ثريا الحضراوي.. سيدة الملحون المغربي

تعد الفنانة والمطربة المغربية ثريا الحضراوي من رائدات فن الملحون بالمغرب، نظرا لما حققته من شهرة كبيرة وواسعة على المستويين العربي والعالمي عبر السهرات والحفلات والمهرجانات التي أقيمت على شرفها في كل من فرنسا (متحف اللوفر) وهولندا وبلجيكا وألمانيا، في الوقت الذي كان فيه فن الملحون حكرا على الرجال، ولذلك فهي تعد اليوم تاريخيا أول امرأة تغني فن الملحون في العالم، لتتوالى بعدها الأصوات النسائية المغربية كالفطر ممهدة لهن الطريق الطويل نحو الشهرة. وإذا كانت المغربية نعيمة سميح “عميدة الأغنية المغربية”، كما لقبها أحد الصحافيين، فإني أجزم أن ثريا الحضراوي هي “سيدة الملحون المغربي”، من خلال الألبومات الساحرة التي قدمتها إلى المشهد الغنائي المغربي، والتي تفوق تسعة ألبومات نذكر منها: قصائد فن الملحون، انصرافات أندلسية، قهوة المعاني، الجفن.. وهي ثائرة بصمتها، ومتميزة بطلتها الجمالية، التي تمتح ألوانها وزخارفها من التراث المغربي بشتى ألوانه وجغرافياته، نائية بنفسها إلى عالم صوفي وروحي، وبصوتها الشجي الحالم عن زعيق الإذاعة والتلفزيون، وأيضا عن ثقافة الترفيه والاستهلاك والكلمات السخيفة والنابية التي باتت تطبع الموسيقى المغربية في السنوات العشر الأخيرة. وهذا فضلا عن مشاركتها الفنية في رحلة الأوديسة للسلام على نهر الدانوب، والتي قام بها فنانون من ضفاف البحر الأبيض المتوسط في بعض مدن أوروبا الشرقية بصفتها فنانة مغربية رفقة موسيقيين من مختلف البلدان العالمية، مقدمة بذلك التراث المغربي في أبهى وأرقى صوره عبر سهرات فنية في كل المدن التي رست بها الباخرة وهي فيينا، براتسلافا، بودابست، بلغراد، بوخارست وغيرها من المدن.

من شغف الكتابة إلى عشق الغناء

تنتمي ثريا الحضراوي إلى جيل السبعينيات، ذلك الجيل الذي لم يكن يؤمن لا بالتخصص ولا بالحدود المنهجية والمفاهيمية بين العلوم الإنسانية والاجتماعية، فقد استطاعت أن تمارس إلى جانب عشقها الأسطوري للغناء فن الكتابة عبر بحثها وتنقيبها في مواضيع سوسيولوجية ثرة وحساسة ظلت في حكم اللامفكر فيه داخل الثقافة المغربية المنفلتة آنذاك من ربقة التقليد والتبعية العمياء التي شهدتها من طرف الفقهاء قبيل الاستقلال وبعده بقليل.
اعتبرت كتابات ثريا الحضراوي آنذاك، رفقة صديقة دربها السوسيولوجية الراحلة فاطمة المرنيسي، من ضمن طليعة الكتابات النسوية المتميزة لثلة من الكاتبات المغربيات القلائل جدا لجيل السبعينيات والثمانينيات داخل المشهد الثقافي النسوي المغربي المعاصر، اللاتي نحتن تجاربهن الكتابية الأولى على صفحات المجلات والملاحق الثقافية المغربية (بيان اليوم، الاتحاد الاشتراكي، العلم، المنعطف) في تلك الفترة، في الوقت الذي كان فيه الملحق الثقافي يشهد فورة وحراكا ثقافيا ساخنا من خلال ما كان يعج به من مقالات ودراسات ساخنة تتناول قضايا اجتماعية وسياسية وثقافية راهنة عبر ما يحمله أصحابها من هم ثقافي ومعرفي ممثلا بذلك الوجدان الجمعي لعدد من المبدعين المغاربة بمختلف مشاربهم الأدبية والفنية والفكرية وصوتا جديدا وجارحا لجيل عاش بعضا من تضييق حرية الرأي والتعبير وتجربة الاعتقالات المفزعة التي شهدها المغرب الثقافي ابان هذه المرحلة العصيبة من سبعينيات القرن الماضي، أو كما سميت في بعض الأدبيات التاريخية بـ”سنوات الجمر والرصاص”، والتي عمل فيها اليسار على ضخ دماء جديدة في جسد الثقافة المغربية عبر اللقاءات الكثيرة التي كان يعقدها في كل من الدار البيضاء والرباط وفاس، وأيضا عبر إنشاء جمعيات ثقافية ونسائية وازنة تنادي بحرية المرأة والتعبير مع بروز بعض المجلات الطلائعية كأنفاس والثقافة الجديدة والمقدمة وغيرها من المجلات التي لعبت دورا كبيرا وحاسما في تاريخ الثقافة المغربية، هذا فضلا عن بروز فرق موسيقية وأندية سينمائية قوية لها صيتها الدائم والمتجدد.
في هذا الأفق الثقافي والفني الغني بزغ اسم ثريا الحضراوي ككاتبة متميزة داخل الحركة النسوية المغربية قبل أن تتخلى عن شغفها الأول وترتمي في أحضان فن الغناء من خلال قصائد ملتزمة ذات نفحات جمالية وبعد سياسي لكل من الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ومحمود درويش وعبد الله زريقة، وذلك وسط الحركة الطلابية بالجامعة أو فيما عرف من قبل باسم “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب”. وعلى الرغم من تميز ثريا الحضراوي كتابيا، عبر مساهمتها في تأسيس مجلة “كلمة” التي تعرضت للمنع بفعل المواضيع الحساسة التي كانت تتطرق اليها المجلة، وكذا إصدارها لرواية une enfance” marocaine ” عن منشورات دار الفينك، ثم كتابها الأخير عن منشورات الفاصلة en quête d’une voix فقد شعرت في مرحلة ما أنها غير راضية عن فعل الكتابة وأنها بحاجة ماسة إلى التعبير عن نفسها وتفجير كينونتها فنيا عبر الصوت والغناء بعد أن حصلت على الإجازة في الفلسفة لتتفرغ بشكل نهائي لفن الملحون الذي عشقت كلماته وهي طالبة بالمعهد الموسيقي بمدينة الدار البيضاء على يد أحد المشايخ.

