حين مراجعة المجاميع القصصية المغربية وكذا الأجنبية التي صدرت على امتداد عدة عقود، سواء للرواد أو للكتاب الجدد على حد سواء، من النادر أن نعثر على نموذج منها يتناول الموضوع الذي له ارتباط بشهر رمضان.
هل معنى هذا أن الشهر الكريم لا يوحي للأدباء بأي شيء؟
الملاحظة الأخرى التي يمكن تسجيلها ونحن بصدد إعداد سلسلة من النصوص القصصية للنشر في هذا الفضاء الرمضاني، هو أن أغلب هذه النصوص تتطرق إلى يوم بعينه من رمضان، ألا وهو يوم السابع والعشرين، أو ليلة القدر بالأحرى، وهذا ليس مفاجئا، على اعتبار ما تحبل به هذه الليلة من رموز وإيحاءات.
إننا نفتقر إلى أنطولوجيات في مختلف فنون الأدب، تخص موضوعات بعينها. إن عملية جمع النصوص الخاصة برمضان، بقدر ما هي متعبة؛ فهي كذلك ممتعة ومفيدة، ولا شك أن مكتبتنا بحاجة إلى هذا النوع من الأنطولوجيات التي تتيح لنا الإحاطة الشاملة بالنصوص التي تتناول موضوعا أو قضية بذاتها، بأصوات متعددة.
الصائمون
< بقلم: الكاتب الصيني جو يوان
لا ينام سكان قرية “سونايبا” في شمال شرق الصين خلال شهر رمضان سوى لقليلٍ من الوقت، حيث يتصادف قدومه هذه الأعوام وهم في موسم الانشغال، فيكونون شديدي التعب. لكن مع قدوم شهر رمضان، يشعر أهل “سونايبا” أنهم في أفضل حالاتهم المعنوية، وتمر الأيام متلاحقة كلمح البصر حتى انقضاء الشهر.
وفي الهزيع الأخير من كل ليلة من الشهر يتردد بالقرية صدى مقرعة المسحراتي الخشبية؛ فتضاء الأنوار داخل البيوت التي تتوزع ما بين أعلى الجرف وبين أسفله، وتنعكس الأضواء على منتصف الجرف لتشكل قوسا منيرا يعلوه ظلام حالك.
ودائما ما تهب الرياح على هذه المنطقة المظلمة محدثة صريرا اعتاده أهل القرية. عادة ما تنادي سيدات القرية عبر الجدران على أخريات بأسمائهن؛ فيسمع أزواج الأخريات النداء، ولا يجيبون، بل ينبهون زوجاتهم فقط؛ فترد الزوجات على النداء بصوت مرتفع يفزع منه أطفالهن الرضع؛ فينتحبون ببكاء كأنه بمثابة الرد الثاني على النداء. حينها تبدأ السيدات في إشعال المواقد بهدوء. وفي كل ليلة من ليالي رمضان تصعد “ليان ليان” على حافة الشباك لتسأل أمها: “ماذا ستعدين لنا؟” فتجيب الأم وهي تتحدث بتعجل: “دقيق أبيض مخلوط بالزيت، أعطي بعضه بسرعة للسيدة جارتنا، لا أدري ماذا أعد لكم كي تأكلوه”.
وحينما تتعجل الأم في حديثها؛ يفهم الجميع أنها ليست في مزاج جيد.
سارت “ليان ليان” مسرعة، ودفعت باب الفرن بقوة فأحدث صريرا، ثم نادت على أختها الصغيرة “شي شي” التي ما زالت تغص في أحلامها: “شي شي!، تعالي بسرعة لتشعلي النار”. نهضت “شي شي” لارتداء ملابسها، وعيناها مغلقتان.
تتعالى أصوات من يطؤون رمال الطريق المظلم في منتصف الجرف، لإحضار الحطب الجاف وتقطيعه في فناء البيت. فتتشابك أصوات صرير الأبواب الخشبية عند الفتح والغلق، مع الأصوات الحادة لحديث السيدات في جوف الليل. تلك الأصوات تدفئ أجواء رمضان في “سونايبا” بالحركة والنشاط، حتى أنه يمكنك – في هذه الأثناء – السير فوق الجرف وسط أصوات الرياح المختلطة بالبرد القارس، دون أي خوف، مستأنسا بأصوات القرية.
