ذكرى شاعر رحل قبل الأوان

في مثل هذا الوقت، في يوم 9 شتنبر قبل ثلاث وعشرين سنة، غادر دنيانا الشاعر المغربي أحمد بركات وهو في منتصف عقده الثالث.

**

 تعد سنة 1976 تاريخا هاما في مسيرته الأدبية الخاصة؛ لأنها السنة التي نشر فيها لأول مرة، وسنه لم يكن يتجاوز السادسة عشر، ولم يكن ما نشره قصيدة أو أي شيء من هذا القبيل، بل كان عبارة عن مقال قصير ذي نفحة فكرية إذا شئنا القول، وكان محوره الأساسي يدور حول مفهوم الاشتراكية، نشر هذا المقال بجريدة البيان الناطقة بالعربية ولسان حال حزب التقدم والاشتراكية.

 **

 كان مهووسا بالقراءة بالليل، وباعتبار أننا كنا ثلاثة إخوة نبيت داخل حجرة واحدة، اضطر إلى شراء مصباح خصوصي ليضيء ما يود قراءته دون إزعاج بقية إخوته، وخاصة الجدة التي كانت كلما لمحت الضوء مشتعلا في الغرفة ما بعد منتصف الليل، تنقر الباب وتهمس بلهجة صارمة مخاطبة إياه:

“أطفئ الضو ونوض تنعس راه الليل هذا”.

 **

   برز نبوغه في كتابة ما يسمى بالإنشاء منذ الطفولة، إلى حد أن أبناء الجيران  كانوا يبحثون عنه لينجز لهم فروض الإنشاء، ومن بين التعابير التي ظلت عالقة بالذاكرة، وصفه لسارد يقصد الحلاق، حيث بدأ النص الإنشائي على هذا النحو:

“عندما يطول شعري ويتدلى على كتفي..”

 وكان يسترسل في الكتابة دون عناء بخطه الجميل المقروء ذي الحروف الكبيرة. كان يتأنق في الخط. 

 **

عقب نشره لذلك المقال الصغير بجريدة البيان، حمل قصائده الأولى إلى الجريدة نفسها، كما أنه نشر بها قصتين فقط: “ما بعد المخاض”، و”في البدء كان العنف”، لم يكتب وينشر طيلة حياته، غير تينك القصتين، حيث انصرف اهتمامه الكلي إلى كتابة الشعر.

 **

 كان يعشق الترجمة كذلك، من اللغة الفرنسية إلى العربية، رغم أنه كان يشكو من ضعف إلمامه باللغة الفرنسية، وأول ما ترجمه هو قصيدة للشاعر الفرنسي كلود روي، لا بل إنه صدر بها إحدى قصائده الأولى، مع العلم أن جميع النصوص التي كان كتبها في هذه الفترة، أي أواخر السبعينات، لم يجمعها في ديوان – ستصدر بعد وفاته ضمن مجمل أعماله الشعرية بعنوان “البدايات”- واكتفى بقصها من الجرائد وإلصاقها بأوراق دفتر من الحجم الكبير، سيختفي هذا الدفتر بعد وفاته إلى جانب مجموعة من صوره الشخصية التي التقطت له سواء بمفرده أو مع الأسرة في مناسبات مختلفة. 

 **

 ونحن لا نزال في أواخر السبعينات، عمل بجريدة البيان مراسلا متطوعا، أو ما كان يسمى بالعمل النضالي.

 كانت أغلب مراسلاته – عدا الشعر- عبارة عن متابعات للحركة المسرحية الهاوية التي كانت في أوج نشاطها، وبعض المقالات ذات الطابع السجالي، من قبيل غياب الصوت النسائي عن حقل الإبداع الأدبي، وقد ساهم هذا السجال في بروز أصوات شعرية نسائية، وتحفيزها على مواصلة السير على درب الإبداع.  

 **

اشتغل كذلك في فترة معينة مراسلا لجريدة العلم. كان يتقاضى أجرا هزيلا وغير قار، وهذا الأجر رهين بكمية ما يبعث به من مراسلات كانت تقاس بالملمترات، وقد استنفد هذا العمل المضطرب طاقته وأنهك أعصابه إلى حد أنه صرفه عن إنهاء بحثه الجامعي، كان أحيانا يضطر إلى إفراغ شريط صوتي وهو يتناول في الآن نفسه وجبة الغذاء.

 **

  تابع دراسته بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق بالدار البيضاء، حيث اختار دراسة الأدب العربي، وكانت دفاتره لا تخلو من قصائد ألفها بنفسه، وكان لا يخلف موعدا مع المظاهرات الطلابية. حدث أن كان بالبيت وسمع هتاف الطلبة، على اعتبار أن الكلية كانت بجوار مسكننا؛ فترك ما بيده وتسلق سور الكلية ولبث واقفا فوقه بعض الوقت وهو يهتف بدوره قبل أن يلتحق بزملائه الطلبة المتظاهرين.

 كان ثوريا، وكان يعشق الأغاني الثورية.

عبد العالي بركات

[email protected]

Related posts

Top