نظم النادي المغربي للبيئة والتنمية بالتعاون مع مكتب معلومات البحر المتوسط للبيئة والثقافة والتنمية المستدامة) (MIO-ECSDE ومنظمة ” آنا ليند” (Anna Lindh)، مؤخرا، ندوة علمية افتراضية، ناقشت آفاق تعزيز الحوار بين الثقافات من خلال الفهم الجيد للغذاء في المنطقة المتوسطية.
وشكل الملتقى فرصة لعرض مختلف الخصوصيات الثقافية والتراث الثقافي الغذائي المشتركة بين دول ضفتي المتوسط، في إطار مشروع “الحفاظ على الحوار بين الثقافات من خلال فهم أعمق لطعام البحر الأبيض المتوسط” (SIDUMEF) .
وأدار الملتقى يوسف خياط، أمين النادي المغربي للبيئة والتنمية مبرزا أهمية محور الملتقى الذي عالج مجموعة من الإشكالات الراهنة من خلال حوار تفاعلي عن بعد نشطه نخبة من المختصين والخبراء.
تندرج الحمية الغذائية للبحر الأبيض المتوسط في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي للبشرية. فقد ظل الطعام والنظام الغذائي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، على مر السنين، “منتجات” للتبادل بين الثقافات، وبات جسرا دائما للتواصل وتلاقح الحضارات. إلا أن معظم الموارد التعليمية تتناول الجوانب الصحية، دون جانب الحوار بين الثقافات.
وتبذل مساعي لإنشاء موارد تعليمية مفتوحة جديدة بهدف تعزيز الوعي بين المدرسين والشباب والمواطنين حول التراث المادي وغير المادي لنظام البحر الأبيض المتوسط الغذائي. وذلك في أفق تحسين “تصورات الآخر” من خلال استكشاف الثقافات الغذائية المختلفة بالإضافة إلى المسؤوليات المشتركة للاستهلاك والإنتاج المستدامين.
وتشيع في المغرب قدسية الطعام المشترك، أي أنه إذا تشارك الأفراد الطعام، يصبح هذا الأخير عقدة عرفية تفرض توثيق العلاقة بين متقاسمي الغذاء ويصبح بما يسمى تقاسم “الملح” كتراث غير مادي وبناء اجتماعي في العلاقات، ولا يجوز الإخلال بواجب صون العلاقة.
وكانت الأسر المغربية قبل زحف الوجبات السريعة والغزو الغذائي من خارج المغرب )طاكوس، بانيني…) لا تهدر الطعام، ولا تلقي الأطعمة والخبز في القمامات بل كانت الأم المغربية تقوم عند نهاية كل أسبوع بإعداد وجبة دسمة يلتف على مائدتها الجيران والأهل وأفراد الأسرة، ليتلذذوا بقصعة تسمى “تردة” أو “تابصلت” تتكون بما تبقى من الخبز اليابس ليتم تقسيمه إلى لقيمات تبلل بمرق يحتوي على عدة بهارات صحية، ويطهى بالبصل والطماطم ومكونات أخرى.
ويتذكر المغاربة وجبة شهية أخرى تتكون من الخبز اليابس الذي يقطع على شكل مربعات أو مستطيلات قبل أن يوضع في مزيج من الحليب والبيض، ثم يترك ليتشرب هذا الخليط جيدا ويقلى بعدها في الزيت ثم يقدم مرشوشا بقليل من السكر.
النموذج المتوسطي يحظى بتقدير عالمي
وأفاد الدكتور خالد غانم أستاذ الزراعة العضوية ورئيس قسم البيئة والزراعة الحيوية بجامعة الأزهر في مصر في مداخلة تقديمية للملتقى، تحت عنوان “الحمية الغذائية في منطقة المتوسط”، أن الحمية الغذائية هي نمط غذاء صحي يدمج أساسيات الأكل الصحي من بين المكونات الأخرى التي تميز أسلوب الطهي التقليدي للبلدان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط.
