برحيل الأستاذ الطيب الأزرق الذى ووري الثرى أول أمس الاثنين بالرباط تكون المحاماة قد فقدت أحد أعمدتها كرس حياته لخدمة هذه المهنة التي قال عنها المفكر الفرنسي فولتير “إنها أجمل مهنة في العالم ..”، في الوقت الذي كان دوجيسو رئيس مجلس الأعلى للقضاء بفرنسا في عهد لويس الخامس عشر قد اعتبر “المحاماة عريقة كالقضاء.. مجيدة كالفضيلة.. ضرورية كالعدالة.. ومهنة المحاماة تجعل المرء نبيلاً بغير ولادة .. غنيًا بلا مال .. رفيعًا من غير حاجة إلى لقب.. سعيدًا بغير ثروة”.
كان الفقيد الأستاذ الطيب الأزرق، بالنسبة لقبيلة الصحفيين مرجعا لا محيد عنه ومستشارا متطوعا بالنسبة لكل مهني وباحث، أراد أن يضع عمله على ميزان القانون، فكان لا يتقاعس في تقديم الاستشارة والنصح، بتجرد واستقلالية قل نظيرهما، سواء كان ذلك داخل مكتبه الكائن بزنقة باندونغ بالعمارة 1 بطابقها الأول أو خارجه، موفرا كل إمكانياته. بيد أن أهم ما يسجل له، اسهاماته المتميزة في مجال أخلاقيات مهنة الصحافة، حيث عمل بفاعلية وجدية ونكران ذات في تأسيس الهيئة المستقلة لأخلاقيات الصحافة وحرية التعبير التي ترأسها الأستاذ الإدريسي مشيشي العلمي، بمبادرة من النقابة الوطنية للصحافة المغربية، انتخب سنة 2002 رئيسا لجمعية مساندة هذه الهيئة التي ضمت ممثلين عن أبرز الجمعيات والهيئات الصحفية والحقوقية والثقافية.
وفضلا عن اجتهاداته الفكرية والعلمية التي ميزت مساره، منها اقناع كافة مكونات الصحافة من حكومة وهيئات صحفية وحقوقية، بالتوافق حول تطهير قانون الصحافة من العقوبات السالبة للحرية وتوسيع هوامش حرية التعبير، كان معروفا بالصرامة الفكرية والقانونية، على الرغم من انفتاحه على كل الأطياف بدون تعصب، متشبثا في هذا الاطار بالتقاليد والأعراف المتصلة بمهنة المحاماة في زمن اختلت فيه هاته التقاليد، وساد الانحدار المريع لـ “القضاء الواقف”، وهو الواقع الذي طالما كان يؤرق الفقيد الذي جايل رموز المحاماة، وهي المهنة التي كان رئيس محكمة النقض المصرية المستشار عبد العزيز قد قال عنها بمناسبة افتتاح أولى جلسات المحكمة سنة 1931 بالقاهرة “إذا وازنت بين عمل القاضي وعمل المحامي.. لوجدت أن عمل المحامي أدق وأخطر”، وذلك “لأن مهمة القاضي هي الوزن والترجيح .. أما مهمة المحامي فهي الخلق والإبداع والتكوين”.
فعلا لقد كان الطيب الأزرق من هذا الصنف الذي جعل مهمته ومكتبه فضاء لـ “الخلق والإبداع والتكوين” ليس فقط بل أيضا في مرافعاته وفي مجال “ندوات التمرين” الخاصة بالمحامين المتدربين بهيئة الرباط (وتلك قصة أخرى جديرة بالمتابعة من لدن زملائه بالمهنة وشبابها).