أحدثت “ليان ليان” صوتا أثناء دخولها غرفة الموقد، حين جاءت لتشعل الموقد البخاري لـ”شي شي”. تطمئن “ليان ليان” لأي شيء تفعله في المنزل فقط حينما يكون أحدهم بجانبها، وإذا لم يطلب منها فعل أي شيء لا تقوم بنفسها بفعله، فهي منذ صغرها تشعر باضطراب كبير إذا قامت بأي أمر في المنزل بمفردها.
تقل الأصوات في بيت “ليان ليان” دائما في نهار رمضان. في البيت مذياع وتلفاز أبيض وأسود، ولكن الأم تردد دائما: “سماع الأغاني ومشاهدة التلفاز يفسدان الصيام، وإذا كان الشخص سيسمع الأغاني أو يشاهد التلفاز فمن الأفضل له الإفطار، حيث لا صيام له!” إذًا كيف تجرؤ “ليان ليان” التي صارت على مشارف الثامنة عشرة على الإفطار؟ ستتعرض لسخرية الآخرين. في شهر رمضان يمتنعون عن هذه المحظورات، والمحظورات في شهر رمضان كثيرة جدا، فمنذ الصغر تعلموا أنه لا يجب استخدام أعواد الكبريت في تنظيف الأذن، كما لا يجوز تقليم الأظافر أيضا، وبالنسبة للكبار من المتزوجين يجب أن ينفصلوا عن زوجاتهم في الفراش ليلا، و”ليان ليان” تدرك كل ذلك، لذلك فبيتهم بلا صوت في شهر رمضان، ولا يُسمع في البيت سوى صوت تلاوة الأستاذ “يانج” للقرآن في الصباح الباكر؛ حيث تعشق الأذن صوت تلاوته العذب للقرآن.
في شهر رمضان يحب أهل “سونايبا” أن يتردد صوت القرآن في بيوتهم، حيث يدعون أحد الأئمة أو أحد طلاب الدين لتلاوة القرآن، والذي يخصص لكل يوم جزءا من الأجزاء الثلاثين، ويختم القرآن مع نهاية الشهر، كما أنهم يكثرون في شهر رمضان من ذكر الأموات، وتأدية الصلوات. وتعد كل هذه الأمور من الضرورات التي لا يجب الانتقاص منها.
يأتي “يانج” ابن إمام المسجد لبيت “ليان ليان” كل يوم في رمضان لتلاوة القرآن، وقد اعتاد الناس أن ينادوه الأستاذ “يانج”. يسكن الأستاذ “يانج” في القرية الواقعة خلف الجبل، وقد جاء مع والده الإمام “دا دا” للإقامة في قريتهم وتولى إمامة المسجد وتعليم الدين والقرآن.
يجيد “يانج” تلاوة القرآن بشكل رائع، كما أنه شخص مهذب، دائما ما يثني الكبار في القرية على أخلاقه. وهو قليل الكلام، غاض البصر، لا ترى عيناه سوى موضع قدميه. يأتي كل صباح فيدخل البيت في صمت يكاد لا يُسمع له صوت، فيخلع نعليه عند دخول الغرفة، ويجلس على سرير الكانج بلا أدنى صوت، سرير الكانج مغطى بفراش محشو بالقطن، أعلاه ملاءة باهتة، وبجواره منضدة خشبية حمراء تعلوها مبخرة نحاسية، تتصاعد منها أبخرة زرقاء خفيفة لثلاثة أعواد بخور رفيعة حمراء تحترق، فتتجمع هذه الأبخرة في فضاء الغرفة وتملأ المكان بعبق البخور، وعندما يجلس الأستاذ “يانج” القرفصاء ويعتدل قليلا متأهبا للتلاوة؛ تعلوه أمارات الهيبة والوقار.
