مشروع لتقييد التبليغ عن جرائم المال العامّ: الحدّ من الشكايات الكيديّة أم تطويق لجهود مكافحة الفساد؟

في سابقة مثيرة للجدل، تضمّن مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد، قيودًا على تحريك الدعوى العموميّة في جرائم الفساد في المغرب، حيث نصّت المادة 3 من مشروع القانون على أنه: “لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العموميّة في شأن الجرائم الماسّة بالمال العام، إلا بطلبٍ من الوكيل العامّ للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسًا للنيابة العامّة، بناءً على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلبٍ مشفوع بتقرير من المفتشية العامّة للماليّة أو المفتشيّة العامّة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك”. وأضافت المادة 7 من مشروع نفس القانون شروطا جديدا لولوج الجمعيات إلى التقاضي في قضايا الشأن العام من بينها “الحصول على المنفعة العامة” وعلى “إذن بالتقاضي من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل”.

عقلنة التبليغ عن جرائم المال العام للحدّ من الشكايات الكيدية

سبق لوزير العدل عبد اللطيف وهبي أن دافع أكثر من مرة على ضرورة عقلنة التبليغ عن جرائم المال العام، موضحا في جواب عن سؤال كتابي بمجلس المستشارين (الغرفة الثانية من البرلمان المغربي)، أن موضوع الشكايات الكيدية والوشايات الكاذبة ضد السياسيين وأصحاب الأعمال أصبحتْ محلّ اهتمام وزارة العدل، ولهذه الغاية، تمّ تضمين مشروعيْ مراجعة القانون الجنائي والمسطرة الجنائية مقتضيات جديدة تهدف بالأساس إلى “تقييد إجراءات البحث الجنائي بناء على ضوابط محدّدة تضمن الاستثمار الأمثل للوشاية والشكاية كمدخل من مداخل البحث والحدّ من حالاتها الكيدية وكذا التشديد في العقوبات المقررة لها”.

وأضاف أن الممارسة العملية أثبتت، من خلال الإحصائيات المقدمة، بأن جزءا مهمّا من الوشايات التي تتوصل بها الشرطة القضائية والنيابات العامّة تكون كيدية وعديمة الأثر والغاية منها الإيقاع بأشخاص وتعريضهم لمضايقات جراء إجراءات البحث معهم والمس بسمعتهم. وهو ما قد يدفع الكثير من السياسيّين إلى الإحجام عن الترشيح للاستحقاقات الانتخابية، مستطردا دوري أن أحمي السياسي إلى أن يثبت العكس (فساده)”.

ودافع وزير العدل عن التعديلات الواردة في مشروع القانون الجديد بخصوص مسطرة تقديم الشكايات إلى النيابة العامة من طرف جمعيات حماية المال، التي بموجبها لن يتمّ قبول أيّ شكاية ضدّ أيّ رئيس “بلديّة” قبل إحالتها على وزارة الداخلية للتأكّد من المعطيات الواردة فيها، كما لن يتمّ قبول أيّ شكاية ضدّ المسؤولين العموميين أو تحريكها من طرف النيابة العامة، قبل إحالتها على الوزير الوصي على القطاع المعني للتأكد من صحة المعلومات الواردة فيها.

معركة كبرى ضد الفساد

من جهتها، أدانت –وهي منظمة غير حكومية- توجه الحكومة الرامي إلى التضييق على الجمعيات المدنية في ممارسة حقها الدستوري في الولوج إلى القضاء والتبليغ عن جرائم الفساد المالي، مستنكرة “استغلال مؤسسة البرلمان لتمرير قوانين تراجعية غير دستورية وتشكل انتهاكا سافرا لحقوق الإنسان وحماية المفسدين ولصوص المال العام من المحاسبة”.

واعتبرت الجمعية أن “رغبة الحكومة في تقييد سلطة رئيس النيابة العامة في تحريك الأبحاث والمتابعات القضائية بضرورة إحالة تقارير عليه من طرف جهات غير قضائية، يعد تدخلا سافرا في السلطة القضائية من طرف السلطة التنفيذية”. كما أن الرغبة في “إغلاق باب القضاء في وجه الجمعيات الحقوقية يشكل تعبيرا عن توجه سلطوي يهدف إلى التضييق على الحريات والحقوق”.

وأكدت الجمعية أن مكافحة الفساد والرشوة والريع ونهب المال العام هو شأن عام يهمّ المجتمع وأن محاولة الحكومة التضييق على منظمات المجتمع المدني في هذا الشأن يتناقض مع القانون رقم 02 – 37 المتعلق بحماية المبلغين، كما يشكل تعارضا مع أحكام الدستور واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

في السياق ذاته، اعتبر رئيس نادي قضاة المغرب عبد الرزاق الجباري، أن المادة الثالثة من المشروع “تنقلب على مبدأ فصل السلط”، مُستنكراً اشتراط حصول النيابة العامة على طلب من “جهات إدارية أو هيئات حكامة” لفتح تحقيقات في قضايا الفساد المالي. وعبّر عن استنكاره قائلاً: “كيف نرضى أن تُقيّد يد القضاء بإجراءات بيروقراطية؟ هذه المادة تمنح الإدارة سلطة التحكم في تحريك الدعوى العمومية، وهو ما ينتهك الفصل 107 من الدستور الذي يكفل استقلال القضاء عن السلطة التشريعية والتنفيذية”.

