جاك أتالي أبرز المستقبليين الفرنسيين يتوقع المزيد من الحروب

إذا أردنا القيام بمحاكاة لجملة ماركس الشهيرة “ظلّت الفلسفة تفسّر العالم بطرق مختلفة. ولكن المهم تغييره”، من خلال مطالعة سريعة لجوهر الدراسات المستقبلية، فهل يمكننا القول “ظلت هذه الأبحاث تتوقع تفاصيل المستقبل بطرق مختلفة، ولكن المهم تغييره”.
الجهد الذي يبذله الباحثون في المستقبليات يبدو لمتابعي هذا النوع من الدراسات ثرياً وبالغ الأهمية، ولا سيما من جهة محاولته قراءة الواقع الراهن في كافة مستوياته، والغوص في تفاصيله، وديناميات تحولاته، وهو الأمر الذي يستدعي الإلمام بعلوم شتّى، مع الإبقاء على نوافذ العقل مفتوحة لرياح فعاليات الأفراد والجماعات، التي تضعها آليات الإنتاج الراهنة وبسرعة هائلة في مدار الاستهلاك رغبة بالاستفادة منها. ولكن هل يستطيع هؤلاء الباحثون أن يساهموا في تغيير المستقبل؟
تبدو المسألة معقدة فعلاً، إذ أن مجالات التنبّؤ لا تبنى هنا على الحيثيات التجهيلية الشائعة بين عوام البشر، بل إنها تقوم أساساً على استثمار طاقة العلوم، مع تفعيل الأدوات المنهجية التي تمكّن الباحث من القيام بعملية ربط بين عتبات شتى يقف الواقع الراهن في مقدمتها، مع انعطافة مهمة لأنماط التحولات السابقة التي يمكن القياس وفقها، وضمن هذه الجدلية، لا يبدو أن أحداً يستطيع أن يقدم للبشر صورة واضحة عن مستقبلهم، ولكن لا بأس بتملّكهم لمفاتيح أولية تمكنهم من القيام بقراءة تحولات الواقع، والخلوص إلى ما يمكن أن تفضي إليه.
التفكير بالمستقبل ليس أمراً مستجداً في تاريخ الفكر الإنساني، بل إنه يعود ربما إلى بداياته، ولكن تبعاً لسيرورة الزمن التي تعني أن المستقبل هو مصير إجباري، ربما يكتشف المرء أن قراءة محطات هذا التفكير ستقود إلى مفارقات عالية التأثير في الراهن وفي المستقبل أيضاً، وعلى سبيل المثال يمكن التوقف عند رؤية أفلاطون الذي رأى “أن الاتجاه الذي يبدأ مع التعلم سوف يكون من شأنه أن يحدد حياة المرء في المستقبل”، والتي تجوهرت حول فكرته عن المجتمع المثالي في “الجمهورية”، وسميت لاحقاً باليوتوبيا، ثم يمكن القفز فوق كل الأفكار التي عالجت ذات الثيمة، لنصل إلى مقولة صادمة يطلقها زميل آخر لأفلاطون في حقل الدراسات المستقبلية هو المفكر الفرنسي جاك أتالي حيث يقول “بيّن التاريخ الحديث أنّ اليوتوبيا هي أمّ كلّ الدكتاتوريّات”.
أتالي بروفسور في الاقتصاد وكاتب ومسؤول فرنسي رفيع المستوى. ولد لعائلة يهودية في مدينة الجزائر في العام 1943 وهو عضو مجلس الدولة الفرنسية، عمل مستشاراً خاصاً للرئيس فرانسوا ميتران. وأسس وترأس أول بنك أوروبي لإعادة الإعمار والتنمية في لندن. وكان قد أدار في العام 2008 لجنة تحرير النمو الفرنسية، ويدير حالياً مجموعة “الكوكب الإيجابي” وهي مؤسسة دولية غير ربحية تُعنى بتوفير خدمات التمويل الصغير في كافة أرجاء العالم، له أكثر من 65 عملا بين بحث وكتاب وسير ذاتية وروايات ومسرحيات.
