المخرج المسرحي محمد بلقائد أمايور: التجارب المسرحية الأمازيغية التي تتمركز عروضها حول الحوار عوض بناء ما هو مرئي لن تبارح دائرة المحلية الضيقة

في إطار تتبع ورسملة بعض الإشراقات المسرحية المبدعة بجهة سوس ماسة، نسعد من خلال هذا الحوار الذي جمعنا بالمخرج محمد بلقائد أمايور، بالتعريف بالمنجز الإبداعي لمحترف درامازيغ للبحث الدرامي بتيزنيت؛ فعلى الرغم من جدة تجربته، إلا أنه استطاع أن يرسم  لنفسه مسارا إبداعيا متفردا بعمقه وبوضوح اختياراته الفنية والجمالية. والمخرج محمد بلقائد أمايور من  المخرجين الشباب الذين بصموا المسرح بجهة سوس ماسة ببصمة خاصة أثراها تكوينه الأكاديمي، في مجال الدراسات المسرحية، وأكسبها رصانة استثنائية وتحققا إبداعيا جديرا بالمتابعة.

  • يشتغل المخرج المسرحي محمد بلقائد أمايور منذ سنوات ضمن تجربة محترف درامازيغ للبحث الدرامي بتيزنيت، وتعد تجربة محترفكم من التجارب المسرحية الفارقة ضمن الحركة المسرحية الأمازيغية بسوس، فكيف نشأت؟ وما هي أبرز المحطات التي مرت منها؟

** يمكن تقسيم المحطات التي مرت منها فرقة محترف درامازيغ للبحث الدرامي بتيزنيت إلى ثلاث مراحل. تبدأ المرحلة الأولى سنة 2004 حين كانت مجرد لجنة خاصة بالمسرح داخل منظمة تاماينوت فرع تيزنيت، وأنجزت هذه اللجنة مسرحية تحمل عنوان: “إمطاون ن أومزروي” تأليف وإخراج محمد بلقائد أمايور، وتشخيص مجموعة من الشباب. من بين الطاقات التي عاصرت هذه المرحلة الصديق الفنان رشيد بوركع.

أما المرحلة الثانية فقد انطلقت سنة 2010، حيث قررنا إطلاق اسم فرقة درامازيغ على تلك اللجنة، وأنجزنا مسرحية “إساسان” التي دعم إنتاجها من طرف المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وعرضت في مجموعة من المدن (تيزنيت، الدشيرة، أكادير، طانطان، ورزازات، أزيلال، الحسيمة..)، وقد تميزت هذه المرحلة بدخول أعضاء جدد كالفنان رضوان إشو، والفنان أحمد الراجي، والفنانة فاطمة واعبان؛ ومن خصائصها الانتقال من الاشتغال بمحدودية الموارد المالية إلى الاستفادة من دعم المؤسسات العمومية كالمعهد الملكي والمجالس المنتخبة، خاصة المجلس البلدي لتيزنيت في تلك المرحلة. وقد انتبهنا إلى أن الانتقال نحو الاحتراف يبدأ من التوفر على  موارد بشرية في مختلف التخصصات التي تندرج في إطار صناعة عرض مسرحي بمقومات احترافية.

أما فيما يخص أسلوب الإخراج وطبيعة العرض المسرحي، فقد كان وعينا منذ تلك المرحلة منصبا على أفق يسعى لتطوير المسرح الأمازيغي على مستوى المضمون والأساليب الإخراجية المعاصرة حسب مستوى التكوين الذي استفدنا منه آنذاك. وقد حققت مسرحية “إساسان” ما كنا نصبوا إليه فعلا، إذ توجت بمجموعة من الجوائز على رأسها الجائزة الوطنية للثقافة الأمازيغية سنة 2011، كما أشرت للمتابعين والمهتمين بالشأن المسرحي الأمازيغي، عن ميلاد فرقة مسرحية بمدينة تيزنيت سيكون لها شأن مهم في بقية تجاربها المستقبلية. 

أما المرحلة الثالثة، فقد انطلقت سنة 2017 حين أنتجنا مسرحية “تيساتين” (مرايا) تأليف وإخراج محمد بلقائد أمايور، وانضاف إلى الممثلين السابقين كل من الفنانة رابحة إدحسون، الفنان عبد الله بوكرن، والفنان رشيد أبيدار.

كانت تجربة “تيساتين” تجربة متميزة استطاعت أن تجلب أنظار المتابعين والباحثين  المهتمين بالشأن المسرحي الأمازيغي، وفتحت أفق الوعي لدينا بأهمية الاشتغال على المكونات الفرجوية الأمازيغية ومختلف الطقوس والتعابير الثقافية التي تزخر بها ثقافتنا، كما نبهتنا إلى أن الفرقة وهي تنجز عروضها المسرحية، لن تساهم في تطوير المسرح الأمازيغي إلا عبر فتح أبواب تدوين التجربة وقراءتها ودراستها من طرف الباحثين المهتمين بالشأن المسرحي الأمازيغي، وهو ما تحقق بإنجاز دراسة رصينة أنجزها الباحث المقتدر رشيد أوترحوت ونشرت في كتاب تحت عنوان” مسالك العلامات”.

نعتقد أن ما حققناه في مسرحية “تيساتين” مستمر بمزيد من الوعي والنضج الإبداعي في مسرحيتنا الجديدة “سفوماتو” التي قدمنا عرضها الأول يومه الأحد 27 مارس بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمسرح بدار الثقافة محمد خير الدين بتيزنيت.

