ديوان “أصداف تحجب الحجر” لعبد الخالق العمراوي

يقول الناقد سلمان قاصد:”إن القصيدة هي نتاج تصور فاعلٍ للعالم ولرؤيا الشاعر، فإن اختلاف رؤى هؤلاء الشعراء جعلهم يتلاعبون، ولو بنسب ضئيلة، في إظهار المعنى تاركين للمتلقي تصوره واكتماله”(1)، ذلك، أن ثمة دوماً بياضات على القارئ/ المتلقي ملئها حتى يَتَولَّدَ المعنى المطموس في البنية المتحجبة للنص، إنها بمثابة دخول في لعبة كما تنبه إلى ذلك رولان بارث، محكومةٌ بشبكةٍ من الرموز الدالة على عمق التواصل والاتصال بينهما، بمعنى حيازة أعلى درجات التفاعل في التلقي، فحين” نشعر بالملل عند قراءة النص، فهذا يعني أننا لم نفلح في أن نكون مؤلفين مشاركين، ولم نستطع الدخول في اللعبة، فالملل المشار إليه غالبا، عند قراءة النصوص الحديثة ناتج عن سوء تفاهم، مفاده أننا نقارب الكتابة بوصفنا مستهلكين وهي تدعونا إلى اللعب معها، علاوة على أنواع أخرى من سوء الفهم”(2).
إن سوء الفهم الناتج عن عدم المشاركة في هذه اللعبة، أو الدخول المتأخر إلى رقعة اللعب، ومحاولة تفتيت الرموز النصية، من شأن هذا، أن يُعَطِّلَ وتيرة التفاعل بين عدة حواس، أو ما يسميه الناقد “ياوس” بـ”اندماج الآفاق”، وهو عملية انتقال النص من كونه شبكة من العلامات الدالة إلى مرحلة الإدراك والتأمل، خصوصاً أن “ما يُفهم برمشة عين، لا يترك أي أثر” بتعبير أندري جيد، وإنما ينبغي الوصول إلى أقصى درجات التفاعل والخروج من مأزق الكتابة إلى أفاق لا محدودة، واعتبار القارئ فاعلاً أساسياً في فعل الكتابة، والشاعر عبد الخالق العمراوي في منجزه النَّصِّي “أصداف تحجب الحجر”(3)، يسعى إلى الانهمار والإقامة في الجرح، هكذا يُطِلُّ الشاعر من شُرفَةِ الألم: ألم تجترحه أحواز الكتابة والذاكرة حين تصيرُ منفىً، هكذا تتماهى النصوص مع الذات، تتصالحُ وتتكاملُ فيها وبها، قلناً، إقامةً في الجرح الأبدي، ومُحاولةً فتح قنوات تهوية مع المرْجِعِي والثَّقَافي من تراثنا الكوني، خاصَّةً السِّياق الكُلِّي الذي دفع بهذه التَّجربَة إلى “تأبيد” الآلام بينَ هذه النُّصوص. الأمر الثَّانِي في هذه التجربة هو ذاك النَّسيج الهائل من الرموز الشِّعرية والكونية:[ محمود درويش، السياب، ديونيسوس،سيزيف، السندباد، أيوب، يعقوب، يوسف، السموأل، المتنبي، عشتار، تموز، العنقاء……]، إنها تأتيات نصية منفتحة على الإرث الإنساني، على الثقافة الكونية كدالٍ للتثاقف، ما أعنيه، هو أن عبد الخالق العمراوي قارئ مشاء بتعبير إيزر، يجيد الاغتراف من الينابيع الإنسانية، ومتمكن من حرفة الكتابة، والشاعر حين يخوض هذه الحوارية مع المرجعي/ الثقافي، فهو يعي تماماً اشتراطات القصيدة الحداثية الآن، وببنائها الجمالي والدلالي، مع مراعاة الأنساق المضمرة داخل كل نص معين.
  “ولأن الشاعر جزء لا يتجزأُ من مجتمعه، وشعبه، يحس بإحساسه، ويتألم لألمه، ويفرح لفرحه، ويتساءل لتساؤله”(4)، فإنه مدعو للالتزام، والتعبير عن صوته المخنوق، وحنجرته التي صادرتها الآهات باسم الوطن والحب والحرية، يقول عبد الخالق العمراوي في قصيدة “تجاعيد الدمع”:
يَتَفَحَّمُ القلبُ
ولا يَتَفَحَّمُ الوطنُ
نُزَغْرِدُ للأَملِ
يَتَأَصَّلُ الحُزْنُ
ويَتَعَتَّقُ في جِرَارِ
الغيَّابْ
وفي العَيْنِ إِبَرٌ
تُخْطِئُ الجُرح
وترتق جمر السرابْ
سرابٌ يصَّعَّدُ ثريّأ
في تجاعيد الوطنْ
يترهَّلُ الدمع
ويسْتأسِدُ الشَّجَنْ (5)