الشروط الإنسانية
إن تأملاً بسيطاً في حال الأفكار الأيديولوجية التي أنتجت حكومات تسلطية قادت حروباً مدمرة في تاريخ البشرية، يضعنا ضمن السياق الذي ينطلق منه أتالي. فالإنسانية ظلت بحسب ما يقول أتالي “عبر كل الأزمان، تتأرجح بين رؤى سلبية للعالم والتاريخ، يختصر خلالها المشروع الإنساني في تنظيم وتحصين الدفاع لصدّ خطر، حقيقي أو متخيل؛ ورؤى إيجابية تقوم على اليوتوبيات التي يتعين تجسيدها في مشاريع. وينتهي المطاف دائما بالأيديولوجيات السلبية إلى اتخاذ الأخطار ذريعة للتنكيل بالحريات. وفي بعض الأحايين تتحول الرؤى الإيجابية إلى سلبية لمّا يهدّد الخصوم وجودها”.
وبالاستناد إلى هذه المفارقة التي يعيش البشر في الوقت الراهن حيثياتها يمكن لنا أن نقرأ زاوية التفكير بالمستقبل بالاستناد إلى أفلاطون وإلى أتالي، ليس من خلال التناظر بينهما، بل من خلال الاستناد على اتجاه المقدمات التي تتم من خلالها حالياً قراءة المستقبل بحسب الشرط الأفلاطوني، وتبيان مدى صلاحية فكرة اليوتوبيا ذاتها، التي يفككها أتالي كقارئ وعالم في المستقبليات، بعد أن أوغل العالم برمته، ولا سيما دوله المتقدمة في الابتعاد عن الالتزام بالشروط الإنسانية التي تجعل من عملية التطور فعلاً يخدم جميع سكان الكوكب، فهذه الدول لم تقم بالإساءة لتطور الشعوب الأخرى فقط، بل إنها تنحدر شيئاً فشيئاً نحو التفكك والتحطم، رغم أنها تستدعي في صياغة وجودها شعارين أساسيين هما الحرية التي تسند نشاط اقتصاد السوق، والديمقراطية بوصفها مجال الفعل السياسي.
يقول أتالي “بالرغم من القناعة السائدة القائلة بأن اقتصاد السوق والديمقراطية قد اتحدا لتشكيل آلة جبارة تساند وتطوّر التقدم الإنساني، فإن هاتين القيمتين عاجزتان عن ضمان بقاء أيّ حضارة إنسانية. إنهما حافلتان بالتناقضات ونقاط الضعف. وإذا لم يسارع الغرب، ثم الولايات المتحدة بوصفها قائدة الغرب المعيّنة بقرار ذاتي، إلى الاعتراف بنقائص وأزمات اقتصاد السوق والديمقراطية، فإن الحضارة الغربية سوف تأخذ في الانحلال التدريجي، ولسوف تدمّر نفسها بنفسها”.
ولكن من أين يستدعي أتالي قراءته السوداء هذه لمصير الحضارة الغربية، وهل يمكن أن تكون رؤيته متعجلة، وغير دقيقة رغم استناد صاحبها إلى إرث معرفي كبير، وفلسفة جدلية محكمة، وتجربة سياسية طويلة؟
لقد سبق لأتالي أن أطلق سلسلة طويلة من التنبؤات، كانت تقرأ الوقائع اليومية وكذلك الرؤى الاستراتيجية للقوى الفاعلة على مستوى العالم، ولكن هذه التنبؤات لم تكن لتلفت انتباه عموم الناس بالمقدار ذاته الذي كان يطلق إشارات خطر تصل إلى أصحاب القرار في العالم.
