“ديني هو أن أفعل الخير”.
توماس بين.
في كتابه “الأسلوب الأخير” يقف إدوارد سعيد عند تحولات الكتّاب والفنانين في نهاية مشوارهم، باحثا عمّا إذا كان المبدع ينتهي في سنواته الأخيرة إلى الحكمة والهدوء، أو الإحساس بالفشل والاستسلام، أو الجموح، والتمرد على النهاية ورفض الموت.
ويبدو أن الناقد البلغاري الفرنسي تزفتان تودوروف قد اختار أسلوبه الأخير باكرا. فتحول من الكتابة النقدية والغوص في مجاهل النصوص الأدبية إلى قراءة ماضي الإنسانية وحاضرها، وبالتالي استشراف مستقبلها. لقد اختار في أعماله اللاحقة على مرحلة النقد النصّي الانفتاحَ على العالم والدخول إليه عبر بوابات أكثر شساعة. اِختار بالتحديد أن يخرج من حقل الأدب إلى الحياة العامة. ويصعب الحسم بأن خروجه من هذا الحقل مع مطلع الثمانينات كان بمثابة قطيعة، فربما كان بشكل أو بآخر مواصلةً للسير والتنقيب في امتدادات الأدب والثقافة والفكر داخل الحياة الإنسانية.
إن قراءة سريعة لبعض أعمال تودوروف التي صدرت منذ مطلع الألفية الجديدة (15 كتابا، مجموع مؤلفاته 43 كتابا) تضعنا على الطريق التي اختار تودوروف السير فيها، وتومئ إلى الوجهة التي ينشدها. بل إنها تجعلنا نعيد التفكير في وظيفة المثقف ودوره في عالم بدأت قيمه الإنسانية تتداعى.
مرةً استفزه استطلاعٌ أجرته صحيفة التايمز البريطانية حول أهم كتاب في القرن، مما جعله يطرح سؤالا آخر على نفسه:
“ما هو أهم حدث في القرن؟”
وباسم هذا الاستفزاز وبحثا عن جواب لسؤاله، سيجد نفسه منهمكا في تأليف كتاب من حوالي خمسمائة صفحة، عنونه “ذاكرة الألم” الذي صدر بباريس سنة 2000، ويحمل الكتاب عنوانا إضافيا Tentation du bien ويمكن ترجمته على النحو التالي: “سعيا إلى الخير” أو “الانجذاب نحو الخير”، مع عنوان فرعي أيضا “تحقيق عن القرن”.
في هذا الكتاب يعود تودوروف إلى قراءة أهم الأحداث الكبرى التي كانت بمثابة منعطفات حاسمة في القرن الماضي، غير أن قراءته لم تكن عملا كرونولوجيا أو توثيقيا فحسب، بل كانت محاكمة للتاريخ وللعصر، عبر ما يسميه “التفسير الحقيقي للوقائع”.
يقول في تحقيقه هذا:
“لا أريد أن ألغي دور المؤرخين الذين يقومون بالمهمة على أكمل وجه، ما يهمّني هو الوقوفُ عند هذا التاريخ الذي يدوّنونه وتأمّلُه. فأنا أنظر إلى هذا القرن كشاهد عيان يعنيه الأمر، وككاتب يحاول فهم الزمان الذي عاش فيه، لا كاختصاصي”.
الخلاصة التي يصل لها الكتاب هي أن حدث القرن العشرين ليس تحرّر المرأة، ولا التطور التقني كما يزعم الكثيرون، بل هو ظهور الأنظمة الشمولية التي ألغت الفرد (الشيوعية والفاشية)، والتي جرفت الحياة الإنسانية في مختلف القارات إلى الكثير من المهاوي التاريخية.
يتعقب تودوروف نشأة هذه الأنظمة وأثرها في صنع الأحداث الكبرى ما بين 1917 و1991، مقتفيا أثر الصراعات التي نشبت بين “الخير” و”الشر”، متوقفا عند عدد من الوجوه الفكرية التي اختارت مجابهة النظام الشمولي مهما كان ثمن هذا الاختيار. ويبدو أن ما كان يشغله بالأساس هو البحث عن الإنسان بين المطاحن الإيديولوجية.