كما ارتبط اسم الراحل بالهيئات التمثيلية للجسم الصحي ممثلة بالخصوص بالنقابة الوطنية للصحافة المغربية، التي قال رئيسها عبد الله البقالي في بوح خاص بعد أن ووري الفقيد الثرى بمقبرة سيدى ميمون بحي الرياض بالرباط أول أمس الاثنين بعد صلاة الظهر، أن النقابة لن تنسى أبدا الأيادي البيضاء للمرحوم الأستاذ الطيب الأزرق الذي كان من بين المحامين الذين دافعوا بقوة وشجاعة عن النقابة ومواقفها وأعضائها خلال العديد من المتابعات القضائية والمضايقات التي كان يتعرضون لها من لدن المسؤولين بالإعلام العمومي والخاص، فضلا عن مواكبته رحمه الله لمختلف الأوراش التي فتحتها النقابة بخصوص تأهيل الحقل الصحفي على المستوى التشريعي والمهني والديوطولوجي خاصة قانون الصحافة وقانون الصحفي المهني وميثاق أخلاقيات المهنة.
وفي الوقت الذي أشاد البقالي بما عرف عن الأستاذ الطيب الأزرق من مستوى مهني راق، ومقالاته التي كان ينشرها بالصحافة وبمذكراته الكتابية وفي مرافعاته الشفوية خلال المتابعات والمحاكمات التي كانت تطال الصحافيين بسبب حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة، ركز الأستاذ خالد السفياني المحامي بهيئة الرباط، من جانبه بالخصوص على الاجتهادات القانونية التي قام بها المرحوم الطيب الأزرق ليس فقط خلال مرافعاته أمام القضاء، ولكن أيضا باقتراحاته الإيجابية التي كانت تروم تجويد وتحسين التشريعات والقوانين، فضلا عن اسهاماته في مجال تكوين المحامين الشباب، والدفاع عن حرية الصحافة والعمل النقابي في مجال الاعلام.
كان الأستاذ الطيب الأزرق الذي تميز باللغة والخطاب الأنيقين ومستوى مضامين مذكراته إلى القضاء وفي مرافعاته أمام المحاكم وبالحرص المهني على متابعة ملفاته، لقد كان عن حق مرجعا نابضا في مجال القانون، رجل المواقف الثابتة في مناصرة حرية الصحافة والتعبير في بلدنا وحقوق المواطنين بصفة عامة، وهو ما مثل رحيله فقدا كبيرا لمجال البحوث القانونية والحقوقية، كما كتبت في عددها الصادر أمس الثلاثاء جريدة “العلم” التي اشتغل بها في بداياته صحفيا ومتعاونا وجايل خلالها قامات إعلامية من قبيل الراحلين عبد الجبار السحيمي ومحمد العربي المساري.
فالراحل الذي كان يتميز باستقلالية مهنية عالية، حظي على الدوام باحترام وتقدير كافة الأطراف ذات الصلة بميادين القضاء والصحافة (حكومة وبرلمان وقضاء والصحافيين المهنيين ومجتمع مدني)، حيث مكنته هذه العلاقات التي نسجها مع مختلف الفاعلين من جعله يواكب عن قرب بالدراسة والتحليل القانوني العلمي الرصين مختلف المساهمات التي رافقت مسار قانون الصحافة والنشر قبل اعتماده سنة 2016، وخطوات تأسيس المجلس الوطني للصحافة كآلية للتنظيم الذاتي والتقنين وميثاق أخلاقيات المهنة الذي كانت دراساته حوله بمثابة وثائق مرجعية.
فقبل نحو خمس سنوات، عبر الراحل في مداخلة ألقاها في فاتح يوليوز 2016 بعنوان “حرية التعبير والصحافة في القوانين الجديدة” في ندوة نظمتها إحدى الجمعيات الحقوقية بالرباط، بعد مصادقة مجلس النواب على قانون الصحافة والنشر، عن اعتقاده الراسخ، “إن فك ارتهان وارتباط قانون الصحافة والنشر بأحكام القانون الجنائي، تستلزم صياغةً أدق و أَكْثَرَ حسماً ووضوحاً ..، بالتنصيص، صراحةً، على أن أحكام القانون الجنائي لا تسري في حق الصحافي”.
أمام هذه الحالة الصعبة -يتساءل المرحوم الأزرق- كيف سيتصرف القاضي إزاء الصحافي المتابع من أجل تلك الأفعال، كما هي واردة في المادة 70 المذكورة في قانون الصحافة والنشر، ليس للقاضي أن يُصَرِّحَ بعدم المؤاخذة بعلة انعدام ما يعاقب على تلك الأفعال رغم صحة المتابعة، لأن هذا الأمر شاذ ومستبعد تماماً عن أي تصور، إذ ليس للقاضي إلا أن يلجأ، بصفة حتمية و فورية، إلى تفعيل العقوبات المنصوص عليها بشأن نفس تلك الأفعال في مشروع القانون الجنائي.