   يرسم الشاعر صورةً سوداوية للوطن، لا تكاد تُحس إلا بالنزر القليل من الأمل، الكثير من الألم الجميل الذي يُحَرِّضُ على الكتابة، وهذه النبرة التفجعية- إن شئنا- التعبير تأخذ طابعاً انتشاريا داخل المنجز الشعري، سواء إذا تعلق الأمر بالمفردات، أو على شكل عناوين النصوص، بما أنها تحمل دلالة “الامتياز الاستراتيجي، بتعبير جاك دريدا، وهذا المنزع نحو الاحتراق الذاتي، وهذه المساءلة للسراديب السفلى للذات المفردة في مقابل الذات الجمعية، لها ما يبررها، بدليل أن الشاعر كان كثير الاشتغال على هذه الموضوعة تحديداًّ، أي الانشغال بقضايا الوطن، كما نجد في القصائد التالية: – نحيب السماء، وهي قصيدة كُتبت عن ضحايا زلزال مدينة الحسيمة، والذي دمر قرية آيت قمرة، – غزة، تلك المدينة المحاصرة بحراً وبراً، لكنها مازلت تهدي الورد للشهداء- الزنابق تذوب تحت عجلات الطريق، وهي قصيدة مهداة إلى ضحايا فاجعة مدينة طاطا، – فاكهة الجنة، وهي في محمد البوعزيزي أيقونة ثورة الياسمين بتونس الخضراء، – جلجامش يعود من جديد، وهي استحضار لأسطورة الخلود، لكنها هنا تأخذ بعدا تدميريا للحضارات الإنسانية، ما نرومه من خلال هذه الخطوة الإجرائية – الاستقرائية، هو أن هذه النصوص تُعَرِّي الحياة المليئة بالمفارقات الحادة، وتنم عن دفق شعري –شعوري يتجدد بتجدد نبض الخلية، والشاعر في كل ذلك، يبدي قدرة هائلة على التخييل وضبط عقارب النًّص بما يتلاءم مع مسارب الكلمات.
    يبدو الشاعر ملتزماً بقضايا عصره، وهذا ما صرنا نفتقده في الكثير من الأعمال الإبداعية، بل إنه عنصر مقامي وأساسي داخل هذه التجربة الشعرية، كونه يدلي برؤاه وتصوراته بجرأة كبيرة، سعياً منه إلى كتابة أنطولوجية متأصلة في تربتها العربية، المغربية بوجه خاص،”أعني بهذا، أن كل تجربة، كيفما كانت، هي مساحة شعرية، قد تتسع أو تضيق، لا تخص إلا الشاعر المعني بها، والذي سيبقى وحده أمين أسرارها”(6)، وحارسها لأن في ذلك، حفظ للتركة الشعرية باعتبارها وديعة الأولين، الشاعر هنا، لا تغريه العبارة المنتقاة أو المفردة الرنانة، وإنما ظل مازجاً بين تجربته الذاتية والالتزام، دائم الإنصات لنبض الوطن وهموم الشعب، رغم أن هناك من النصوص من جنحت نحو نعومة الحب والعواطف الجياشة، وهذا أمر طبيعي، فالجماليات لا تكتمل إلى من خلال نظرة عين، ولمسة يد، ورشفة مع تنهيدة أطول من “مقدمة ابن خلدون”، يقول الشاعر في قصيدة “الحب والغمد”:
غدا سأراك
أحقا سأراك؟
أسائل عنك ذبذبات قلبي
أسائل عنك تموجات صدري
**
غدا تنهض عنقائي من رمادها
غدا تقبل عشتار تموزها
فالحياة لا تبعث مع الأموات
ولا تصد زوابع الريح الهوجاء (7)
      
هكذا، فإن هذه التجربة تقدم نفسها كتجربة ناضجة، بشكل يتساوق وبلاغة الخطاب الشعري، عبر المتعاليات النصية، وكلتاهما تَصبَّان في النهر الشعري، وإن كان لابد للكثير من الأصوات أن تُسمع، وأن تقرأ، لا أن تحجبها شمس نتوهم أنها حقيقية، وهي في الحقيقة، حاجبة للضوء، آن الأوان أن يبرح الخطاب مكانه، “يجتر النصوص نفسها، والأسماء نفسها، والمصطلحات نفسها، وهواء الحياة نفسه، وإذا لم يعد هناك ما يقوله، فإن عليه أن يتغير، لأن الخطاب حول الشعر يتغير لما يتغير الشعر نفسه، لكنه لا يتغير، انتقائي وشكلاني وحاجب، لا ينظر إلى الأراضي الجديدة التي يحترثها الشعر المغربي، بقدر ما ينظر إلى نفسه وانسجامه الخاص. ولهذا يظل هذا الشعر مجهولا في كل مكان، الكل يكتب، ولكن لا سجال نقدياً يضيء ويوجه ويسمي الأشياء بأسمائها، بلا ادعاء ولا محاباة، وهو ما يستحق تنويهاً إلى أن هذا الواقع خلق ما يشبه إجماعاً على واقع الرعب في الآداب”(8).

الإحالات:
1- سلمان قاصد، قصيدة النثر، فضاءات للنشر والتوزيع، ط 1، 2011، ص 6.
2- النقد والممارسات النقدية، إشراف: عز الدين إسماعيل، مطابع المنار العربي، ط 1، 2003، ص 09 . ( من ورقة بعنوان: مغامرة التعددية للكاتب جيرجيلى آنجيالوسى ضمن أعمال المؤتمر الدولي الثاني للنقد الأدبي – القاهرة، نونبر 2000).
3- عبد الخالق العمراوي، أصداف تحجب الحجر، مطبعة الأمنية، الرباط، ط 1، 2016.
4- إبراهيم الدهون، صور الولاء والحنين للوطن في شعر أحمد سالم، مجلة الجوبة السعودية، العدد 50، شتاء 2016، ص 32.
5- الديوان: ص 5 -6.
6- صلاح بوسريف، الشعر وأفق الكتابة، منشورات ضفاف- دار الأمان- منشورات الاختلاف، ط 1، 2014، ص 78.
7- الديوان: 33-34.
8- عبد اللطيف الوراري، في راهن الشعر المغربي- من الجيل إلى الحساسية- منشورات دار التوحيدي، ط 1، 2014، ص 18.

 بقلم: رشيد الخديري

Related posts

Top