وتعود أصول حمية البحر الأبيض المتوسط إلى جزء من الأرض يعتبر فريدا من نوعه، حوض البحر الأبيض المتوسط، الذي يسميه المؤرخون “مهد البشرية”، لأن تاريخ العالم القديم كله حدث داخل حدوده الجغرافية.
ويضيف الدكتور غانم أن حمية البحر الأبيض المتوسط تعد نموذجا غذائيا يحظى بتقدير عالمي وينتمي إلى الثقافة والتاريخ الاجتماعي والإقليمي والبيئي ويرتبط ارتباطا وثيقا بنمط حياة شعوب البحر الأبيض المتوسط طوال تاريخهم. ويعتمد الغذاء المتوسطي علي ثلاثة أنواع من الأطعمة من قبيل الكروم والزيتون والحبوب ويصفها المؤرخ والباحث الغذائي الأمريكي فرباند بروديل بأنها “الثالوث الأبدي” الذي يعد أساس الزراعة التقليدية والأنظمة الغذائية. ولم يبق النظام المتوسطي، بشكل عام، ساكنا طيلة تاريخه بل تأثر بالهجرات بين الشعوب، إلا أنه في كل الأحوال ارتكز على الكروم والحبوب والزيتون، فضلا عن الخضروات والفاكهة والأسماك. وتقوم المباديء العامة لحمية المتوسط على ممارسة الرياضة عبر المشي السريع أو ركوب الدراجات 30 دقيقة في اليوم، يمكنها أن تعزز من نشاط القلب والأوعية الدموية، وهي فترة كافية لاستعادة شكل الجسم المتناسق. هذا فضلا عن الإكثار من تناول الفاكهة والخضروات والبقوليات، وتناول الدهون الصحية مثل زيت الزيتون وزيت الكانولا. ثم استخدام الأعشاب والتوابل بدلا من الملح لتذوق الأطعمة، وتناول حصص صغيرة من المكسرات، وكذا تناول الأسماك أو المحار مرتين على الأقل في الأسبوع. واستهلاك محدود من اللحوم الحمراء.
وتناول الدكتور غانم التغذية المتوسطية والهرم الغذائي المتوسطي ثم التغذية المتوسطية اليومية والأسبوعية والشهرية إذ تشهد التغذية اليومية الحبوب كمصدر رئيسي للكربوهيدرات في حمية البحر الأبيض المتوسط. ويدمج الفول والمكسرات والحبوب والبذور في روتين الغذاء اليومي .ويصنع الخبز من الحبوب. والخبز طعام أساسي وهام لسكان البحر المتوسط القديم، حيث اعتبر مرادفا للطعام أو الحياة، فلازال المصريون يطلقون عليه «عيش» وهم أول من بنوا الأفران. وتذكر الجداريات التاريخية المصرية 50 نوعا من الخبز والمعجنات أنتجها المصريون القدماء .
وبالنسبة للفاكهة والخضر، يشير الدكتور غانم إلى تناول 7 إلى 10 حصص من الفواكه والخضروات الطازجة كل يوم. وتعتبر الفواكه والخضروات أيضا من المصادر المهمة للألياف ومضادات الأكسدة والفيتامينات. وتعد حصة الفاكهة أو حفنة من المكسرات أيضا خيارات صحية لتناول وجبة خفيفة بعد الظهر.
واعتبر الدكتور خالد زيت الزيتون من الدهون الرئيسية في حمية البحر الأبيض المتوسط والهرم الغذائي. لأن محتواه عال من مضادات الأكسدة بما في ذلك فيتامين هـ. ومن المصادر الممتازة للكالسيوم في حمية البحر الأبيض المتوسط، الزبادي والجبن حيث يجب أن تكون منخفضة الدهون بشكل مثالي. ويستوجب تناول 6 أكواب من الماء يوميا. ويعد السمك أس التغذية بحيث يجب أن يكون فضلا عن الدواجن من المصادر الرئيسية للمنتجات الحيوانية في النظام الغذائي للبحر الأبيض المتوسط، وهي مصادر ممتازة للبروتين.