للأستاذ “يانج” صوت جهوري، يتغير بين ارتفاع وانخفاض وسرعة وبطء كلوحة لمشهد ربيعي تسحر الألباب. تجلس “ليان ليان” فوق كرسي صغير مربع الشكل موضوع فوق عتبة الغرفة الصغيرة، بحيث تشكل الغرفة الصغيرة مع الغرفة الرئيسية زاوية قائمة، لتزيد حسنها توهجا، وينساب صوت تلاوة الأستاذ “يانج” عبر باب له لون الزبد به شباك من الزجاج، يخرج الصوت منغما، بحيث يبدو للسامعين وكأن شخصا يعتلي منبرا يقرأ بصوت عالٍ مليء بالصدق والعاطفة قصيدة مدحٍ أو رثاء، أو كشخص بداخل قاعة مسجد كبرى يسرد بصوت عذب الأحداث المؤثرة المتشابكة التي حدثت في المدينة المنورة، والعناكب الكثيرة التي نسجت شباكها بسرعة، والهدير العالي لسرب الحمام الأبيض الذي استقر فوق الغار لحمايته، وفي داخل الغار نبي الإسلام محمد يصلي في سكون، وفي الصحراء الجافة أصوات حوافر الخيول فوق الرمال والحصى يسمعها من بالغار، وأصوات زفير وصهيل الخيول الضخمة، وأصوات صليل السيوف التي تصطدم بها الرمال المتطايرة؛ فتتشابك وتنخطف قلوب السامعين. في هذه الأثناء كانت “ليان ليان” تتخيل وجه الأستاذ “يانج”
ممتلئا بالنور وهو يتلو القرآن.
نهضت “ليان ليان” من فوق الكرسي المربع، ودخلت الغرفة الرئيسية؛ فوجدت الأستاذ “يانج” يُعدِّل جلسته، وهو هادئ الملامح وخاشع العينين، يهز رأسه هزة خفيفة مع التلاوة، فيخرج هذا الصوت الجميل من بين شفتيه اللتين تنمان عن الطيبة والبساطة. شعرت “ليان ليان” فجأة بالندم على أنها لم تتعلم قراءة القرآن من قبل مع إمام المسجد الإمام “شيان”، فالإمام شيان غزير العلم، تعلمت معه – على لوح جلد البقر – كتابةَ حروف الهجاء: الألف، الباء، التاء..
إلى آخره من الحروف العربية الثمانية والعشرين، كانت تقرؤها معه حرفا حرفا، حتى حفظتها عن ظهر قلب، ودرست ثلاث عشرة سورة مع بعض العلوم الشرعية، وقد طلب منها الإمام دراسة علوم القرآن الكريم، لكنها شعرت أن هذا سيحتاج لوقت طويل، وأبوها بعيد هناك في المكتب الهندسي للطريق السريع في مقاطعة
“تشينجهاي”، وتصعب عليه العودة للديار، وعلى الرغم من أن زوجة أخيها الأكبر تعمل في بلدية “كالونج”، التي تبعد عن قريتهم خمسة عشر ميلا فقط، فإنها لا تعود إلى البيت، والأخت الصغرى “شي شي” تدرس أثناء النهار، ولا يوجد في البيت سوى أمها التي تعشق فريضة الصلاة.
كانت “ليان ليان” قبل ذلك – عندما تنتهي من تعلم الدروس الدينية في المسجد
تعود للبيت؛ فتفتح جهاز التسجيل سرا، وتخفض الصوت وهي تستمع لشرائط الكاسيت التي تركها أخوها الكبير في البيت، تسمع “الأغاني الجبلية” لمي دو
و”جسر الأحبة”، وتظل تستمع لها حتى تشعر بالضيق؛ فتغلق الجهاز، ولكنها كانت تفضل سماع أغنية “فتاة القرية الزرقاء” التي تقول:
فوق جبل “لان”، حيث عطر زهرة السحلب،
تبدو فتاة القرية الزرقاء مثل زهرة ندية،
ليست طويلة ولا قصيرة، ليست نحيفة ولا سمينة،
تجيد القول، تجيد الفعل، تحب الرقص، تحب الغناء،
لطيفة الطبع، رقيقة جميلة، طيبة القلب، خفيفة الظل،
كل فتيات الجبل حسناوات مثلها،
أين توجد في المدينة فتيات مثلهن،
أين توجد مثلهن.
أحيانا تدندن “ليان ليان” مع جهاز التسجيل، لكنها تحس بعدم ارتياح، حيث إنها دائما تشعر أن هناك تناقضا بين سماع الأغاني وقراءة القرآن الكريم، فإذا فعلت هذا فلا يمكن أن تفعل ذاك، وهي لا تجرؤ أن تخبر الإمام
“شيان” بأمر سماعها للأغاني، لأنها لا تتخيل إلامَ سيتحول هذا الوجه العطوف إذا علم بالأمر، لكنها في النهاية لم تكمل تعلم القرآن، حيث جاءهم خطاب من العم “ووسو” في منطقة “شينجيانج” يطلب أن تذهب “ليان ليان” لمساعدته في مطعمه الجديد، وقد وافق أبوها.
يتبع
< إعداد: عبد العالي بركات