أقول، أن مرحلة “سفوماتو” هي امتداد لمرحلة “تيساتين” وإن ظهر اختلاف في أسلوب العرضين وشكلهما، لأن أفقهما محدد في بلوغ نموذج عرض مسرحي أمازيغي يتجاوز الأطر التقليدية إلى إنتاج عرض مسرحي معاصر لا يفرض تلقيه استحضار أي إطار ثقافي – لغوي؛ إننا ماضون في مسار إيجاد -عبر البحث المتواصل- الأسلوب المعاصر  الذي يمتح من ثقافتنا المحلية ما يساعد العرض المسرحي على بلوغ الكونية، وهو نفس الإطار التي اشتغلنا عليه في مسرحية قدمناها أثناء الحجر الصحي وجنسناها ب “شبه مسرحية”، ووسمناها ب”بروميثوس”، وقدمت على منصة صفحة الفرقة على الفايسبوك،  وشاهدها وتفاعل معها متلقين من ثقافات ولغات مختلفة من مناطق عدة من العالم دون أن يعيق ذلك تلقي العرض.

 * وأنتم تتحدثون عن تطور تجربتكم في المسرح الأمازيغي وما يميزها. كيف تنظرون للحركة المسرحية الأمازيغية بالمغرب؟ و ما الذي يشكل خصوصيتها الفنية؟

** أعتقد أن من الصعب وسم الفاعلية المسرحية الأمازيغية بالحركة المسرحية، لأنها لا تمتلك مشروعا واضحا يميزها عن باقي الفعاليات المسرحية كالدارجة أو الحسانية. إن أهم ما يميز هذه الفعالية التي سميتها الحركة، يندرج فقط في ما هو هيكلي وتنظيمي أكثر مما يندرج في إطار نظري يسعى لبلوغ آفاق إبداعية واعدة. 

إن السبب في اعتقادنا الشخصي من وراء ذلك، كون هذه التجارب الأمازيغية وليدة سياق تميز أساسا بالاشتغال على المكون الأمازيغي من باب إحقاق الحق والدفاع عن الثقافة والفن الأمازيغيين؛ معنى ذلك أن الفرق المسرحية الأمازيغية –  بنسبة كبيرة – منها تفكر فقط في إنتاج مسرح أمازيغي مغاير لمسرح الآخر من منطلق اللغة الطبيعية والحظوة المؤسسة على الاختلاف الثقافي، بما يحيل إليه هذا الاختلاف من نمط العيش واللباس والإعمار في فضاءات البادية والدوار، ومتشابك في مضمونه مع هموم وقضايا تتم استعادتها عن زمن  ماضوي متخيل عاشه الإنسان الأمازيغي، سواء كانت صورة هذا المتخيل مبنية من طرف الأنا الأمازيغية أو من طرف الآخر، حيث مازلنا نجد كثيرا من الصور النمطية السلبية التي ظلت لصيقة بالإنسان الأمازيغي  يعاد إنتاجها في هذا المسرح الذي نسميه أمازيغيا.

في المقابل هناك فرق مسرحية – تعد على رؤوس الأصابع- تمتلك مشروعا أو على الأقل بوادر مشروع مسرحي، تسعى للاشتغال على مستويات جمالية وفنية لتمييز التجربة المسرحية الأمازيغية وفتح آفاقها على الجدة والفرادة باستثمار مقومات ثقافية أمازيغية ونسجها في قالب مسرحي وفق ما توصلت إليه التجارب والتيارات المسرحية العالمية. إنها ببساطة تمتلك وعيا جماليا بضرورة تحديث المسرح الأمازيغي ودفعه إلى الوصول لمستوى التجارب العالمية، وهو طموح يحتاج إلى الكثير من الجهد البحثي والنباهة الإبداعية وامتلاك جملة من الأدوات التي لا تخلق لدى المبدع إلا  عبر التكوين والتكوين المستمر في أعلى مستوياته.

*  لنقف عند بعض هذه التجارب الأمازيغية المحدودة التي تمتلك وعيا نظريا وفنيا جعلها تستثمر في التعابير الثقافية والفرجوية التي تختزنها الثقافة المغربية الأمازيغية؛ وأخص بالذكر تجربتي “محترف درامازيغ” بتيزنيت، و”مختبر دراميديا” بأكادير. كيف تنظر لاشتغالهما على التراث المحلي؟ هل مسعاهما تأصيلي أم أن الأمر مجرد استثمار جمالي؟

** أولا، أشير إلى أن حديثي عن تجربتي محترف درامازيغ للبحث الدرامي بتيزنيت من جهة، وعن تجربة مختبر دراميديا بأكادير من جهة ثانية، سيكون من زاويتي نظر مختلفتين.

يتعلق النظر إلى التجربة الأولى من داخلها باعتباري مساهما في فاعليتها، بينما يتعلق النظر إلى التجربة الثانية بوصفي متابعا ومتلقيا من خارجها. ولعل الإجابة على سؤالكم تقتضي استحضار المنجز الإبداعي للتجربتين لبناء حكم موضوعي بصددهما.