ومن هنا فإن أحكام القانون الجنائي هي التي ستطبق، حتماً، في حق الصحافي بشأن الأفعال المنصوص عليها في المادة 70 من مشروع قانون الصحافة والنشر، داعيا إلى سلوك نهج تأسيسي لمرحلة جديدة، انطلاقاً من مراجعة التوجهات والاختيارات الكبرى بدل نهج أسلوب الترميم بالاكتفاء بتعديل ما يمكن تعديله في قانون الصحافة والنشر المسنون بمقتضى ظهير 15 نونبر 1958، مع ما لحقه من تعديلات سنة 1971 وسنة 1973 وسنة 2002.
وفي هذا الصدد فإن المطلوب – كما كان يرى الطيب الأزرق– العمل على تكريس أوسع ما هو متاح من ضمانات، تدعم حرية التعبير عن طريق الصحافة والنشر،.. مع فك الارتباط والارتهان بأحكام القانون الجنائي /…/ وأن كل نص قانوني يستهدف تأطير حقل الصحافة والنشر، لا مناص له من أن يكون ترجمة أمينة لأحكام الدستور، بما أكد عليه من حرية التعبير وكفالة حرية الصحافة، بالإضافة إلى الوفاء للالتزامات الدولية للمغرب، وخاصة ما يتعلق منها بالاتفاقات السبع الكبرى وضمنها البروتوكولات الاختيارية المتعلقة بحقوق الإنسان.
فإلى جانب قانون الصحافة والنشر لم يغب عن المرحوم قيد حياته، كذلك أسئلة التأهيل المهني للصحافي و للمقاولة الصحفية عن طريق التأطير القانوني للممارسة المهنية للصحافة، وبما كان سيؤول إلى سن كل من مشروعي القانون الخاص بالنظام الأساسي للصحافي والقانون المتعلق بالمجلس الوطني للصحافة، إذ أن سؤال التأهيل الأخلاقي للممارسة الصحفية، ربطه أساسا بما كان يسميه بالعلاقة الجدلية المتلازمة بين الحرية والمسؤولية، وعلى أساس البحث عن الملاءمة والتوازن بين حرية الصحافة والأخلاق العامة للمجتمع، ولكن ليس بالاكتفاء بوضع ميثاق لأخلاقيات الصحافة بقصد أن يلتزم به الممارسون، وإنما بجعل مسألة الأخلاقيات شأناً داخلياً من تدبير أسرة الصحافة، فيما أخذ تسمية الحكامة الذاتية إلى جانب الاستقلالية.
فعلا لقد كان الأستاذ الطيب الازرق الذي يعد رحيله ليس فقط خسارة أليمة وفقدانا كبيرا لأسرته وللعائلة الحقوقية، بل لأهل الصحافة كذلك، مثالا لممارس المحاماة ولرجل القانون، لا يتأخر في الدفاع عن الحق وعن الناس، كما لا يتوانى في تلبية دعوة هيئات وتنظيمات الصحفيين لدعمهم في التصدي للمشاكل القانونية التي تواجههم في مجالهم المهني. لذلك ظل المرحوم الطيب الأزرق محفوفا بالاحترام والتقدير من لدن كافة من تعاملوا معه واشتغلوا إلى جانبه، كما قال الإعلامي والكاتب عبد الرحيم التوراني في تصريح خاص.
وسيكون من المفيد جدا، بل من المطلوب، أن تبادر الهيئات والمنظمات التي اشتغل إلى جانبها من قطاعات المحاماة والقضاء والصحافة، إلى تجميع اسهاماته وأعماله الجليلة، باعتبارها ذاكرة حية تنير الطريق للباحثين وتشكل نبراسا للأجيال الصاعدة وتراثا خالدا لزملائه المحامين ولمهنة المتاعب الصحافة.
> بقلم: جمال المحافظ