ويجب أن يستهلك الناس الأسماك الزيتية أسبوعيا من قبيل التونة والماكريل والسلمون والسلمون المرقط والرنجة والسردين. وتعتبر الأسماك الزيتية مصدرا رائعا لأحماض “أوميغا 3 ” الدهنية، كما يؤكد الدكتور غانم. ويجب الحد من استهلاك البيض إلى أقل من 4 في الأسبوع لأن صفار البيض يحتوي على نسبة عالية من الكوليسترول. كما يجب تجنب الحلويات، والخبز الأبيض، والبسكويت، والخبز، وأي كربوهيدرات مكررة. وينصح ألا تستهلك الحلويات أكثر من بضع مرات في الأسبوع، وتحتوي على الأحماض الدهنية غير المشبعة.
وبخصوص التغذية الشهرية، أوصى الدكتور غانم باستهلاك اللحوم الحمراء باعتدال مع تجنب لحم الخنزير وخاصة المقدد والنقانق وغيرها من اللحوم المصنعة أو عالية الدهون، ذلك أن من مشاكل اللحوم الحمراء أنها يمكن أن تسبب الإصابة بمرض النقرس.
ودعا الدكتور غانم إلى اعتماد نموذج لغذاء يومي متوسطي يعتمد على فلسفة الهرم الغذائي الذي يحتوي على نفس فئات الطعام ولكنه يدعو إلى تقليل الكربوهيدرات لأن الحياة الحديثة أكثر استقرارا. من الهرم الغذائي الجديد لمنطقة البحر الأبيض المتوسط، ستكون خطة وجبات النظام الغذائي للبحر الأبيض المتوسط هي الإفطار من دقيق الشوفان مع الجوز، ثم وجبة خفيفة من الفواكه، ليليها الغداء الذي يتكون من سلطة خضراء بالزيتون والحمص والخيار ووجبة خفيفة من مكسرات، ثم العشاء من سمك القد مع الخضار والكسكس.
وقال الدكتور محمد فتوحي، أستاذ باحث ورئيس النادي المغربي للبيئة والتنمية، إن المنطقة المتوسطية تعرف الكثير من التنوع في مختلف المجالات لكنها تشهد نوعا من الوحدة في الثقافات ولو كانت الأطباق تختلف. ويجب أن “نستعمل هذا التراث من أجل تعزيز الحوار بين الثقافات والتقارب ما بين شعوب المنطقة”. وعرض الدكتور محمد فتوحي الخطوط العريضة لمشروع الحوار بين الثقافات من خلال فهم أعمق لطعام البحر الأبيض المتوسط الذي تم الاشتغال عليه بالمغرب، ذلك أن الطعام له عدة أبعاد صحية واجتماعية واقتصادية مما يستوجب فهم عميق بين الثقافات. فالتربية على الصحة والتربية على الغذاء يعدان جزء على التربية المستدامة.
الطعام كأداة للتماسك والاستقرار الاجتماعيين
إن المطبخ المتوسطي رغم اختلافه من بلد إلى آخر فله بعض الخصائص المشتركة، فهو أداة من أجل التغذية والطعام لكنه كذلك أداة من أجل ضمان التماسك الأسري والتعبير عن الفرح والاحتفالية والكرم والعديد من القيم التي تميز المنطقة المتوسطية. كما أن الغذاء يتميز بمكونات مختلفة وبنوع من التبادل النشيط والتنوع البيولوجي والمشاهد والثقافات. ومن خلال الطعام يمكن معرفة التاريخ والتطور التاريخي بالمنطقة المتوسطية. الطبخ في المنطقة المتوسطية موضوع مشترك له أهمية رئيسية. ورغم وقوع اختلافات أو نزاعات فالغذاء يبقى كما هولا يتغير يشكل تلك اللحمة التي تجمع بين شعوب المنطقة.
