تقليص القوات الأميركية في أفريقيا.. تكتيك أم إعادة تحديد للأولويات

تثير سياسة الولايات المتحدة المتعلقة بخفض عدد الجنود الأميركيين المنتشرين خارج أراضيها، مع عدم التخلّي عن دورها في مواجهة التنظيمات المتشددة وبناء القدرات العسكرية في البلدان التي تنشر فيها قواتها سيلا من النقاشات حول الأهداف الاستراتيجية من وراء ذلك.
وبين من يقول إنه مجرد تكتيك أميركي لمواجهة حسابات القوى الكبر مثل روسيا وفرنسا والصين، وإنه مجرد إعادة تحديد الأولويات بهدف تقليص الخسائر في صفوف الجنود وتقليص الإنفاق العسكري للتركيز على سياسات أخرى أكثر أهمية، تبقى القضية الأهم في كيفية ملء الفراغ الذي ستتركه القوات الأميركية دون أن يؤثر ذلك على الهدف الأول وهو مكافحة الإرهاب.
ومع وصول الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، إلى البيت الأبيض، ليس من المتوقع أن يتراجع عن خطط سحب القوات من الخارج أو تقليصها، والتي بدأت منذ كان نائبا للرئيس باراك أوباما، واستكملها في ما بعد الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب.

مواجهة روسيا والصين

خلال حملته الانتخابية، صرح بايدن، لصحيفة “ستارز آند سترايبس” العسكرية الأميركية، أنه يؤيد سحب القوات ولكن “لا يزال يتعين علينا القلق بشأن الإرهاب وداعش”.
ومنذ ما يقارب أحد عشر عاما وعندما كان الكثيرون في إدارة أوباما يحثونه على زيادة القوات العسكرية في أفغانستان كان بايدن صوتا معارضا ولذلك فقد تستمر في المرحلة القادمة خطط سحب واشنطن لقواتها من بؤر الحروب الطويلة مع الإبقاء على الحد الأدنى من جنودها لضمان عدم انهيار حلفائها أمام ضربات الجماعات المسلحة.
وبعيدا عن العراق وأفغانستان وسوريا، يعيد الجيش الأميركي ترتيب أولوياته في قارة أفريقيا من خلال خطط لسحب معظم قواته القتالية من البؤر الساخنة، مقابل تعزيز تدريب الجيوش المحلية لمواجهة التنظيمات الإرهابية بهدف التركيز أكثر على مواجهة تحديات صعود كل من الصين وروسيا.
لكن التنظيمات الإرهابية وإن تراجعت في مناطق عدة من العالم، إلا أن نشاطها يزداد بمنطقة الساحل وغرب أفريقيا، مما يدفع حلفاء واشنطن الأوروبيين والأفارقة للتساؤل حول تأثير هذه الانسحابات على الأوضاع الأمنية بالمناطق الساخنة في القارة السمراء.
فمنذ فبراير وإلى غاية نوفمبر الماضيين، قلّص الجيش الأميركي وجوده العسكري في أفريقيا من ستة آلاف إلى 5100 جندي، أغلبهم في جيبوتي، المطلة على مضيق باب المندب الاستراتيجي. ومن المرجح أن يتقلص الرقم إلى أقل من ذلك بعد قرار سحب أغلبية القوات الموجودة في الصومال، المقدرة بنحو 700 عنصر، مطلع يناير المقبل.
وبينما لم يتضح بعد متى سيتم استبدال 760 عسكريا أميركيا، منتشرين في غرب أفريقيا وبالأخص في منطقة الساحل، بمدربين متخصصين لن يخوضوا عمليات قتالية مباشرة ضد الجماعات المسلحة إذ لا تجد خطة سحب القوات حماسة لدى مسؤولي البنتاغون، الذين يعتقدون أن التهديد الإرهابي في أفريقيا مازال عاليا.
ففي نوفمبر الماضي، ذكر تقرير المفتش العام بوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، أن الوزارة تقول إنها بحاجة إلى أن تظل (هذه القوات) في موقعها، لتحديد هذه التهديدات بشكل استباقي، وتحديد نطاقها وحجمها، والرد بشكل مناسب.
لكن وزير الدفاع السابق مايك إسبر، طمأن شركاء بلاده، في فبراير الماضي، من أن خطط استبدال القوات القتالية التقليدية بمدربين عسكريين متخصصين، ستترك “نفس العدد تقريبا من القوات في القارة”.
بعد نحو عقدين من الحرب على الإرهاب، التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر 2001، تجد الولايات المتحدة أنها غرقت في متاهة معارك لا نهاية لها، فمن أفغانستان إلى العراق وسوريا واليمن والصومال والنيجر ومالي إلى غرب أفريقيا، تخوض واشنطن حربا مفتوحة زمانيا ومكانيا.
وبدل أن تقضي على الجماعات الإرهابية أو تحتويها، فإن هذه الجماعات تتمدد رغم الضربات القوية التي تتلقاها، وتستثمر في رفض شعوب المنطقة لوجود قوات أجنبية على أراضيها.
وبالتزامن مع هذه الحرب المفتوحة مع الإرهاب، استنزفت الولايات المتحدة الكثير من مواردها البشرية والمادية، في الوقت الذي صعدت الصين اقتصاديا إلى الدرجة التي أصبحت أو تكاد تكون أقوى اقتصاد في العالم.
كما أن روسيا تتوسع وتبسط نفوذها العسكري في عدة مناطق من العالم وتقضم أجزاء من أوكرانيا وجورجيا، وتُوسع نفوذها في أجزاء من القوقاز وسوريا وليبيا. ولذلك يمثل خيار انسحاب الولايات المتحدة من بؤر التوتر، خيارا اضطراريا يتفق بشأنه الديمقراطيون كما الجمهوريون تحت ضغط الناخبين الأميركيين ودافعي الضرائب.
وحتى لا تترك واشنطن فراغا أمنيا في المناطق التي ستنسحب منها، فإنها تفضل التركيز على إرسال مدربين متخصصين بدل قوات قتالية، لتقليص الخسائر البشرية وعدم استفزاز شعوب المنطقة، وأيضا التفرغ لخطر آخر بدأ يتعاظم.
وكان إسبر، قد أكد أن استبدال القوات القتالية بمدربين سيُحسن العلاقات الأميركية مع الشركاء الأفارقة، بينما يحرر القوات القتالية لمنافسة القوى العظمى مثل الصين وروسيا، بعد أن أدرجت إدارة ترامب هذين البلدين في قائمة التهديدات الأساسية للولايات المتحدة.