الحكومة العالمية
تحليل معادلة القراءة المستقبلية وأثرها في تغيير الواقع، يمكن أن يكون حاضراً في تجربة أتالي، فما يبنى على العلم، لا بد له من أن يجد آليات تحققه، طالما أن مصائر اقتصادية واجتماعية يومية ترتبط به، فقد سبق له أن حذّر من التناقضات التي تعصف بالحضارة الغربية، وعلى هذه الأرضية بحث أتالي في غير مؤلف من مؤلفاته العديدة عن السبل الأفضل لمعالجة مشاكل عالمية، كالأزمات المالية المتلاحقة، وأزمة الهجرة، وأزمة البيئة، ومخاطر الأوبئة، وسوء توزيع الثروة، وغياب التنمية.
في ظل حالة العجز التي تتحكّم بواقع الدول الكبرى التي تقود العالم في الوقت الراهن رأى أتالي أن القرن الحادي والعشرين لا بد أن يحمل قيام هذه القوى الكبرى بالتوجه نحو إنشاء حكومة عالمية تشترك بها الدول الديمقراطية مع دول الجنوب التي تنحو في تطورها نحو الديمقراطية أيضاً. فحكومة من هذا الوزن ستكون وحدها هي القادرة على مواجهة هذه الأخطار التي لم تعد تهدد دولاً بعينها بل بات خطرها يشمل كوكب الأرض كله.
التفكير بالمستقبل ضمن هذه العتبة، لا يمكن له أن يبنى على مجرد الالتفات إلى الظواهر السطحية. بل إنه يحتاج إلى الحفر العميق في القضايا التي تأزّمت وباتت متورّمة، وتحتاج إلى من يعالجها بعمليات جراحية قاسية. ولكن واقع المواجهة بين الأقطاب الكبرى على مستوى العالم كله، لا يبشر الحالمين بإمكانية التوجه صوب حلّ المسائل المستعصية المشار إليها أعلاه، بل إنه يعيد الإنسانية جمعاء إلى مستوى متدنٍّ من الفعل، يصل في بعض تجلياته إلى مستوى الصمت عن الجرائم التي ترتكب بحق الشعوب، تحت ستار الحرب على الإرهاب، وبدوره يحاول أتالي من زاوية رؤيته الاستشرافية المساهمة في معالجة الاستعصاءات التي تتكرّس يومياً بسبب هذه الوقائع أو غيرها، فيكتب في الصحافة تشريحاً لهذه الظواهر، محيلاً إياها إلى السياقات التي ارتبطت بها، التي يسميها بالأيديولوجيات السلبية، التي صارت في وقتنا الحالي تتماهى في حركيتها مع التوجهات المتطرفة ضد اللاجئين كمثال حاضر وراهن ومؤثر، في عموم البلدان الغربية المحكومة بقوى سياسية باتت تمالئ الأفكار الشمولية.
أتالي يقترح هنا في زاوية نشرها في مجلة الإكسبريس بداية هذا العام جواباً على الأسئلة التي يطرحها الوضع الراهن. يقول إن ذلك “يتمثل في بناء أيديولوجيا إيجابية جديدة أو أكثر. وبالنسبة إليّ، فالأمر واضح غاية الوضوح هو خدمة الأجيال المقبلة. إن هذا شرط لتحقيق سعادتنا. ويجب التفكير، في ظل هذا الإيثار العقلاني، بمشروع مجتمعي يستند على التعاطف والتعاون ومتعة خدمة الآخر. إن مثل هذه الأيديولوجيا الإيجابية توفر رداً على تهديدات البيئة والإرهاب أكثر جاذبية من الأيديولوجيات السلبية، فمن خلال العمل من أجل مصلحة الأجيال المقبلة سنجري التحولات الطاقية الضرورية دون الحاجة إلى نهج سياسة الحظر الشمولية. ومن خلال مدّ يد العون في بلدانهم لأولئك الذين يتدفقون علينا وسيتدفقون أكثر، وتخصيص استقبال يحترم كرامة أولئك الذين سيحلّون بيننا، سنتجنب الخيبات التي تخلق الإحساس بالإهانة لدى البعض، والانطباع بالتعرض للغزو لدى الآخرين. فهكذا يمكننا أن نوفر الشروط الكفيلة بظهور نمو متوازن ومستدام وديمقراطي للعالم. نموّ يحترم الحياة بكل أشكالها”.
