حسين آيت احمد… الذي ستفوته جزائر 2016

رحل حسين آيت أحمد، آخر رموز الثورة الجزائرية وآخر الصامدين في وجه “السلطة” الدكتاتورية التي أسّس لها هواري بومدين بعد إطاحته بأحمد بن بيلا.
 كان حسين آيت أحمد ذلك الرجل الذي قال بعد انتصار الثورة الجزائرية وخروج الفرنسيين إن “الوطنية باتت تعني اليوم الديمقراطية”. وقال بعد انقلاب بومدين على بن بيلا في العام 1965 إن “الدكتاتورية العسكرية خلّفت الدكتاتورية المدنية”.
لم تستطع الجزائر، أسيرة نظامها المتحجّر، إنصاف حسين آيت أحمد، علما أنّها كانت في حاجة دائمة إلى فكره المستنير. سقطت في فخّ الحزب الواحد الذي كان في واقع الحال غطاء لحكم الفرد في عهد بومدين الذي اعتقد أن للجزائر دورا على الصعيد الإقليمي وحتّى العالمي.. إلى أن جاء اليوم الذي دفع فيه البلد ثمنا غاليا لهذا الوهم.
لن يرى حسين آيت أحمد سنة 2016 التي ستكون سنة في غاية الأهمّية، بل مصيرية، بالنسبة إلى الجزائر حيث الرئيس المريض عبد العزيز بوتفليقة يدير من كرسيه النقّال بلدا عبر المحيطين به. سيتبيّن في 2016 هل في استطاعة النظام الجزائري إعادة تأهيل نفسه، أي القيام بالإصلاحات المطلوبة أم لا؟
تعود أهمّية حسين آيت أحمد، آخر القادة التاريخيين التسعة للثورة الجزائرية إلى أنّه كان معارضا للتوجّه نحو نظام الحزب الواحد وحكم الفرد. اعترض منذ البداية على توجهات “الإخوة” في “جبهة التحرير الوطني” التي ما لبثت أن تحوّلت في عهد بومدين إلى الحزب الحاكم في خدمة الفرد الحاكم.
لم يكن حسين آيت أحمد مجرّد معارض عادي يكتفي بالتفرّج على الأحداث، هو الذي كان بين أوائل الذين دعوا إلى الكفاح المسلح في مواجهة المستعمر الفرنسي في الأوّل من نونبر 1954. فبعدما وجد أن الثورة الجزائرية انتهت بنظام دكتاتوري على رأسه أحمد بن بيلا الذي قال “من ليس معي، فهو ضدّي”، استقال من المكتب السياسي لـ”جبهة التحرير الوطني” ومن الحكومة المؤقتة التي كان فيها وزير دولة، ولجأ إلى فرنسا ثمّ إلى سويسرا.
قبل ذلك، أمضى حسين آيت أحمد ست سنوات في الاحتجاز بعدما خطف سلاح الجو الفرنسي الطائرة التي كانت تقّله مع قياديين آخرين. هم أحمد بن بيلا ورابح بيطاط ومحمد خيضر، إلى المغرب.
بقى حسين آيت أحمد سجينا حتّى 1962 عندما استقلّت الجزائر. لم يكتف بالاستقالة والانتقال إلى فرنسا ثمّ سويسرا. عاد إلى الجزائر في 1963 وخاض الانتخابات النيابية في تلك السنة وما لبث أن قاد تمرّدا في منطقة القبائل التي ينتمي إليها. فشل التمرّد وكان السجن في انتظار حسين آيت أحمد مؤسس حزب “جبهة القوى الاشتراكية”.
فرّ من السجن في 1966، وبقي في المنفى اثني عشر عاما. لم يعد إلى الجزائر إلّا بعد أحداث خريف 1988، عندما اضطر النظام إلى الانفتاح سياسيا تحت ضغط الشارع.
كان حسين آيت أحمد يعرف تماما طبيعة النظام في الجزائر. كان يسمّيه “السلطة”. عرف أن “السلطة” وراء اغتيال الرئيس محمد بوضياف في 1992 وأن دوره آت، فانتقل مجدّدا إلى المنفى.
تحدّثت إليه مرّات عدة عندما كان في سويسرا. كان متقد الذهن دائما. لم ينحن يوميا أمام “السلطة” على الرغم من كلّ الإغراءات، ولم يتخلّ عن شعار “لا للدولة البوليسية ولا للدولة الدينية”.
المؤسف أن حسين آيت أحمد لن يشهد الفصل الجديد من المأساة الجزائرية المستمرّة منذ الاستقلال. فبن بيلا الذي لم ينضج سياسيا في يوم من الأيّام والذي لم يحكم سوى ثلاث سنوات خرج نتيجة انقلاب عسكري قاده بومدين الذي تزعّم مجموعة وجدة. وجدة هي المدينة المغربية التي وفّرت أرضا آمنة لمجموعة كبيرة من الجزائريين إبان حرب الاستقلال.