فقدان شريك نشط

باعتبارها شريكا نشطا ساعدت الولايات المتحدة حليفتها في الناتو فرنسا، التي وجدت نفسها بعد ثماني سنوات من القتال في الساحل ضد الجهاديين شمال مالي، منهكة وأخفقت في منعهم من التمدد لدول أخرى مثل النيجر وبوركينا فاسو، ليجاوزوا الساحل إلى دول أفريقيا جنوب الصحراء المطلة على المحيط الأطلسي.
ولذلك، يعتقد المحللون أن الخطة الأميركية لتقليص حجم تواجدها العسكري بالمنطقة، لا تخدم الاستراتيجية الفرنسية في إشراك حلفائها وخاصة الأوروبيين في تحمل جزء من الأعباء المالية والعسكرية لعملياتها بالساحل.
وتواجه الحكومة الفرنسية انتقادات داخلية تحذر من غرقها في مستنقع الساحل الأفريقي، ورفض السكان المحليين لتواجد قواتها على أراضيهم، باعتبارها مستعمرا سابقا مازالت له أطماع في بلدانهم.
وقالت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي، خلال زيارة قامت بها إلى البنتاغون، في يناير الماضي، إنها بينما تدرك “حاجة الولايات المتحدة إلى إعادة تمركز القوات بعيدا عن المنطقة، فإن بعض القدرات الأميركية، مثل الاستخبارات والمراقبة، لا يمكن تعويضها”.
وتشكل الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل وغرب أفريقيا تهديدا كبيرا للأمن في المنطقة خاصة منذ مقتل زعيم داعش أبوبكر البغدادي العام الماضي، ويخشى مسؤولون في البنتاغون أن يؤدي تقليص الوجود العسكري الأميركي إلى تدهور الوضع الأمني.
فبحسب تقييم أجرته وكالة الاستخبارات الأميركية نقله تقرير المفتشية العامة لوزارة الدفاع، فإن “تهديد الجماعات المتطرفة في غرب أفريقيا ازداد بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية”. وذكر أن بوكو حرام وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بالقاعدة وداعش في غرب أفريقيا وداعش في الصحراء الكبرى استمرت في التوسع جغرافيا وشنت هجمات تهدد مصالح الشركاء.
وبعد القضاء على إمارة داعش في العراق وسوريا ثم ليبيا، بات ثقل التنظيم متركزا بالساحل وغرب أفريقيا، في المحور الممتد من شمال شرقي نيجيريا مرورا بالنيجر وصولا إلى الشمال الغربي لمالي، إذ ذكر تقرير لمؤشر الإرهاب العالمي (جي.تي.آ) صدر الشهر الماضي أن “أفريقيا جنوب الصحراء كانت الأكثر تضرراً مع وجود 7 من أكثر 10 دول شهدت ارتفاعاً في عدد ضحايا الإرهاب، في هذه المنطقة”.
وتسعى الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل لتشكيل إمارة لها في الصحراء الأفريقية الكبرى تمتد من موريتانيا غربا إلى إقليم دارفور السوداني شرقا، ودعم التنظيمات الإرهابية في نيجيريا جنوبا والجزائر شمالا، باعتبارهما أكبر دولتين في المنطقة، تشكلان خطرا على مشروعها لإسقاط دول الساحل الفقيرة والهشة أمنيا.

Related posts

Top