراة إلى لغات أخرى كانت تعكس بشكل ملموس التحولات التي طرأت على اللغة العبرية، والتي انتهت بتراجعها أمام اللغة الآرامية، وتوقفها تماما عن الاستعمال. فقد تبنت الدولة الأخمينية (الفارسية) اللغة الآرامية لغة رسميَّة للبلاد، الأمر الذي أدى إلى اتساع مجال استعمالها لدى اليهود بما في ذلك يهود مصر الذين تبنوا حسب وثائق إلفنتين (Eléphantine) في القرن الخامس الميلادي اللغة الآرامية، واستعملوها للتواصل مع إخوانهم في فلسطين. وليس صدفة أن تُكتب بها أعمال دينية مثل حِكمة أحيقار، وسِفر أخنوخ (Apocryphe de la genèse Le testament de Lévi)، إلى جانب نصوص أخرى تم العثور عليها ضمن  ما يُسمى بـ “مخطوطات قمران” أو مخطوطات البحر الميت. وبدأت قصة ترجمة التوراة من العبرية إلى الآرامية أو ما يُعرف بالتُّرجوم في الكنائس اليهودية حيث جرت العادة أن يقرأ الرِّبي التوراة باللغة العبرية، وأن تُصحب هذه التلاوة بترجمة شفوية باللغة الآرامية تكون موجهة لأولئك الذين يجدون مشقة وصعوبة في استيعاب وفهم معاني التوراة في لغتها الأصلية. واشتهرت هذه الترجمة بحرفيتها. إلا أنها تعدت في المقابل ترجمة النص الأصلي إلى شرحه وتأويله. إنه شرح وتأويل يُعبر، حسب أحمد شحلان، عن نظرات وتأملات صبغها الأَحْبار بواقع الحال(1).

أما أقدم ترجمة للتوراة، فهي تلك التي كانت بأمر من ملك مصر “بطليموس فيلادلف”. وقد أسهم في إعدادها، كما تُخبرنا بذلك بعض المصادر التاريخية، إثنان وسبعون حبرا من يهود مصر في سنتي 282 و283 قبل الميلاد(2). ومن هنا سميت “بالترجمة السبعينية”. وقد توالت بعدها ترجمة التوراة إلى لغات أخرى، مثل اللغة اللاتينية والآرامية والسريانية والعربية.

وكان حظ الأناجيل من الترجمة كبيراً، خاصة بعد تَحَول المسيحية – على يد بولس – من ديانة خاصة ببني إسرائيل إلى ديانة عالمية. واكب هذا التحول الحاسم الانتشار الواسع لهذه الديانة في حوض البحر الأبيض المتوسط، سرعان ما أفضى إلى بدء ترجمة الأناجيل من الآرامية (وجود أصل آرامي للأناجيل فيه نظر) والسريانية إلى اليونانية، ومن اليونانية إلى اللاتينية، فباقي اللغات الأخرى. 

وأمام هذه الترجمات الكثيرة التي عرفتها في وقت مُبكر الكتب الدينية لكل من اليهودية والمسيحية يحق لنا أن نتساءل ما السر وراء عدم ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات الشعوب التي كانت خاضعة لحكم الدولة الإسلامية، أو تلك التي كانت معادية لها كتلك التي كانت تُنعت في التصور الإسلامي بدار الحرب أو الكفر؟

يتبين لنا من خلال استقراء تاريخ الإسلام أن القرآن الكريم، أو على الأصح معاني القرآن الكريم، لم يُترجم بشكل كامل إلى أي لغة من اللغات قبل سنة 1143م. وكان ارتباط ترجمة القرآن الكريم ببداية الاستشراق بمفهومه الحديث (بذرة الاستشراق) واضحا وجليا بحيث لا يمكن التنكر لذلك. فأول ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية كانت على يد “بطرس المبجل” Peter the Venerable رئيس دير كيلاني (1092-1157) بمساعدة الراهبين روبيرت الشستري Robert of Chester أو الكيتوني  Robert of Ketton وهيرمان الكارينثي أو الدلماتي Herman of Carinthia.