توقعات 2016
في نهاية العام الماضي، توقع أتالي في زاويته الأسبوعية وقوع العديد من الأحداث السيئة التي سيكون لها أثر على العالم كله، وستتسبب في إبطاء وتيرة النمو الاقتصادي العالمي، دافعة الإنسانية إلى مزيد من الحزن والغضب والشعبوية والحمائية. معتبراً أن هناك إمكانية لحدوث الأسوأ منها. فقد توقع هجمات إرهابية جديدة بحجم يتحدى كل الخيال، وذلك في كل البلدان، بما فيه فرنسا، بالإضافة إلى توقعه تفاقم النزاعات الجارية حاليا في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن وأوكرانيا. بالإضافة إلى تأكيده على أن بريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي. وأيضاً بناء الجدران على الحدود بين بلدان الاتحاد، كحماية مضللة من الهجرة غير المرغوب فيها، ما يدل على تراجع أوروبا، إذ ستصبح حياة اليورو في خطر بسبب الحذر والشكوك التي ستكرسها تلك الأسوار.
مقابل هذه التوقعات احتوت أجندته بضع وقائع لم تحدث من مثل اندلاع مواجهات في بحر الصين والهند وأفريقيا، والتي يمكن أن تنزلق إلى حرب عالمية دينية أو علمانية، أو تكون مرتبطة بحركة الطاقة. وكذلك انهيار دول أخرى، خاصة في أفريقيا، وفقا للنموذج الصومالي أو السوداني. إضافة إلى اندلاع أزمة مالية كبرى على الصعيد العالمي، شبيهة بتلك التي هزت العالم في 2008، وحدوث كوارث طبيعية بسبب التغيرات المناخية. وتفشي وباء جديد، انطلاقا من سلالة جديدة لفيروس متحول لا يوجد له لقاح أو علاج فعال، الأمر الذي سيتسبب في إغلاق الحدود في كل جهات العالم. وغير ذلك من التوقعات.
ومقابل كل ما سبق تحدث أتالي عن خبرين سارين، سيتجلى الأول إن حالفنا الحظ بحسب قوله “في عدم حدوث أيّ من الأنباء التي وردت أعلاه. وإذا حدث ذلك، وهذا لعمري من باب المعجزات، يمكننا القول إن العالم نجا من الكارثة”. أما الثاني فسيتمثل “في حصولنا على الوسائل الكفيلة بتجنب كل هذه الكوارث المحتملة بشكل نهائي، وذلك من خلال الاشتغال بشكل منهجي على أسباب كل منها. وهذا يتطلب منا أن نعتبر أنفسنا، فرادى وجماعات، مسؤولين عن المستقبل. وإذا ما تم تبني هذا السلوك، سيتجنب العالم في 2016 السير على السبيل ذاته الذي اتبع في 1914 و1939، وسينخرط في عهد رائع من النماء والتعايش والسعادة”.
يكتب أتالي زاوية أسبوعية في مجلة إكسبريس الفرنسية، وقد نال حتى اليوم العديد من شهادات الدكتوراه الفخرية من العديد من الجامعات الأجنبية، وهو عضو في الأكاديمية الدولية للثقافات. تُرجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة وبيع منها ثمانية ملايين نسخة في مختلف أرجاء العالم بما فيها المقالات التي تتناول مجموعة واسعة ومتنوعة من المواضيع. ويعتبر من أكبر المفكرين في فرنسا، وواحداً من أبرز الشخصيات المؤثرة في العالم.

Related posts

Top