وضع بومدين الأسس للانهيار الجزائري المستمرّ والذي يحول دونه، بين حين وآخر، شراء السلم الأهلي عن طريق عائدات النفط والغاز بدل إقامة مجتمع مدني يتمتّع بحيوية في بلد لا تنقصه الموارد. الجزائر بلد غنيّ، إن بالثروات الطبيعية وإن برجاله الذين بينهم بعض أفضل الدبلوماسيين في المنطقة والعالم.. وإن بطبيعته الخلّابة وإن بتنوع هذه الطبيعة.
حوّل بومدين الجزائريين إلى شعب كسول والاقتصاد إلى اقتصاد ريعي في ظلّ نظام الحزب الواحد والشعارات الاشتراكية “المزيّفة” على حد تعبير حسين آيت أحمد. قاد بومدين ما سمّاه “ثورات” كانت نتيجتها الفشل الذريع، فضلا عن أنّه ساهم إلى حد كبير في خلق “عقدة المغرب” لدى المسؤولين الجزائريين. هؤلاء، في معظمهم لم يتخلّصوا من هذه العقدة إلى يومنا هذا.
فشلت “ثورة” التعريب في عهد بومدين. جيء للجزائر بمجموعات من الأساتذة ليعلّموهم العربية. كان بين هؤلاء عدد لا بأس به من الإخوان المسلمين الذين زرعوا بذور التخلّف في المناهج التعليمية. في سياق حملة “التعريب”، لم يتعلّم الجزائريون العربية، ونسوا الفرنسية التي تظلّ لغة متقدّمة نظرا إلى أنها تتيح للطالب التقدم في كل مجالات العلوم.
كانت “ثورة” التعريب في أساس نشوء حركات دينية متطرّفة يقودها أشباه أميين لا يعرفون شيئا عن الدين الإسلامي.
فشل بومدين في “الثورة الزراعية” وفشل في “الثورة” الصناعية. دمّر الزراعة في الجزائر وأقام صناعة ثقيلة بكلفة عالية من دون دراسة علمية للموضوع ومن دون معرفة أين ستصرّف ما تنتجه هذه المصانع.
لم يكن نظام بومدين، الذي كان بوتفليقة وزير خارجيته، سوى نظام بوليسي يقوده العسكر والأجهزة الأمنية من خلف. عندما توفى بومدين، لم يستطع بوتفليقة خلافته لأنّ العسكر فرضوا مرشّحهم العقيد الشاذلي بن جديد الضابط الكبير الذي يتمتع بأقدمية على رفاقه في السلك.
تبدو الجزائر مقبلة في 2016 على وضع جديد لا سابق له في تاريخها. للمرّة الأولى هناك فراغ في السلطة السياسية، يترافق مع عملية تفتيت للمؤسسة العسكرية والتحالفات الخفيّة التي أقامتها، أي لما كان يسمّيه حسين آيت أحمد “السلطة”.
اقتصاديا، وفي ظلّ انهيار أسعار النفط وغياب الأموال التي تؤمّن شراء السلم الاجتماعي، يشبه الوضع الجزائري ما كان عليه عشية انتفاضة تشرين الأوّل أكتوبر 1988. حصل وقتذاك انهيار على كلّ المستويات، لكن المؤسسة العسكرية أنقذت ما يمكن إنقاذه وأعادت تركيب “السلطة” على طريقتها.
هناك الآن انهيار على كل المستويات من دون وجود من يحفظ “السلطة”. إنّها نتيجة طبيعية لسنوات من الممارسات الخاطئة لنظام نخره الفساد، واعتقد أن أموال النفط يمكن أن تحلّ كل المشاكل وتأمين دور إقليمي للجزائر.. دور وهمي قام على ابتزاز جيران الجزائر من جهة وعلى رفع الشعارات المضحكة ـ المبكية من نوع “حقّ تقرير المصير” للشعوب من جهة أخرى.
نادت “السلطة” في الجزائر بـ”حق تقرير المصير” لكلّ شعوب العالم حتّى عندما حسمت شعوب معيّنة موقفها واعتبرت أنّها حصلت على حقوقها. كان الشعب الوحيد الذي لم يحظ بدعم “السلطة” من أجل تحقيق مصيره هو الشعب الجزائري.
رحم الله حسين آيت أحمد القبائلي الذي عمل من أجل بلاده وكلّ مواطنيه والذي أدرك منذ البداية أن لا معنى للاستقلال من دون ديمقراطية. لا معنى للاستقلال من دون مؤسسات مدنية للدولة بعيدا عن الشعارات البرّاقة التي لا تعلّم العربية ولا تقيم لا ثورة زراعية ولا ثورة صناعية ولا توفّر حق تقرير المصير للشعوب!

Related posts

Top