تصورات تشكيلية عذراء في ذروة التوهج

خارج مدارات التكرار والحشو، يصوغ الفنان محمد الطبال (مواليد 1959 بمنطقة الصويرة) لغة بصرية خامة غير خاضعة للضوابط بقدر ما هي خاضعة لطقس ألوانها المتعددة والفياضة. ألم تجعل من إيقاعات اللوحة وأحوالها بؤرة بحثها الجمالي ؟ لا يرسم محمد الطبال الأشكال كما هو متعارف عليها، فهو يتعامل مع عوالم اللوحة كمفاهيم جمالية تحمل سمة “التحليقات المتحررة والمتعالية” فاسحة المجال لفضاءات لا نهائية تهدهد خيالنا وتحرر جسدنا، وكأن به يفتح الحقل التشكيلي على تجريد الأسندة والمواد. إنه يحفر أثرها في زمن اللحظة وفق المنطق العرفاني “الآن والهنا” منصتا للسان حاله عبر أقاصي معتكفه بالصويرة ملتزما بميثاق الحرية والسليقة في ضيافة خياله المجنح الذي يعصف بكل يقينيات المنظرين، ويعمق شكوك المبدعين الحداثيين الذين جعلوا من شطحات الجسد بيانهم البصري بتعبير الناقدة الفنية إيلين سيرفن. ألم يكتب الشاعر محمد بنيس : “الحرية لم تعد طريقا بل مسارا واسع الطرق” ؟.
محمد الطبال فنان خام لا يرتكن إلى السهل والسطحي، ولا يجنح إلى العزلة والوحدة. إنه لا يكف عن اختراق الفضاءات والأمكنة، مستشرفا آفاقا رحبة علها تتسع لأحلامه العصية. تصوراته التشكيلية مازلت عذراء في ذروة توهجها وإشراقها، طالقا العنان لفطرة جديدة ولأبجدية مغايرة على مستوى اللون والشكل المتشظي. كل لوحة عبارة عن تموجات باطنية لا تحفل بأية حدود أو ضفاف. على هذا النحو تمكن الفنان محمد الطبال من ابتداع رؤية جمالية تصبح في ضوئها التركيبات مشاهدا غرائبية طليقة تخاطب حسنا الجمالي كما تخاطب بصيرتنا. نحن أمام تجليات ذات امتدادات قصوى يتداخل فيها الأفقي مع العمودي، مخترقة أبعاد المرئي واليومي. فداخل خرائطية الإبداع المغربي المعاصر، اختار هذا الفنان التلقائي صحراءه التي يخلف على رمالها المنسابة بصمات وأثارا لا تدركها العين المجردة. إنها كالحرية سيرورة لا تتوقف ! يا له من عالم غير أيقوني ! يا لها من روح حية لا تسير في ركاب أعمال الآخرين. إنها تواجه وحي اللحظة وتكتب تشكيليا من داخل صحراء الذات، حيث يخوض حرب الحرية حتى النهاية. ها هنا، يصبح الفعل التشكيلي أرضية مرنة ضد نزعة التدمير البشرية التي تهدد مباشرة مستقبل الحضارة الإنسانية.
لوحات محمد الطبال كقصائد غنائية مرتبطة بفكرة الحداثة البصرية بعيدا عن كل شعارية وخطابية. قصائد تشكيلية على طريقة كتابة “الآلية النفسية” التي توحي بالتأمل الباطني خارج كل محاكاة تشكيلية. تبقى الشخصيات الانفعالية والأحوال الانطباعية جوهر الرؤيا لدى محمد الطبال الذي يسعى جاهدا إلى تقديم مفهوم جديد لحداثة التشكيل ينص على ضرورة الارتباط بروح حداثة زمننا دون السقوط في لبرالية غربية منحطة بنموذجها السائد القائم على الاستهلاك والفرجة. لقد سبق للكاتب والفيلسوف الألماني الشهير روديغر زافرانسكي (Rudiger Zafranski) أن تحدث عن الرومانسية كنبض أخاذ ومثير للحماسة، وكثراء في الخواطر الشعرية والفلسفية، على أساس أن الطاقة المحركة تكمن بداخلنا. هذه النبرة الجديدة المحررة هي التي يسعى محمد الطبال إلى ترجمتها تشكيليا وصياغتها بجاذبية بصرية كجاذبية الأحوال الكناوية. الملغز في عالمه الرمزي والرومانسي معا هو المثير والمحير معا. فتأمل هذا العالم بمثابة السير فوق أرض ملغومة، أو بمثابة تبني فكرة نظام الغرفتين لدى نيتش : غرفة التسخين بالجسارة والفانطازيا، وغرفة التبريد بالعقل.
يا لها من احتفالية ديونيسية تمجد التدفق وتحتفي بالطقس، مذكرا إيانا بقولة نوفاليس: “عندما أعطي ما هو عادي معنى سام وما هو معتاد مظهرا غامضا وللمعروف مكانة المجهول وأجعل للانهائي مظهرا لا نهائيا، فإنني أجعله رومانسيا”. علينا أن نشغل عيون آذاننا لكي نسمع وننصت للنغمات والمقامات الروحية في خلفية اللوحات، كرغبة في بداية العالم لا نهايته دون أن نتخذ أي احتياطات.
إنها حرية الجسد والروح معا وقد امتزجت بحرية الكتابة التشكيلية ! حرية تصله بالذات وبالآخرين وبالعالم، ناسجة محيط أسئلة  لا تتوقف عن استكشاف أسئلة أخرى.
 (ناقد فني)

Related posts

Top