تعد تجربة دراميديا من التجارب الفتية التي لا تتعدى سنة ميلادها 2017، وإن كانت تجربة مؤسسها وفاعلها الرئيسي الصديق بوبكر أوملي تتجاوز ذلك بعقدين على الأقل، وقد راكم تجرية مهمة في الاشتغال مع مجموعة من الفرق و في العديد من التجارب المسرحية التي أهلته لتأسيس تجربة دراميديا بتصور قوامه استثمار مؤهلات شباب ممارس وعاشق لفنون أحواش عوض الرهان على ممثلين مسرحيين أو على الأقل تكوين أولئك الشباب الذين يشتغلون في مختبر دراميديا لتأهيلهم لأداء أدوار وفق متطلبات العرض المسرحي.

 أعتقد أن هذا المعطى الذي يتعلق بطبيعة مؤهلات العناصر التي يستثمرها مختبر دراميديا هو أحد الأسباب التي جعلت هذا المختبر  يسم عرض “تاندرا” بالعرض الأدائي عوض العرض المسرحي، وهو ما انتبه إليه في التجربة الثانية: عرض “أفار”، حيث استخدم الأقنعة وجمل حوارية قصيرة رغم غلبة النفس الأدائي على معظم لحظات العرض.

يطرح النظر إلى هذين العرضين (“تاندرا” و”أفار”) سؤالا جوهريا سيظل معلقا: هل مختبر دراميديا – من خلال العرضين السالفي الذكر- بصدد التأسيس لأسلوب أو بصدد بناء مضمون/ موضوع؟ 

أعتقد أن الحكم على تجربة هذا المختبر من خلال عرضين فقط، سيكون فيه إجحاف كبير، سواء توصل تحليلنا إلى اعتبار منجزه مندرجا ضمن صياغة أسلوب أو بصدد بناء مضمون يستثمر المقومات الفرجوية لفنون أحواش.

بالتالي، أعتبر أن التجارب التي سينتجها مختبر دراميديا مستقبلا، هي الكفيلة بمنحنا معطيات تؤيد الطرح الذي سميتموه تأصيليا أو تزكي الاتجاه نحو استثمار جمالي أو ما وصفناه بالتشييد المضموني.

أما فيما يخص تجربة درامازيغ للبحث الدرامي، فأشير إلى أن تجارب “تيساتين” و”بروميتوس” وأخيرا “سفوماتو”  ورغم اختلاف موضوعهما ومستوى المعالجة الدراماتورجية، فإن أسلوبهما يكاد يكون موحدا- على الأقل- في اشتراكها كلها في أفق تحديثي يسعى في مستواه الأول، إلى اكتشاف وإيجاد لغة بديلة للغة الطبيعية، ثم ثانيا، للبحث واستثمار لغة الجسد والطقوس التي تزخر بها ثقافتنا الأمازيغية، ثم ثالثا، استثمار ما توصل إليه البحث المسرحي العالمي في موضوعة الإخراج المسرحي، كالقناع والجسد وبناء المرئي فوق خشبة المسرح. ثم رابعا، إعادة بناء علاقة العرض مع النص المسرحي الذي نعتبره – كما تعتبره تيارات مسرحية تحديثية- عنصرا من بين عناصر أخرى يمكن أن يكون فقط ذريعة لبناء العرض وليس مركزا له. 

أشير أخيرا إلى أن هذا المسار التحديثي الذي حددنا أفقه، سيظل متواصلا مع قادم التجارب التي سينجزها محترف درامازيغ، وهو بذلك مسار لا يسعى أبدا لبلوغ نقطة اكتماله بقدر ما يراهن على التجريب المتواصل بحثا عن الممكن الذي لا يبحث عن نقطة ثباته وسكونه.

*   تحدثت عن جملة مستويات للمعالجة الدراماتورجية في تجربة درامازيغ مرتبطة أساسا بالبحث عن لغة بديلة عن اللغة الطبيعية. أليس في الأمر نوعا من التناقض مع تركيز جملة من التجارب المسرحية الأمازيغية على المقوم اللغوي وعلى تثمين التعدد اللغوي؟

** الأمر لا يتعلق بالتناقض بقدر ما يتعلق بنوع من المغايرة والاختلاف مع التجارب التي ترتكز على المقوم اللغوي الأمازيغي. 

هذا الاختلاف مفيد جدا في تنويع التجربة المسرحية الأمازيغية ومنحها توسعا مهما، كي تحقق الاستجابة المطلوبة لكل أنواع المتلقين بمختلف مستوياتهم وخلفياتهم وانتظاراتهم أيضا. 

أما جزئية تثمين التعدد اللغوي، فننظر إليها من زاوية تتجاوز المساهمة الأدبية في تفعيل دور اللغة الأمازيغية داخل المجتمع، إلى المساهمة في تفعيل دور اللغة والثقافة والفن الأمازيغي داخل منظومة الخيرات الرمزية الوطنية؛ معنى ذلك أن تثمين دور اللغة الأمازيغية – كما نفكر فيه على الأقل- لا يتحقق فقط بعد جعلها في مركزية العمل المسرحي، وإلا لطرح لنا إشكال عويص حين نتحدث عن الفن التشكيلي مثلا، أو السينمائي، حيث أن هذين الفنين لا يرتكزان على اللغة الطبيعية بطبيعة الحال، والتفكير في تثمين دور اللغة الأمازيغية أثناء ممارستهما سيعيق إبداعية السينما وسيدخل الفن التشكيلي إلى دائرة النقص. فكيف سنبدع فنا تشكيليا ونحن نفكر في تثمين دور اللغة الأمازيغية؟؟ 

إن هذه الإشكالية التي طرحها  سؤالكم، تعد إشكالية محورية تطرح بشكل قوي على كل مبدع أمازيغي كيفما كانت طبيعة الفن الذي يبدعه، ومن شأن عدم الوعي بهذه الجزئية الأساسية، أن يبعد هذا المبدع عن الجدة وتحقيق الإبداعية المطلوبة في منجزاته، حيث أن الحديث عن تثمين دور اللغة خارج الأدب ليس سوى وهم ينم عن عدم إدراك طبيعة الفن.