ودعا الدكتور فتوحي بذلك المجتمع المدني والنخبة المثقفة إلى توظيف هذا الآلية المشتركة للمزيد من التماسك بين شعوب المنطقة وصد أي هوة أو شرخ مفتعل، وبالتالي تطوير هذا المشترك من أجل الحوار وتأثير في السياسات والتوجهات في المنطقة المتوسطية.
وحدد الدكتور فتوحي سياق مشروع الحوار بين الثقافات عبر الغذاء في المنطقة المتوسطية والذي يتجلى في تعزيز التربية على التربية المستدامة ومن خلال البحث العلمي والتدريس ومحاولة تنفيذ بعض الاتفاقيات من قبيل الاستراتيجية المتوسطية للتنمية المستدامة الرامية إلى توجيه الاستراتيجيات الوطنية وتحفيز التعاون الإقليمي في سياق تطبيق أهداف التنمية المستدامة على مستوى القضاء على الجوع والفقر.. مشيرا إلى مشروع المغرب الأخضر الذي عمل على تطوير الزراعة بالمغرب من أجل الأمن الغذائي وحماية التنوع البيولوجي والموارد الطبيعة ..
ويندرج المشروع كذلك في إطار تنمية التعاون والحوار الثقافي بين مختلف مكونات المجتمع المدني في المنطقة المتوسطية وبين المؤسسات البحثية والقطاع الخاص والمجتمع المدني وينشد تنمية الموروث الثقافي المادي وغير المادي وربطه بمختلف القضايا البيئة والتغيرات المناخية والتنوع البيولوجي.
ويهدف المشروع إلى إبراز أهمية التراث الثقافي الغير المادي المشترك الذي يركز على النظام الغذائي بالبحر الأبيض المتوسط من حيث الصحة والبيئة والاقتصاد، فضلا عن أهدافه التربوية والثقافية والبيئية، ثم إظهار أهمية الحوار حول المواضيع المشتركة لتعزيز التقارب بين شعوب البحر الأبيض المتوسط خاصة بين الشباب والمدرسين ووسائل الإعلام والجهات الفاعلة في المجتمع المدني.
ومن مكونات المشروع وضع دليل تربوي عبارة عن منتوج علمي ودراسة للنظام الغذائي بالمنطقة المتوسطية، من أجل توظيف التعليم عن بعد. وسيكون متاحا لجميع المهتمين بالمنطقة المتوسطية ومجالا للحوار والاستفادة من محتواه العلمي على منصة تعلم إلكترونية.
واستعرضت الباحثة صفاء الهير محتويات الدليل الذي تم تطويره في إطار مشروع
الحوار بين الثقافات عبر الغذاء المنطقة المتوسطية الذي يهدف إلى زيادة المعرفة والمهارات والحوار والتبادل حول موضوع التراث الثقافي غير المادي المشترك والثروة الغذائية المتوسطية، خاصة بين الشباب والمدرسين ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية. ويعد هذا المشروع جزء من الأنشطة التي يقوم بها المجتمع المدني لتعزيز التعليم من أجل التنمية المستدامة في منطقة البحر الأبيض المتوسط. ويحتوي الدليل التربوي على ثلاث مكونات. وقد تم تبويبه من خلال بطائق وصفية، همت التاريخ، الأصل وتقديم الأطباق المتوسطية المنجزة من كل مكون غدائي.
يشار إلى أن الملتقى عرف مشاركة مهمة ومكثفة لنخبة مهتمة تمثل مختلف المنظمات غير الحكومية وطلبة وباحثين ومدرسين وإعلاميين. وشهد الملتقى نقاشا مستفيضا نشطه المشاركون وتدارسوا مختلف الرؤى والتصورات حول الغذاء والثقافات المحلية والمتوسطية والوجبات الاستهلاكية والأطباق المتنوعة والمشتركة التي تشكل غنى ثقافيا ومجتمعيا يسترعي الاهتمام والدراسة.
< محمد التفراوتي