على عكس حقبة ما قبل عام 2011 الذي اندلعت فيه ما يعرف بثورات الربيع العربي المتواصلة موجتها الثانية في عام 2019، لم تعد اهتمامات الشارع العربي منصبة كما في السابق على قضايا وطنية وقومية سيطر عليها هاجس التحرر من الدول المستعمرة، حيث حوّلت حادثة إقدام الشاب التونسي محمد البوعزيزي على حرق جسده في أواخر عام 2010 إلى محرّك حرق أيضا الأيديولوجيا وشعاراتها التي لم تقدر على إشباع بطون الشعوب من الخبز.
منذ أن اجتاح العثمانيون الشام ومصر والحجاز عام 1517، وتنازل آخر الخلفاء العبّاسيين، محمد المتوكل على الله عن الخلافة للسلطان سليم الأول، وحتى توقيع معاهدة لوزان، ورثاء أمير الشعراء، أحمد شوقي الدولة العثمانية، واستبدال مستعمر بمستعمر آخر، سيطرت القضايا الوطنية والقومية على تحركات الشارع العربي. كانت مرحلة سادت فيها حركات التحرر.
وبينما حصلت مصر على استقلالها عن بريطانيا عام 1922، انتظرت دول عربية أخرى إلى عام 1971 لتنال استقلالها. وتركز نشاط المعارضة العربية بعد ذلك ضد أنظمة دكتاتورية استمدت شرعيتها من ادعاء النضال ضد المستعمر، وظل الحال على ما هو عليه حتى العام 2011.
قبل أن ينقضي عام 2010 بأيام قليلة، أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار، ليس في جسده فقط، بل في جسد الأيديولوجيا.. معلنا أن الشعوب العربية قد شبعت من الشعارات، وهي تريد الآن أن تشبع من الخبز.
الأزمة المالية التي أصابت دول العالم بدءا من العام 2008 طالت الدول العربية تباعا وقسمت ظهر أنظمة دكتاتورية فيها. البعض اعتبر ما حدث في تونس مؤامرة، لماذا تونس بالذات وهي مضرب للمثل بالتنظيم والأمن وتقديم الخدمات الصحية والتعليم؟
لأن تونس كانت نموذجا ناجحا يحتذى، كانت أيضا المرشح الأول لانطلاق الربيع العربي. لم يكن لدى تونس ما تعتمد عليه سوى كفاءاتها البشرية، لم يكن لديها ما يكفي من الثروات لتحمي نفسها من آثار الأزمة الاقتصادية.
الاقتصاد التونسي يعتمد على تصدير المنتوجات الفلاحية والزراعية لدول أوروبا، وعلى السوّاح الأوروبيين الوافدين إليها، وكان طبيعيا أن تكون تونس أول من يكتوي بنار الأزمة، وتكون أول المتأثرين.
بين عام 2008 وعام 2011، ثلاث سنوات كانت كافية لتصل آثار الأزمة الاقتصادية إلى تونس.
ومنذ وفاة البوعزيزي في ديسمبر 2010، حذا العديد من الشبان حذوه، بإشعال النار في أنفسهم في مواجهة الصعوبات الاقتصادية المزمنة، كان آخرهم عبد الواحد الحبلاني، 25 عاما، أضرم النار في نفسه وتوفي في المستشفى في 29 نوفمبر الماضي احتجاجا على سوء الأحوال المعيشية.
سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي في تونس تلاه سقوط نظام حسني مبارك في مصر. وفي دول أخرى، مثل سوريا واليمن وليبيا، تطورت حركات الاحتجاج ضد السلطات إلى حروب لا تزال قائمة.
لبنان، الذي شهد حربا أهلية كانت آخر حروب الأيديولوجيا، هو آخر المنضمّين إلى احتجاجات الخبز. في 17 أكتوبر أعلنت الحكومة اللبنانية فرض ضريبة على المكالمات عبر تطبيقات المراسلة عبر الإنترنت، في سياق أزمة اقتصادية حادة وأدى هذا الإجراء، على الرغم من سحبه لاحقاً، إلى تفجير غضب اللبنانيين الذين نزلوا على الفور إلى الشارع.
اللبنانيون الذين فرقتهم في الماضي السياسة والطوائف والمذاهب، جمعتهم اليوم الأزمات الاقتصادية والبطالة والفقر. تجمع عشرات الآلاف من اللبنانيين في بيروت وطرابلس وصور وبعلبك للمطالبة برحيل طبقة حاكمة تعتبر فاسدة وغير كفؤة.
في أوائل فبراير الماضي أقدم اللبناني، جورج زريق، على إضرام النار بنفسه في ساحة المدرسة في مشهد ذكرنا بالتونسي البوعزيزي، بعد أن رفضت إدارة المدرسة، التي تتعلم فيها ابنته، إعطاءه إفادة لينقلها إلى مدرسة رسمية تابعة للدولة، قبل أن يسدد المستحقات المتراكمة عليه بسبب سوء وضعه المادي.
ومؤخرا أقدم لبناني آخر، طلبت منه ابنته أن يشتري لها “منقوشة” زعتر ثمنها نصف دولار عجز عن شرائها، على إنهاء حياته. مضى إلى خلاء خلف البيت، وهناك أدخل رأسه بحبل، ثم هوى بنفسه منتحرا.
في 29 أكتوبر، استقال رئيس الوزراء سعد الحريري لكن التظاهرات استمرت مطالبة بتشكيل حكومة تكنوقراط ومستقلين.
وفي العراق نسي العراقيون خلافاتهم المذهبية وتظاهروا بالآلاف في بغداد وفي جنوب البلاد ضد الفساد والبطالة وتردي الخدمات. واكتسبت التظاهرات زخماً مع مسيرات ضخمة دعت إلى “إسقاط النظام”.
وتعرّض المتظاهرون لإيران التي تمارس نفوذاً في العراق، وأشعلوا النار في قنصليتها. وبلغت حصيلة قمع الاحتجاجات المئات من القتلى معظمهم من المحتجين، والآلاف من الجرحى في بغداد ومدن الجنوب.
ولم تنجح استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في تهدئة الشارع، بعد أن “أفرغتها الدماء التي أريقت من مضمونها”. وكانت الاحتجاجات قد أدت إلى إزاحة رئيسين، في السلطة منذ عقود، في كل من السودان والجزائر.
في ديسمبر 2018 تظاهر السودانيون احتجاجا على زيادة سعر الخبز ثلاثة أضعاف. أصبحت التظاهرات أسبوعية وسرعان ما طالبت برحيل عمر البشير، الرئيس الذي حكم طيلة 30 عاما. وشهدت الجزائر تظاهرات حاشدة في 22 فبراير ضد ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة بعد أن هزلت صحته. وفي 2 أبريل استقال بوتفليقة تحت ضغط الشارع والجيش.
لكن المتظاهرين استمروا في النزول إلى الشارع بأعداد غفيرة كل جمعة مصرّين على رحيل كافة رموز “النظام الفاسد” الموروث من عهود بوتفليقة المتعاقبة، التي استمرت عقدين، وبينهم رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح الذي أصبح الرجل القوي في البلاد.
ما يجمع بين كل هذه الاحتجاجات، التي بات يطلق عليها الربيع العربي، هو غياب الأيديولوجيا، فهل ينجح الاقتصاد في تحقيق “ربيع” عجزت عنه السياسة منذ عام 1517؟
علي قاسم
كاتب سوري مقيم في تونس