وهذا ما نجده الآن جليا في السينما الأمازيغية التي مازالت تراهن على الحوار دون الانتباه إلى أن اللغة السينمائية  التي هي لغة صورة بالأساس؛ ومرد ذلك – في اعتقادي- أن السينما الأمازيغية لم تمر من المرحلة الصامتة التي شكلت لحظة فارقة في تاريخ السينما العالمية.

وهذا شأن المسرح أيضا، فالتجارب المسرحية الأمازيغية التي تتمركز عروضها حول الحوار عوض بناء ما هو مرئي، لن تكرس سوى الحكم على هذا المسرح الذي تنتجه بعدم مبارحة دائرته المحلية الضيقة. فهو بالتأكيد مسرح سيسعى إلى التوجه نحو متلق بسيط ينتظر سماع العرض أكثر مما ينتظر مشاهدته، والفرق هنا شاسع بين كلا الصنفين.

*  تناولت سالفا التحديث والتجريب كأفقين ومسارين ضروريين لتطوير تجربتكم الإخراجية؛ وهذا ما بدا لي واضحا في العرضين الأخيرين لمحترف درامازيغ “تيساتين” و”سفوماتو”، حيث حاولتم النهوض بمعالجة دراماتورجية تفكيكية للأنساق الثاوية في  بنية لغة العرض المسرحي لأجل إعادة بنائها وفق تصور يسمح بتشكل لغة مسرحية مستحدثة. فهل هذا الأمر مسنود بتأثر تجربتكم بنظريات مسرحية غربية بعينها؟

** من المؤكد أن اشتغالنا الإبداعي لم ينطلق من الصفر، بحيث نؤمن أن تطوير الفن بصفة عامة والمسرح بشكل خاص، مساو لمسار العلوم في جزئية التراكمية التي تسير وتتطور وفقها. 

لن تكون مساهمتنا ذات جدوى ما لم تنتبه إلى ما توصلت إليه التجارب التحديثية العالمية، باعتبار أننا جزء من العالم، ونحن معنيون بكل تأكيد بالفتوحات النظرية والتطبيقية التي توصلت إليها تلك التجارب العالمية.  تبقى الإضافة التي سنضيفها، رهينة بإدراك ما تم تحقيقه كي نضيف إليه، أو ما لم يتم تحقيقه كي نفتح أبواب الولوج إليه؛ وهذا كله في إطار ينطلق من خصوصيتنا كأمازيغ ممتلكين لثقافة تميز وجودنا الرمزي وتحقق حظوتنا وتفردنا الحضاري.

انتبهنا – في وقت سابق- إلى أن ما يعيشه المسرح الأمازيغي شبيه لما عاشه المسرح الغربي (الأوروبي)  نهاية القرن التاسع عشر قبل مسرحية ubu roi لألفريد جاري، التي تلتها تنظيرات أرطو وهو يسعى لتحقيق مسرح قريب من الطقوس في مراميه للعودة به إلى جذوره المقدسة، ثم ما حققه غروتوفسكي في مختبره التجريبي، وما توصل إليه تلميذه الفذ يوجينيو باربا،  وكل ما يرتبط به ذلك من الاعتماد على جسد الممثل وتقليص دور النص واللغة الطبيعية..الخ. وقد شكل توظيف القناع جزئية نبهتنا إلى ما نتوفر عليه في ثقافتنا الأمازيغية، بحيث أن العديد من التجارب الطليعية التي أشرت إلى بعضها، قد استعانت بتوظيف القناع لجعل الممثل يحقق ما يسميه غروتوفسكي بالأسلبة، ويسميه باربا “ما قبل التعبير”. إضافة إلى كل ذلك استفدنا – ومازلنا نستفيد- من التراكم النظري والتطبيقي الذي خلفه جاك لوكوك وهو بصدد تشييد le masque neutre و le masque  larvaire واشتغاله على توازن البلاطو.

كلها إذن، تجارب قدمت للمسرح العالمي الشيء الكثير، ونحن معنيون بعدم تجاهل كل هذا الثراء الذي قدمته، لأنه سيفيدنا في اشتغالنا الإبداعي، كما أننا ملزمون بالفطنة والنباهة الإبداعية كي نضيف بدورنا ولو لبنة من لبنات إغناء التجربة المسرحية العالمية.