وإذا ما تساءلنا عن الدوافع الخفية وراء هذه الترجمة فلن نتردد في القول بأنها  تقترن بانهزام الصليبيين في موقعة “إيدسياس” أمام قوة المسلمين، فكان تأثر المقاتلين الصليبيين بحضارة المسلمين وتقاليدهم ومعيشتهم في حلبات الفكر سبباً مباشراً لترجمة معاني القرآن الكريم.

وقد خرج “بطرس المبجل”، حسب “يوهان فوك”، بقناعة مفادها أنه لا سبيل إلى مكافحة هرطقة “محمد” بعنف السلاح الأعمى، وإنما بقوة الكلمة، ودحضها بروح المنطق الحكيم للمحبة المسيحية(3). لكن تحقيق هذا المطلب كان يشترط المعرفة المتعمقة برأي الخصم أولا. وهكذا وضع خطة للعمل على ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية. الشيء الذي يبين أن الغاية المبتغاة من ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية لا تتطابق مع الغاية من وراء ترجمة كل من التوراة والإنجيل، إذ أن وجه الاختلاف الجوهري يكمن في كون ترجمة الكتب الدينية لكل من اليهودية والمسيحية كانت تحركها دوافع أخرى.

 بالنسبة للمسيحية كان ظهور أي ترجمة جديدة يُعبر عن حاجة المسيحيين الجدد إلى نص ديني مترجم إلى لغة يفقهونها جيدا. وكثيرا ما تكون الترجمة مندرجة في إطار تبشيري محض يتناسب مع تطلع المسيحية إلى الانتشار في أصقاع مختلفة من العالم. أما بخصوص اليهودية، فإن ترجمة التوراة من العبرية إلى لغات أخرى فقد اقتضتها ظروف استقرار اليهود في هذه المنطقة أو تلك. 

ومن المهم الإشارة إلى أن مدرسة طليطلة كانت لها اليد الطولى في تعريف الغرب المسيحي بالثقافة العربية الإسلامية من خلال اعتناء علمائها بترجمة أشهر المؤلفات الفلسفية وغيرها إلى اللغة اللاتينية. فقد كان  للعرب على يد مسيحيي الشرق الفضل في ترجمة الفكر الإغريقي إلى العربية عن طريق السريانية أو اليونانية، كما عمد علماء الإسلام  إلى شرحه وتفسيره والتعليق عليه. كما أن صلة الفكر العربي والإسلامي بالغرب المسيحي تمت عن طريق ترجمة الفكر العربي الإسلامي واليهودي إلى اللغة العبرية ثم بعد ذلك إلى اللاتينية.

لقد كان للترجمة دور كبير في الحفاظ على التراث العربي الإسلامي من الضياع خاصة في الأندلس الإسلامية، كما كان لها دور كبير في خلق أسباب اللقاء بين الفكر العربي الإسلامي والفكر المسيحي من خلال ترجمة علوم الأبدان كالطب والحساب والفلك والفلسفة من هنا يتضح لنا دور الترجمة الكبير  في الحفاظ على العلوم ومد جسور التواصل.

جملة القول إن الترجمة، ولاسيما ترجمة النصوص الدينية، تعتبر حلقة لا يمكن  إطلاقا الاستغناء عنها في معرفة الآخر المختلف من حيث الدين والعقيدة. وإذا كان من الممكن أن تُوظف مثل هذه المعرفة، كما حدث في بعض أوجه الاستشراق، من أجل الهيمنة والاستحواذ والتملك والاستعمار؛ فإن إمكانية استثمار الترجمة بُغية خلق عالم يسوده الأمن والسلام والتفاهم والتعارف يبقى هو الهدف الأسمى الذي  يسعى إليه المجتمع الإنساني.

هوامش:

  • أحمد شحلان: لغة موسىوهارون ورسالتهما، لغات الرسل وأصول الرسالات، ص 64
  • علي عبد الواحد وافي: اليهود واليهودية، (دار نهضة مصر، القاهرة، 2002) ص 19
  • يوهان فوك: تاريخ حركة الاستشراق، ترجمة عمر لطفي العالم، (دار قتيبة، بيروت ودمشق، 1996) ص15

بقلم: دة. كريمة نور عيساوي

أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات – كلية أصول الدين – جامعة عبد المالك السعدي، تطوان

Related posts

Top