تعدد الأصوات ولغة السرد الجميلة في رواية “طائر أزرق نادر يحلق معي”

تحتل رواية الكاتب المغربي والسيناريست يوسف فاضل “طائر أزرق نادر يحلق معي”1 الصادرة عن دار الآداب سنة 2013، مكانة هامة في الإبداع الروائي المغربي، وتوقيت صدورها تزامن مع توهج الرواية المغربية، التي كانت نتيجة للتراكم الكمي الذي حققته في المشهد الإبداعي العربي، تجارب إبداعية حاولت اقتفاء أثر الرواية الجديدة عن طريق تجريب أشكال جديدة، وتقنيات حديثة، تستهدف تجاوز النظام الخطي التقليدي، التي غلب عليها المضمون، واستنفدت الشكل الواقعي في التعبير، لفك ارتباطها بمرحلة الواقعية التي كانت سائدة خلال مرحلة الستينيات من القرن الماضي، والتي وصلتنا عن طريق المثاقفة و التأثر بالمشارقة، وهي تخوض غمار التجريب الروائي، لاستيعاب التحولات الجديدة التي عرفها المجتمع المغربي، منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، والروائي الذي عايش سنوات الجمر والرصاص، المرحلة العصيبة التي مر منها المغرب، سيكون شاهدا أيضا على التحول الكبير الذي عرفه المغرب مطلع تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، وقد تجسد ذلك بشكل كبير في الرواية التي حاولت رصد هذا الانتقال من ماض الذكريات الأليمة والسيئة المرتبطة في وجدان المغاربة بسنوات الجمر والرصاص والقمع والترهيب، وما خلفه من انكسارات وجروح للذين عايشوه، وهم يترقبون على وقع الأمل والانتظار، استشراف مستقبل مغرب جديد بكل طموحاته وآماله.

مضمون الرواية:

تنطلق أحداث الرواية من لقاء “زينة” المفاجئ برجل غريب، في بار اللقلاق، يعيد إليها ذكريات قديمة تمتد زهاء عشرون عاما الماضية، تسترجع فيها أحداث لقائها الأول مع زوجها السابق الشاب الطموح “عزيز” الطيار، الذي شارك في انقلاب الطائرة ضد الملك، وينتهي به المطاف في سجون الجنوب السيئة الذكر، حيث يغيب مدة ثمانية عشر سنة، وهي عازمة على السفر من جديد للبحث عن خطيبها الغائب، بعد أن دلها عليه الرجل الغريب، صاحب النظارات السوداء، في رحلة مليئة بالتوجسات والهواجس والآمال الكاذبة، يقول:” الخبر الكاذب يعطي الوقت معناه، به تستمر الشعلة متقدة…” ص: 13، من الرواية.
وفي حكاية “عزيز” جانب آخر من مأساوية القدر، حيث حاول الكاتب تصوير مشاهد الاختطاف والاعتقال القسري ومعاناة السجن، المعروف بقساوة مناخه وشدة حرارته، وهي معاناة لا يمكن وصفها، حيث تكالبت الأمراض والأوبئة الناجمة عن عضات الفئران ولسعات الهوام والحشرات من الأفاعي والعقارب السامة، واستباحت جسد المعتقل، والآلام الناجمة عن ذلك، يقول:”يصبح الألم عاما، ومتواترا … وتتألم لأنك تنصت إليه بكل حواسك التي تزداد صحوا وإدراك كأنما الألم ينعشها…” وهو ما عبر عنه في قوله أيضا:” جسدي كومة من ألم صارخ”، ص: 94 تتقاطع حكاية “زينة” مع حكاية “عزيز” وتتشابه في المعاناة اليومية بسبب الوضع العائلي المفكك وحالة التشرد التي تعيشها زينة، وحياة الانتظار والترقب والأمل في عودة خطيبها، ومصير عزيز المجهول بعد فشل الانقلاب واعتقاله، ورميه في زنزانة تقبر معه أحلامه وطموحاته.
إن هذه الذوات التواقة للخلاص والانعتاق في الرواية، تخلق عوالم من البدائل العيش الممكنة والمتاحة، للهروب من فكرة السجن أو الاعتقال القسري، والتفكير في اختزال الزمن، والموت هو الخلاص الوحيد، والحياة عبور نحو الموت. والتفكير في المعاناة التي يسببها الاعتقال، وطرح الأسئلة المصيرية حول قيمة الإنسان التائه، أمام حقيقة الموت، يقول:” إن اللحظات الأخيرة في عمر الإنسان تحبب إليه الموت…”. ص: 156 من الرواية. إن هواجس الشخصيات وهمومها لها علاقة وطيدة بالزمن، وهي تحاول مقاومة نسيان واقع أليم، بصبر وأناة ترزح تحته، وتتسلح بالأمل والترقب للبقاء، مستمرة في دوامة الحياة التي لا تعرف الاستقرار.