* لاحظت أنكم استثمرتم في مسرحية “تيساتين” في ما أسميه بالقناع الإخصابي وفي ما تسميه بالقناع القرع (أسلاوي)؛ وهو قناع مستوحى من فرجة إمعشار، وقد كيفته تقنيا ليصبح نصف قناع،  في حين اعتمدت على منجز لوكوك حول القناع  في مسرحية سفوماتو. ألا ترى أن مشاريع صناعة الفرجة المسرحية بالمغرب لم تثمن، تقنيا وجماليا، وبالقدر الكافي بعض ما تزخر به الفرجة الشعبية المغربية وظلت حبيسة كليشهات مكرورة أفقدت المسرح المغربي فرصة رسملة وعولمة خصوصياته الثقافية؟

** كان اشتغالنا في مسرحية “تيساتين” مؤسسا على نتائج أبحاثنا حول فرجة إمعشار وبعض الفرجات الأخرى كرقصة “تاسكوين” و”رقصة تازويت”، باعتبار هذه الفرجات والرقصات مميز ثقافي ورمزي لنا كأمازيغ، وقد زاوجنا ذلك مع استثمار le masque neutre، الذي لا ينتمي فقط إلى إرث جاك لوكوك بل إلى الإرث المسرحي العالمي؛ وهذا ما أشرت إليه سابقا حين أجبت عن سؤالكم حول تأثر تجربتنا بنظريات مسرحية غربية.

من المعلوم لدى كل المشتغلين في المسرح وخاصة من يوظف القناع، أن القناع المحايد le masque neutre، هو قناع بيداغوجي بالأساس، يستخدم لإعداد الممثل وتخليصه من كل أنواع التشويش parasites التي يمكن أن تعيق أداء دوره، لكننا في مسرحية “تيساتين” غامرنا – إبداعيا- ووظفنا هذا القناع لهدف جمالي ودرامي داخل سيرورة العرض؛ إذ كانت المشاهد الأولى من المسرحية التي وظف فيها القناع المحايد، في حاجة إلى مؤشر دال على “لحظة الصفر” أو “لحظة الحياد المطلق” التي تعيشها تلك الشخصيات في تلك المشاهد، وقد وجدنا في القناع المحايد ما يمنح لنا هذا الأثر  الذي نسعى لخلقه لدى المتلقي.

يمكن التأكيد على أن القناع المحايد قد اشتغلنا به في إعداد التمارين التي نقترحها على الممثلين منذ الإعداد لمسرحية إساسان 2010، ولم يكن تعاملنا معه فقط لحظة صناعة العرض المسرحي “تيساتين”، والمستجد الذي جاء به عرض تيساتين – كما قلت سابقا- هو توظيف هذا القناع في العرض، حيث قررنا نقله من أداة بيداغوجية ودفعنا به إلى أبعد مدى حتى أصبح قناعا موظفا للإحالة إلى ما تعيشه الشخصيات الأربع من حياد مطلق وتواجدها في “لحظة الصفر” التي فقدت فيها ذاكرتها ولغتها وكل شيء يميز وجودها وكينونتها.

تواصل هذا الاشتغال في العرض المسرحي “سفوماتو” واستثمرنا فيه قناع بيداغوجي آخر بنفس الكيفية وإن اختلف  منسوب الرهان عليه بين عرضي “تيساتين” و”سفوماتو”، حيث أن توظيف القناع المحايد في مسرحية “تيساتين” كان فقط في مشاهد قصيرة لا تمتد إلى كامل العرض، بينما كان توظيف قناع larvaire بشكل أكبر في مسرحية “سفوماتو”، وقد بلغ عدد هذه الأقنعة 18 قناعا مختلفا من أقنعة larvaire . يمكنني أن أصرح هاهنا، أن التخوف الذي كان لدينا في مسرحية “تيساتين” أثناء نقل القناع المحايد من أداة بيداغوجية إلى عنصر دال جماليا، قد زال في مسرحية “سفوماتو”، وهذا ببساطة ما يصنعه التجريب لدى كل مبدع يبحث عن إمكانية ما.

فيما يخص رهان المشاريع المسرحية المغربية على مقومات الفرجات الشعبية المغربية، والبحث عن طرق وممكنات استثمارها، فهو أمر يستدعي جهدا بحثيا ونباهة إبداعية قد لا يمتلكها المخرجون الذين ينخرطون مرغمون في ظروف الإنتاج والدعم والبحث عن خلق فرص الشغل المنتظمة. حيث أن الحديث عن التجريب والتحديث يستلزمان فرقا مسرحية تمتلك مشروعا جماليا وفنيا بعيدا عن منطق الإنتاج السنوي المنتظم. معنى ذلك، أن من يلهث وراء الدعم بشكل منتظم، لن يكون له النفس البحثي الذي يقتضيه استثمار الفرجات، ولن ينتج إلا “مسرحا خفيفا” (fast food) باستعمال قاموس المطبخ في المجتمعات المعاصرة.

* فصلتم بشكل كبير في مرامي تشغيلكم للقناع في المسرحيتين السالفتين. هل لكم أن تبرزوا وبنفس التفصيل خلاصاتكم حول بحثكم الدؤوب عن لغة مسرحية تجريبية بديلة، فلا تكادون  تتوقفون عن تدمير وإعادة بناء مكوناتها؛ فإذا كان المشهد الأول من عرض “تيساتين” بمثابة الأثر المرجعي في تجربتكم الذي يكثف مطمحكم الرامي للوصول إلى لغة مسرحية مثلى،  فإنكم في  مسرحية “سفوماتو” – بدءا من عنوانها- قد استطعتم أن تمسكوا، وفي الكثير من مشاهدها، بالمسارات الأولى الممكنة لبناء هذه اللغة عبر تجريب تعبيرات تشكيلية جديدة، كالصرخة، والتأوه والصمت، والكتابة بالمتواصلات الجسدية المختلفة  والموسيقى.

