“رمضان” في قصص مغربية وأجنبية – الحلقة 2/1

حين مراجعة المجاميع القصصية المغربية وكذا الأجنبية التي صدرت على امتداد عدة عقود، سواء للرواد أو للكتاب الجدد على حد سواء، من النادر أن نعثر على نموذج منها يتناول الموضوع الذي له ارتباط بشهر رمضان.
هل معنى هذا أن الشهر الكريم لا يوحي للأدباء بأي شيء؟
الملاحظة الأخرى التي يمكن تسجيلها ونحن بصدد إعداد سلسلة من النصوص القصصية للنشر في هذا الفضاء الرمضاني، هو أن أغلب هذه النصوص تتطرق إلى يوم بعينه من رمضان، ألا وهو يوم السابع والعشرين، أو ليلة القدر بالأحرى، وهذا ليس مفاجئا، على اعتبار ما تحبل به هذه الليلة من رموز وإيحاءات.
إننا نفتقر إلى أنطولوجيات في مختلف فنون الأدب، تخص موضوعات بعينها. إن عملية جمع النصوص الخاصة برمضان، بقدر ما هي متعبة؛ فهي كذلك ممتعة ومفيدة، ولا شك أن مكتبتنا بحاجة إلى هذا النوع من الأنطولوجيات التي تتيح لنا الإحاطة الشاملة بالنصوص التي تتناول موضوعا أو قضية بذاتها، بأصوات متعددة.