هذا التنقيب عن الإنسان، سيعود إليه في كتابه “روح الأنوار” الذي صدر سنة 2006، إذ سيطالب بضرورة العودة إلى القيم التي جاء بها الفكر الإنسي، لكن مع تحيين الأفكار وتقويم الاعوجاجات، يقول في كتابه عن الأنوار:
“نحن أحوج في الواقع إلى إعادة تأسيس للأنوار، إعادة من شأنها أن تحافظ على إرث الماضي، لكن مع إخضاعه إلى مراجعة نقدية، ونحن إذ نقوم بذلك لسنا نركب خطر خيانة الأنوار، بل على خلاف ذلك تماما، لا سبيل أمامنا كي نبقى أوفياء لها إلا بنقدها”. وربما هذه المقولة هي التي تفسر سبب اختيار عنوان الكتاب، والتركيز على مفردة “روح” وما تحمله من دلالات. فصاحب “تركة الإنسانية” معني أكثر بروح الأنوار، بالمبادئ العميقة التي قامت عليها، مع تحفظه على بعض تجسدات وتمظهرات هذه الروح.
إن ما يجمع بين بني الإنسان – حسب تودوروف- هو أكثر تأصلا مما يفرق بينهم، ولعل هذا ما دفع مونتسكيو إلى قوله:
“أنا إنسان بالضرورة، ولست فرنسيا إلا بحكم الصدفة”، وهي المقولة التي سيتبناها هو نفسه لاحقا. لذلك ناشد تودوروف – في هذا الكتاب- العالم من أجل إعادة تمثل روح الأنوار، تلك الروح الصافية والعالية التي تعلي معها أيضا من شأن الإنسان، وتجعل العالم شاسعا بإمكانه أن يسع الجميع دون تعصب إلى قيد عرقي أو ديني أو جغرافي، وتلك الروح التي تحدّ أيضا من أنانية الغرب، وتجعله ينظر إلى الأمم التي حوله بمنظار جديد، أساسه التواصل المبني على قيم حضارية وإنسانية، لا الانفصال والتعالي الذي يولّد العنف والعنف المضاد.
ما سعى إليه تودوروف في “روح الأنوار” هو محاولة جعل الفكر الغربي اليوم يقف أمام المرآة، ويمعن النظر في ذاته، ليتسم في النهاية بحس إنساني راقٍ يتيح له إنشاء علاقة مساءلة مع تاريخه من جهة، ويتيح له التفاعل أيضا مع فكر المجتمعات الأخرى.
في كتابه الأخير Insoumis “متمردون” الذي صدر في ديسمبر 2015، والذي لم يُترجم بعد إلى اللغة العربية، يتعقب تودوروف حياة ثمانية رموز ثقافية وتاريخية عاشت حياتها تدافع عن قضية ما، وتقف في صف النضال رافضة الانصياع لكل القوى التي تعادي الفعل الإنساني أو تريد إخضاعه، سواء الاحتلال أو الديكتاتورية أو الميز العنصري، وحاول أن يضيء الأسباب التي تجعل الكائن المعاصر متشبثا بكل أشكال المقاومة الفردية من أجل قضية لا تخدم الأفراد فحسب، بل الشعوب والمجتمعات.
وتأتّت إضاءاته التاريخية والتأملية عبر قراءة كرونولوجية في حياة نيلسون مانديلا ومالكولم إكس وبوريس باسترناك وألكسندر سولجنستين وإدوارد سنودن وغيرهم. وما استوقفه أكثر في حيوات هؤلاء هو جنوحهم نحو السلم، وإيمانهم المطلق، في سياق رفضهم للإخضاع، بأن العنف المضاد ليس هو الحلّ حين يتعلق الأمر بالقضايا الإنسانية الكبرى.
إن تودوروف يختار بشكل أو بآخر في نهاية مشواره الفكري أن يكون على مقربة من هؤلاء، حيث المكان الحقيقي للكائن الذي يحمل همّ هذه البشرية هو صفّ الممانعة ومجابهة كل ما يحدّ من إنسانية الإنسان ومقاومة كل شرّ يقف في طريق الخير.
بالنسبة لتودوروف، الذي يمكن أن نسميه “الضمير المعاصر لأوروبا”، تملك كلمة “خير” لمعانا خاصا. إنها تشكل لديه الغاية التي ينشدها. طوال سنواته الأخيرة، بل منذ تحوله من النقد الأدبي إلى التاريخ والفلسفة الإنسانية، ظل تودوروف يستحث الخطى نحو هذه الغاية، وهو يعرف أنه يعيش في عالم تبدو فيها العدالة المطلقة مطلبا مستحيلا.
بقلم: عبد الرحيم الخصار