**  من الواضح أن قراءة تاريخ المسرح ومساعي التحديث عبر التجريب والبحث عن ممكنات توظيف عناصر قابلة لجعل المسرح يعود إلى جذوره الأولى وفق ما بنته مختلف التجارب المختبرية التي أشرنا سالفا إلى بعضها، سيمكننا من إدراك مدى أهمية جزئية تقليص دور اللغة الطبيعية والمرامي الساعية إلى تشييد عرض مسرحي قريب من الرقص والطقوس، عرض يراهن على مركزية الممثل وآلته (الجسد)، وكل الأدوات التي يمكن أن تساعد هذا الأخير على تحقيق الأسلبة، وبناء مشاهد بصرية (ما يشاهد)، من قبيل القناع والهمهمات والصراخ وغيرها من العناصر التي تحقق بناء الفرجوي والعجائبي؛ سيمكننا كل ذلك – لو أدركنا وظيفته- من صناعة عرض مسرحي جدير بالانتماء للفن المسرحي عوض انتمائه للأدب. 

 هذا الأفق هو ما حاولنا البحث عن ممكنات لإجادته، حيث يشكل البحث عن اللغة البديلة إحدى الغايات التي يسعى هذا المسار إلى بلوغها، في تجانس وانسجام مع مختلف العناصر الأخرى.  أشرت سابقا إلى أن الرهان على عنصر الحوار واللغة الطبيعية سيحد من تلقي العرض وسيحكم عليه بالانتماء إلى دائرة ضيقة يشكل فيها امتلاك ناصية اللغة الأمازيغية السوسية مفتاحا حصريا للولوج إليها، أي أن من لا يمتلك هذه اللغة سنحكم عليه بالتمسيف (من المسافة) عن عرضنا المسرحي. وهو الأمر الذي لا نريده أن يكون متحققا أثناء تلقي عروضنا. بالتالي، ففتح المجال أمام كل المتلقين من مختلف الخلفيات اللغوية لتلقي العروض التي ننتجها مشروط فقط بتوفرهم على مفاتيح لغة المسرح (لغات المسرح). 

هذا هو منطلق بحثنا عن اللغة البديلة، أما كيفية الاشتغال عليها داخل محترفنا وأثناء ابداع عروضنا المسرحية  فلم يكن سهلا في بداية الأمر، حيث أن الصعوبة التي وجدناها كانت مرتبطة بطبيعة الممثلين والتكوين الذي استفادوا منه طيلة مسارهم المهني، إذ وجدنا أن أغلبهم لم تكن لديهم قابلية لأداء أدوار من دون حوار، بل أكثر من ذلك، أذكر أثناء اشتغالنا في تجربة “تيساتين” أن ممثلة كانت تشتغل معنا ما يزيد عن الأسبوعين، قد فاجأتني في نهاية إحدى الحصص، أنها لن تستطيع الاستمرار ما لم أمنحها حوارا تحفظه، مضيفة أن المسرح الذي تعرفه لا يمكن أن يتحقق في غياب الحوار، وقررت  هذه الممثلة بعد نقاشنا وتمسكي بخيار توظيفها في مشاهد دون حوار أن تتوقف في منصف الطريق.

أسرد لكم هذه القصة، لأشير إلى أن الصعوبات التي تعترض الوصول إلى هدف صناعة عرض مسرحي بعيدا عن اللغة الطبيعية، هو رهان صعب، ليس فقط باستحضار الجهد البحثي والإبداعي الذي يتطلبه، بل أيضا لطبيعة وتكوين الممثل الذي اعتاد الانطلاق من نص حواري يقرؤه قبل مباشرة الحصة الأولى من التداريب.

وقد توصلنا بعد اشتغالنا المتواصل الذي اعترضته بعض تلك الصعوبات، أن أجعل من التمرين exercice، إطارا ومنطلقا لبناء المشهد المسرحي الذي نريده، بحيث أن الممثل أثناء اقتراح إطار لتمرين ما، يحاول جاهدا الوصول إلى إتقان التمرين دون أن يعلم أنه بصدد تشييد مشهد، ثم بعد أن يقدم لنا الممثل ما توصل إليه كإنجاز للتمرين المقترح، أعيد صياغة مستوى آخر لتعميق نفس التمرين؛ بمعنى أنني أقترح عليه مطلوبا للإنجاز من البسيط إلى المعقد، وفي كل مستوى من مستويات الانجاز التي يتوصل إليها الممثل أدون ملاحظات (أو أوثق بالفيديو) كل ما تم إنجازه، ثم أعود في مرحلة أخرى لاختيار ما يتناسب مما قدمه الممثل، مع التصور الجمالي الذي يؤطر المشهد (الجزء) في علاقته مع العرض (الكل)، ثم أخيرا، أعيد ترتيب هذه الأجزاء لتشكيل وحدة منسجمة عبر مونتاج خاص بالإخراج، أخضعه في مرحلة نهائية للتحسين المستمر في كل حصة حتى يصل إلى مستوى يحقق لدي الإقناع.

* أنهيتم جوابكم بالحديث عن الممثل في تجربة درامازيغ، وفي هذا الصدد ألاحظ أنكم اشتغلتم منذ العروض الأولى مع نفس الممثلين تقريبا، ويبدو الأمر بأنه ليس مجرد صدفة،  فكما لو أنكم بصدد الاشتغال على موضوعات محددة مرتبطة بأداء الممثل.