الرجل الذي تحداني

 بقلم: أحمد عبد السلام البقالي

لو لم يكن يتحدى شعوري لما كان تعرض لكل تلك المتاعب.
في أيام رمضان، كسائر الأيام، كنت أحب الهروب من البيت ومن تكرار القرآن الذي كنت أحفظه عن ظهر قلب، والذهاب إلى البحر، الصديق العزيز. كنت ألقي بالسلة والقصبة من فوق سطح الدار إلى الشارع، وأتعلق بالباب وأتسلل إلى الخارج. بهذه العملية كنت أحس كأني أسرق شيئا. حريتي مثلا.
وفي البحر كنت أجد السلام..
وقفت على صخرة أرمي بصنارتي وأنتظر. كان اليوم صيفيا جميلا. كثير من الأوروبيين يسبحون بالشاطئ القريب. المغاربة لا يسبحون احتراما لرمضان. ورغم أن السباحة خطر على الصوم، كما قيل لنا في المدرسة؛ فقد كنت بعد وقفة طويلة تحت لفح الشمس، أنزل إلى الماء الأزرق البلوري حذرا ألا يغطس رأسي؛ فأحس برودة الماء في أحشائي لذيذة منعشة.
وشيء آخر لم أكن أستطيع الصيام عنه، هو النظر إلى الفتيات وهن يقفزن فوق الصخور كالطيور، ويصرخن بين الحين والحين ليلفتن الأنظار إلى مفاتنهن الشابة.
رأيت ذلك الرجل قادما نحو الميناء الذي كنت أصطاد فوقه وتجاهلته، فقد تجمعت جوقة من الفتيات حول سلتي ينقبن بين الأسماك عن واحدة حية ليضعنها في بركة ماء قريبة، ويتفرجن عليها.
كانت تقودهن “لي لي” التي تعاملني بكثير من الدلال، ويعرف الجميع شعوري نحوها. وكان النسيم يرفع أذيال مايوهاتهن المحافظة الملونة بالزهور، فتبدو البشرة الداخلية بيضاء لم تتورد بفعل الشمس كبقية الأطراف..
وبقيت مسلوب الإرادة أمامهن.
كنت في حوالي الرابعة عشرة، معتدل الطول، نحيفا من شدة الجوع، أفطر في الصباح واقفا، أجري إلى البحر، وأنسى العودة للغذاء، ومع الظهر أسمع غرغرة أمعائي فأتجاهلها وقبيل العصر يمضي الجوع.
كانت أمي تعلق على عودتي المتأخرة باستمرار:
“إن في البحر جنيات تستولين على قلوب الأولاد، والبعض يذهبن بعقولهن”.
وجاء ذلك الرجل بملابسه العسكرية، جلباب أخضر مفتوح من الأمام، وعلى صدره شعار فرقته مطرزا بالأصفر، هلال في وسطه بندقية ورمحان متقاطعان. وعلى رأسه طربوش أحمر بدون شوشة.. وفي رجليه حذاء قماشي أبيض، وقد لوى على ساقيه شريطا أسود عريضا يغطي ما بين الركبة والكعب، يدعى “الطرابق”.
كانت جوقة البلابل قد ذهبت حين وصل، وقف، أولا على صخرة خلفي، ثم نزل قليلا حتى صار بمحاذاتي على مستوى الماء بعيدا عني ببضعة أمتار، ثم أقعى إقعاء قرد.
عرفته حين نظرت إلى وجهه الأحمر وحواجبه الشهباء الضائعة فيه، وفمه الذي لا ينطبق تماما.
كان ينظر إلى البحر ثم إلى الأفق ناحية طنجة حيث يكتسي الساحل بضباب رقيق يتصاعد من الرمال المبتلة والأمواج الدائمة الانكسار على الشاطئ.
ونظر حواليه، ثم مد يده إلى جيبه فأخرج علبة تبغ رخيص أفرغ منها قليلا في يده وأغلقها وأعادها إلى جيبه، ثم أخرج علبة من الورق المقوى الأحمر، فأخرج منها ورقة لف رهيفة وأعادها إلى جيبه، ثم أفرغ التبغ وسط الورقة بعناية كبيرة وبدأ يلفه وينظر إلي من تحت جفنيه.
وكنت أختلس النظر إليه وأحاول أن أبدو طبيعيا بقدر الإمكان، وفي الحقيقة كنت أنتظر شرحا ولو كاذبا، مثلا “الطبيب أمرني بالتدخين، الله يعفو علينا يا أخي” كانت تكفي وتبرر إحساسه بوجودي.
لم ينطق بكلمة.
لف السيجارة وألصق طرفها بلسانه، ثم وضعها بين شفتيه وراح يبحث في جيوبه عن الوقيد (الكبريت).
وبعد لحظة، صاح بي:
ــ إيه..
قلت:
ــ ماذا؟
ــ وقيد، أليس معك وقيد؟
كان يشرح لي كأنني نصراني، قلت:
ــ لا أدخن.
فنظر إلي بحاجبين مرفوعين دون أن يطبق فمه، ثم قال:
ــ ها هو وجدته.
وأخرج وقيدة من العلبة الصغيرة بأصبعين خشنتين، وحكها بجانب العلب عدة مرات حتى اشتعلت ثم وضعها بين يديه ليحميها من الريح، وأدخل السيجارة فأشعلها، وبدأ الدخان يتصاعد من بين شفتيه ومنخريه وهو يقفل عينه اليسرى ليتجنبه. ونفخ على الوقيدة فأطفأها، ثم وضعها على صخرة بجانبه بعناية وكأنه يخشى أن يحرق البحر.
ورفع عينيه نحوي، ثم أمسك بالسيجارة بين أصبعيه وبدأ ينفث الدخان دوائر في الفضاء، ثم يخرجه من أنفه سريعا وبشكل نافوري، وينظر إلى السيجارة وينفض رمادها بطرف بنصره.
وكما يقال في المثل: “الواحد لا يسمى لصا إلا حين يقبض عليه”. كذلك الفاسق لا يتمتع بفجوره إلا حين يأتيه على مرأى من الناس. ومن عمق التذاذه بتلك السيجارة تبين لي أنه لم يذق في حياته أحلى منها.
وحاولت ألا أنظر إليه. كنت مجروحا، أحس بالألم لعجزي عن رد الإهانة. كان يمكنه أن يذهب إلى طرف الميناء الآخر ويفعل ما يشاء، أو ينزل إلى الشاطئ وراء الميناء، حيث لا يوجد أحد من الراغبين في الحفاظ على الشعور العام، كالذين يأتون بصديقاتهم للسباحة والتنزه ونسيان متاعب رمضان. ولكنه عمدا، اختارني. اختارني ليرى إلى أي حد يمكن أن يدفعني إلى الثورة والانفجار تحت ضغطه الهائل. كان يتحداني. كل نفس من تلك السيجارة صفعة لكرامتي ودليل على عجزي وجبني..
يا جبان.
وأقسمت أن أنتقم منه شر انتقام متى أتيحت لي الفرصة.
كنت أعرفه. كان يسكن قريبا من حومتنا في غرفة صغيرة فوق دار “الحليمي” حيث يأتي الأطفال أيام “العواشر” ويقفون على بابها يصرخون:
“باش تعيد هاذ المصرية؟ بالكوارع د الجنية”
أي: “بماذا ستعيد هذه المصرية بكوارع الجنية”
فيرجمهم الحليمي بحذائه، لأنهم يهربون الزبائن.
كنت ألتقي العسكري كل صباح في طريقي إلى المدرسة يدخن ويسعل ذاهبا إلى التكنة.
ومرة رأيت امرأة تنزل من نفس “المصرية” هاربة ولحافها في يدها، وهو في أعقابها يهدد ويلعن بصوت خفيض حتى لا يثير الجيران.
أراهن أنها سرقت محفظة نقوده.
وأحسست بقليل من الراحة لحضور هذا المنظر ببالي، إنه انتقام مسبق، ولكنني لن أنسى انتقامي.
وحين انتهى من سيجارته، وجه لي آخر صفعاته، رمى العقب على قصبتي في تحد سافر، وقام يقفز على الصخور عائدا إلى المدينة.
يتبع

إعداد: عبد العالي بركات

Related posts

Top