دلالة العنوان في الرواية:

“طائر أزرق نادر يحلق معي”، عنوان مربك مليء بالمعاني والدلالات، سنحاول قراءته من خلال المضمون العام للرواية والمناسبات التي تم فيها ذكر الطائر المغرد، والطائر المقصود في الرواية هو ذلك الطائر الذي يغرد خارج زنزانة عزيز، وبواسطته يستطيع التعرف على العالم وهو قابع في زنزانته، كما أنه يقيم معه حوارا تجلى في هذيان عزيز، وهو الطائر الأسود الذي وصفه في الصفحة 213، يقول :” ثم لون الطائر الذي لم يكن أسود… انعكس الضوء على قطعة المعدن البراق، وظهرت في قاعه شمس، وغلف المكان حيث أنا ضوء أخاذ، شفاف، ما بين البنفسجي والأزرق”. والطائر المغرد، نوع من الطيور المهاجرة خصوصا في فصلي الربيع والصيف، وهي الفترات المحببة له، وهو يشبه عزيز الطيار العاشق للتحليق بعيدا بطائرته، ينتهي به المطاف مرميا في زنزانته.
تقنية تعدد الرواة والأصوات في الرواية:

تندرج الرواية ضمن نمط جديد يسمى بالرواية المتعددة الأصوات أو الألحان وهي الرواية التي تسعى إلى تفسير الواقع من وجهات نظر متعددة، لتصبح الرواية عملا كونيا، ( نموذج الرواية البوليفونية الغربية)، إن هذا التعدد يكسب الرواية نفسا سرديا طويلا، يمكن السارد من الكشف عن التفاصيل والجزئيات البسيطة في حياة الشخصيات لقضايا الاختطاف والاعتقال، وقد أفلح الكاتب في تقديم حكايته للقارئ، من وجهات نظر الشخصيات بحسب تصورها للواقع، وهو ما يسمى بالوجه المتعدد للحكاية الواحدة، وهي القصة (الإطار)، مدار الحكي والبؤرة حكاية فراق عزيز وزينة، واعتقاله القسري، تتضمن قصص تتخلل فصول الرواية، وينطلق منها السارد لبناء الحدث الدرامي، مثال قصة: حكاية ختيمة مع مشغلتها في البار، المالكة الفرنسية العجوز، وهي تسعى جاهدة لرعايتها ونيل رضاها، واستغلال مرضها، من أجل الحصول على ثروتها والبار الذي أصبحت تملكه. وحكاية المخزني علي بابا وسهره الدائم وبناته الفاسدات.

لغة السرد في الرواية:

رواية ” طائر أزرق نادر يحلق معي” كتابة سردية جميلة، تعتمد الألفاظ السهلة لتوصيل الأفكار وعرض الأحداث، إنها لغة شفافة تنقل بهدوء وحذر شديد، بعيدة عن التكلف والتصنع، لغة قريبة من المتداول اليومي، غير أنها تعبر عن واقع المغاربة، وتمزج بين العامية واللغة العربية، الكلمات البسيطة والمقتضبة، وأحيانا تشمل بعض الفقرات، للتعبير على لسان الشخصيات، هذا التعبير لا يستوعبه إلا معجم العامية العادي ( الدارجة المغربية)، المعجم السائد في المجتمع المغربي. تلك اللغة التي تنصت لصدى المجتمع، القريبة من عمل السيناريست في إعداد المشاهد والحوارات السينمائية، التي تعتمد على تفاعل الشخوص فيما بينها، للتعبير عن هواجسها وطموحاتها وآمالها.

هوامش:1 – رواية حائزة على جائزة المغرب للكتاب سنة 2014، صدرت الرواية في طبعتها الأولى عن دار الآداب سنة 2013، بيروت، لبنان.

< بقلم: الحسين أيت بها

Related posts

Top