** صحيح، يتعلق ذلك بمنظورنا  لنموذج الممثل الذي نتطلع إلى الاشتغال معه، وطبيعة التكوين الذي نرى أنه سيفيد تصورنا للمسرح الذي ننتجه داخل محترفنا. كما أشرت إلى ذلك سابقا، أن الممثل الذي له تجارب كلاسيكية فقط، غير مفيد بالمرة بالنسبة لتجارب محترف درامازيغ، ما لم يستفد من تكوين خاص يؤهله للتعامل مع توظيف جسده أولا، والقناع ثانيا، باعتبار أننا نرى في هذا الأخير أداة مهمة ستساعد الممثل على خلق الفرجوي والغير المألوف، بحيث أن الممثلين الذين يشتغلون في المسرح الأمازيغي والمغربي بشكل عام، حتى المكونين منهم داخل المعهد الوحيد ببلادنا، لم يخضعوا للتكوين في القناع ولا يعلمون عنه سوى نزرا قليلا، بل إن منهم من لم يرتديه قط. وهو أمر محير بالفعل! كيف يمكن الحديث عن توظيف ممثل لم يسبق له أن تعرف على القناع! تحضرني الآن مقولة في غاية الأهمية لغروتوفسكي حين قال ما معناه، أنه “سيأتي زمن سيثير فيه عدم ارتداء الممثل للقناع سخط الجمهور”، ويظهر – لمن يعرف قيمة القناع- أن هذه المقولة بمثابة خريطة طريق مستقبلية وجب الانتباه إليها واستحضار قيمتها في كل تكوين يستهدف فن الممثل. ثم ثالثا، نعتقد أن تدريب الممثل على الصمت والفعل عوض التلفظ بالحوار لا يمكن أن يتحقق إلا بتدريبه على التعامل الجيد مع ارتداء الأقنعة الكاملة (خاصة الأقنعة البيداغوجية) من قبيل القناع المحايد و larvaire، وهو الأمر الذي نمنحه أهمية قصوى في كل إعداد نقوم به داخل محترفنا.

 إضافة إلى كل ذلك، انتبهنا منذ مدة إلى أن طبيعة التكوين الذي سيفيدنا هو تكوين مركز على الجوانب التي نوظفها في كل عرض، أي أننا نقتصر على التمارين التي نحن في حاجة إليها، وبمعنى أدق، إننا نعد ممثلا لعرض مخصوص، ولا نعده إلا وفق غايات محددة في العرض المشروع الذي نعتزم إنتاجه. ولن يتحقق التكوين الشامل للممثلين الذين نشتغل معهم إلا بعد تجارب عديدة. ثم إن التكوين الذي نقترحه داخل محترفنا، لا يستهدف الإعداد الجسدي وكيفية تعامل الممثل مع الفضاء والأكسيسوار ومختلف مكملات العرض المسرحي، بل نضيف إليه تكوينا يساهم في إثراء ثقافته المسرحية والجمالية، ويوسع من استثمار خياله، حيث اكتشفت مؤخرا أن أغلب الممثلين لا يمتلكون إلا خيالا كسولا ومحدودا ينتظرون أن يمنحهم المخرج كل المقترحات حتى في بناء الشخصية التي يلعبون دورها. لذا، أركز كثيرا على تنبيه الممثلين الذين أعمل معهم على ضرورة امتلاك حقيبة للشخصيات يلجؤون إليها في مرحلة بناء الشخصيات في كل عمل كيفما كان نوعه.

استحضارا لكل ما قلناه حول تكوين الممثل، سندرك السبب الذي جعلني أشتغل مع نفس الممثلين، لأن ما استفادوا منه في تكوينهم أثناء الاشتغال على الأعمال السابقة في محترف درامازيغ، سيكون بمثابة أرضية للاشتغال في كل عمل جديد، وهو المعطى الذي أعاق  قليلا اشتغالنا في مسرحية “سفوماتو”، حيث أن وجود عناصر جديدة لم يسبق لها الاشتغال معنا قد فرض علينا العودة بين الحين والأخر للقيام بتمارين والتعرف على مكنزمات سبق للقدامى أن استفادوا منها، بينما لا يعرف عنها الملتحقون الجدد شيئا يذكر. 

إن طموح المحترف الذي يسعى إلى  التطور مع توالي التجارب، لن يتحقق إلا بالاعتماد على عناصر سبق أن تعرفت على أسلوب اشتغالنا، وتمكنت من إتقان العمل بالأدوات التي نريد الاشتغال بها، واستوعبت ما الذي يعنيه المسرح بالنسبة لنا، ثم أخيرا، وهذا من الأهمية بمكان- أن يستدمجوا قواعد التعامل والالتزام والتفاني في العمل بشكل جاد وهم بصدد إنجاز منتوج فني داخل محترف درامازيغ، مع كل ما يحيل إليه ذلك من القطع مع سلوكات التهاون واستسهال الأمور كما ألفوها في تجاربهم السابقة.

في نقطة مرتبطة بنفس الموضوع، نؤكد أن ما يسمى عادة بالارتجال ليس سوى عبث اقتنع به من يزاوله في بعض الورشات التي نسمع عن تنظيمها هنا أو هناك، بيد أن الارتجال الذي نؤمن بقدرته على الخلق، لن يتحقق لدى الممثل ما لم يستفد هذا الأخير من تكوين رصين شامل لكل الجوانب التي تدخل في فن الممثل، وما لم يحقق هذا الممثل الذي نطلب منه الارتجال، تمكنا جيدا من جميع الأدوات التي يوظفها والتي يشكل الجسد بامتداداته (الصوت والحركة أساسا) والقناع مركزية تلك الأدوات؛ أو بتعبير آخر، إن الارتجال لا يكون إلا بعد نهاية التكوين وليس أبدا في بداياته.