“الملحون فراجتو فكلامو” أي فرجة الملحون في كلامه

يعتبر فن الملحون رمزًا من رموز التراث والهوية الثقافية المغربية، ورافدًا مهمًا وأساسيًا من روافد الذاكرة الفنية بالمغرب، وأكثر الألوان الموسيقية ذيوعا وانتشارا عبر العالم، فهو في الأصل عبارة عن قصائد شعرية باللغة الدارجة المغربية، وسمي بالملحون لأنه يلحن في اللغة العربية، غير أنه لا يحترم ضوابطها الإعرابية.
وتتكون فرقة الملحون أو جوقة الملحون كما تسمى من عدة أفراد ذكور يرتدون لباسا تقليديا يمثل الزي التراثي المغربي، وهو عبارة عن جلاليب مزركشة وطرابيش حمراء وبعض الآلات الموسيقية التقليدية (الرباب، العود، الوتار، الطعريجة). وهذا ما حدا بالدكتور عبد الوهاب الفيلالي إلى القول إن فن “الملحون في قيمته الفنية هو فن شعري وإنشادي غنائي متميز، وقد يكفي السامع سماعه في البحث عن بواعث ومظاهر قيمته الفنية وكوامنه الجمالية إذا كان شعور جل أو كل المتلقين، فإنه من الدواعي الأكيدة عند الباحث في فن الملحون لرصد تلك البواعث والتجليات وتفحصها بعناية تامة حتى نكتشف أسرار قوة تأثيره الفنية في السامع المتذوق وفي غيره من الفنون الحديثة.” ونظرا لقيمة فن الملحون الفنية والعلمية فقد اعتبره المؤرخ محمد المنوني في حديثه عن المصادر التاريخية المغربية أنه يشكل مصدرا مهما وغنيا من مصادر التاريخ المغربي، إذ قال “ولعلنا سنجد في هذا النوع من الشعر من دقة الوصف ما لا نطمح أن نجده عند شاعر أو كاتب بالعربية الفصحى” (1).
ثريا الحضراوي بلا ريب أول امرأة تغني فن الملحون في العالم، وتتميز أعمالها الغنائية بميسم التجديد الذي يطبع أداءها بالكثير من الجمالية والاحترافية، ويجعلها مميزة عن باقي المغنيات الأخريات الغارقات في “الابتذال الفني”، فهي تعمل دائما على تجديد هذا اللون الغنائي عبر مزجه بأدوات موسيقية غربية أكثر حداثة محافظة بالتالي على جوهر الملحون، خصوصا مع موسيقيين من مختلف دول العالم نذكر منهم العازف الكبير على البيانو الروسي سيمون ناباتوف الذي قامت معه بجملة من الجولات الموسيقية التي نظمها المعهد الثقافي الألماني عبر كوكتيل فني يجمع بين التراث الفني المغربي والموسيقى الغربية العصرية، استطاعت من خلاله أن تخلق لغة فنية جديدة وعالما خاصا بها.
كما لا ننسى اشتغالها الآخر مع موسيقى الجاز الفرنسي لويس كلافيس والفنانة الهولندية العالمية عازفة القيتار كوري
فان بينسبيرغ، وفي الوقت الذي نجد فيه ثريا الحضراوي غارقة في تجديد هذا اللون الغنائي والتعريف به عالميا نرى الأخريات ممن اعتادوا على تسمية أنفسهم بالفنانات يجترون ويستظهرون قصائد الملحون دون وعي بشيء غارقين في تراثيتهم المملة
ثريا الحضراوي في نظري، تستحق لقب سفيرة الملحون وسيدته الأولى بامتياز.

> بقلم: أشرف الحساني

Related posts

Top