* عطفا على جوابكم المتعلق بضرورة استفادة الممثل من تكوين رصين، ألا ترى أن هجنة التكوينات المنظمة عادة من لدن الجمعيات لفائدة ممثليها، تفتقد  لتصور منهجي يحكمها؛ الشيء الذي يجعلها مجرد تمارين إعدادية فارغة  بدون جدوى؟ ثم، أ لا ترى أننا في حاجة ماسة إلى إنجاز تيبولوجيا خاصة بالقناع المعتمل في تراثنا الفرجوي لاستثماره بشكل واع ومثمر؟

** بالتأكيد، ما قلتموه عن بعض التكوينات التي تستهدف الممثل، هي في غالبيتها مضيعة للوقت والجهد، لأن الأساسي في كل تكوين هو تحديد أفقه وغاياته أولا، وأخيرا، إسناده إلى مؤطـر ذا كفاءة.

كي لا أكون سلبيا، من الجيد أن يستفيد كل شخص من الدروس النظرية والتطبيقية التي تدخل في تدريب أشخاص على الحديث أمام الجمهور، وتمكينهم من تقنيات القضاء على رهبة المسرح، وتطويع منسوب التنفس لديهم وما إلى ذلك من التقنيات التي نحتاجها في حياتنا العادية، ومن الجيد أيضا، أن يستفيد  كل مبتدئ أراد دخول غمار المسرح من تمارين بسيطة وإن كانت في مستوى سطحي. لكن ما أتحدث عنه – وأعتقد جازما أنكم بصدد التنبيه إليه- هو مستوى آخر من التكوين الذي يستهدف ممثلا محترفا قادرا على الاشتغال في المسرح المعاصر. هذا المستوى من التكوين لا يتواجد إلا في معاهد التمثيل الجديرة بهذا الاسم، وبدرجة أقل في المساحات التي تخلق داخل الفرق الواعية برهان تكوين الممثل في أعلى مستوياته، أو في بعض المحطات الفنية كالمهرجانات والإقامات الفنية التي يتم فيها تبادل التجارب بعد دعوة المؤطرين والممارسين المنتمين للحساسيات المسرحية التي تشتغل وفق تصور المختبر.

فيما يخص فكرة إنجاز تيبولوجيا خاصة بالقناع أو الأقنعة التي تزخر بها فرجاتنا الوطنية، فالأمر – بلاشك- سيكون مفيدا جدا. حيث أن كل دراسة علمية مستوفية لشروط المنهجية العلمية بغض النظر عن الزاوية التي يتم منها تناول الفرجات أو أقنعتها أو طقوسها…الخ، وبغض النظر عن الحقل العلمي الذي تنتمي إليه هذه الدراسات.

  • في ختام هذا الحوار، نود أن نأخذ برأيكم في واقع صناعة الفرجة المسرحية بسوس، كيف تنظرون عموما إلى الأمر؟ ما هي أهم إشراقاتها وإعاقاتها ورهاناتها؟

**أعتقد أن ما يعيشه المسرح بجهة سوس ليس منعزلا عن ما يعيشه هذا الفن في باقي ربوع الوطن، حيث أن الصعوبات التي تعترضه يمكن لنا إجمالها بشكل عام في: أولا، ضعف التكوين الرصين لدى الممارسين المسرحيين، والحل قد يكون في تأسيس معاهد جهوية، موزعة بين نوعين: معاهد تستهدف الشباب الذي يود دراسة المسرح من أجل امتهانه، كما هو الشأن بالنسبة للمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، ومعاهد تستهدف الممارسين المسرحيين الحاليين بغض النظر عن مستواهم الدراسي أو سنهم؛ بحيث يكون الهدف من وراء فتح هذه المعاهد هو تطوير الممارسة المسرحية الحالية، وتعريف المشتغلين الحاليين في المسرح على آفاق الإبداع المسرحي ودفعهم إلى بلوغ مستويات إبداعية واعدة. ثم ثانيا، خلق فرق مسرحية – أو إعادة توجيه بوصلة الفرق الحالية- على أساس امتلاك مشروع جمالي وتحديد أفق فني، عوض فرق صانعة لما سميناه أعلاه: المسرح الخفيف. هذان المقترحان يضمران في طياتهما إعاقات الممارسة المسرحية بسوس، كما يضمران رهاناتها أيضا.

أما فيما يخص الإشراقات، فأعتقد، أن وجود بعض التجارب المسرحية التي تصر على الاشتغال وفق مشروع جمالي، ومنخرطة كليا في سيرورة البحث المتواصل عن ممكنات استثمار ما تزخر به ثقافتنا هو من صميم هذه الإشراقات، يبقى الطموح كبيرا في بلوغ عدد أكبر من هذه الفرق المسرحية في قادم السنوات.

أخيرا، أشكركم على ما خصصتموه لنا من وقتكم الثمين من أجل التعرف على هذا الهم الإبداعي الذي نصر على حمل مشعله وفق التصور الذي بينا بعض ملامحه خلال هذا الحوار.

  • حاوره: د. إبراهيم أدادا
  • أستاذ جامعي بكلية اللغات والفنون بأيت ملول.

Related posts

Top