المعارضة تطالب باستشارة مؤسسات الحكامة حول مشروع القانون

استجاب رئيس مجلس النواب لطلب المعارضة بإحالة مشروع قانون المسطرة الجنائية على المؤسسات الدستورية بهدف “إبداءِ الرأي في المضامين المثيرة للجدل”، وخاصة المادة 3 من المشروع.

وفي هذا السياق رفضت الهيئة الوطنية للنزاهة ومحاربة الرشوة والوقاية منها التعديل الجديد معتبرة أنه يثير إشكالات دستورية وقانونية، حيث يقصر “إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في الجرائم المتعلقة بالمال العام بناءً على طلبات من جهات محددة، مثل الوكيل العام للملك، والمجلس الأعلى للحسابات، والمفتشيات العامة للوزارات، والهيئة الوطنية للنزاهة”. وهو ما يشكل “تضييقا على ولوج فئات من المعنيين مباشرة إلى القضاء، في مخالفة صريحة لروح ومقصود الدستور بهذا الخصوص، وفي تعارض مع مقتضيات الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد التي أوصت بتوسيع مفهوم المبلغ وحمايته، بحيث يشمل بالإضافة إلى الشاهد والضحية والخبير الذين يعتبرون أطرافًا في الدعوى العمومية، الشخص الطبيعي أوالمعنوي؛ سواء كان موظفًا عموميًا أو مستخدمًا في القطاع الخاص أو شخصًا عاديًا، وسواء كان هيئة مجتمعية أو منظمة غير حكومية أو هيئة مهنية أو شركة”.

كما سجلت الهيئة أن هذا التضييق، بالإضافة إلى كونه يجعل تدخل النيابة العامة في الجرائم المتعلقة بالمال العام مقيدًا بالحالات الحصرية السالفة الذكر، فإنه يحول دون ولوج مجموعة من الفئات مباشرة إلى القضاء، وهو ينطوي على مخالفة صريحة لروح ومقصود الدستور الذي جاء واضحًا في ضمان حق الجميع في الولوج إلى القضاء.

وأوضحت الهيئة بأن “الضرر الشامل الذي تلحقه جرائم الفساد بالبنى الاقتصادية والاجتماعية للبلاد يجعل الأشخاص الذين يتوفرون على إثباتات وقرائن عن ارتكاب جرائم فساد، وكذا الجمعيات التي تنص أنظمتها الأساسية على أن مهامها وأنشطتها تنصب على مكافحة الفساد، مكتسبين بشرطي الصفة والمصلحة، كي يمارسوا حقهم الدستوري في الولوج إلى القضاء: شكاية، وتبليغًا، ومقاضاة. وهذا ما يتجاوب مع الدور المنتظر من المواطن والمجتمع المدني في مجال مكافحة الفساد”.

وأشارت الهيئة أيضا الى الإشكالات التي تثيرها المادة 7 من المشروع والتي اشترطت حصول الجمعيات المعترف بها بصفة المنفعة العامة على إذن بالتقاضي من السلطة الحكومية المكلفة بالعدل. وأكدت أن هذا الشرط يقيّد قدرة الجمعيات على الانتصاب كطرف مدني، مما يتعارض مع توجهات الدستور التي تضمن حرية عمل الجمعيات والمنظمات غير الحكومية في ممارسة أنشطتها ضمن احترام الدستور والقانون. وأضافت أن هذا الشرط يتناقض مع دور الجمعيات في الديمقراطية التشاركية والمساهمة في إعداد وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية.

من جهته دعا المجلس الوطني لحقوق الإنسان، إلى توسيع دور الجمعيّات في اللجوء إلى القضاء الجنائي بشأن مختلف القضايا التي تهمّ الصالح العامّ معتبرًا المستجدّات الواردة في المشروع تقييدات غير ضرورية وغير متناسبة تتعارض مع ما نصت عليه المادة 13 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من اتخاذ الدول الأطراف “لتدابير مناسبة …لتشجيع أفراد وجماعات لا ينتمون إلى القطاع العام، مثل المجتمع الأهلي والمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، على المشاركة النشطة في منع الفساد ومحاربته، ولإذكاء وعي الناس فيما يتعلق بوجود الفساد وأسبابه وجسامته، وما يمثله من خطر”.

تعليق على مشروع القانون الجديد: إقحام قيود على الجمعيات في قانون المسطرة الجنائية

للوهلة الأولى، يبدو أن المكان الطبيعي لمناقشة المقتضيات المتعلقة بالجمعيات هو قانون الجمعيات، والتي أوصى الحوار الوطني حول المجتمع المدني، الذي عرفه المغرب  خلال سنتي 2013-2014 بضرورة مراجعته، مثلما أوصت العديد من المنظمات الحقوقية والمؤسسات الدستورية بمراجعة القانون المنظم للتجمعات العمومية، إلا أن تعثر فتح ورش هذا التعديل دفع الحكومة إلى اقحام تعديلات جزئية تخص هذه القوانين في صلب قوانين أخرى ذات طبيعة زجرية أو إجرائية، حيث سبق لقانون 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء أن قيد حق الجمعيات التي تعنى بحماية الناجيات من العنف في الانتصاب كطرف مدني بضرورة التوفر على إذن كتابيّ من الضحية، فضلا عن شرط الأقدمية، الذي يلزم بأن تكون الجمعيّة قد تأسست قبل أربع سنوات على الأقل من تاريخ وقوع الجريمة، وجاء مشروع قانون المسطرة الجنائية بقيود إضافية على عمل الجمعيات مثل التوفر على صفة المنفعة العامة، والحصول على إذن للترافع من طرف وزارة العدل. ومن الواضح أنّ هذا الشرط الأخير يوسّع من هامش السلطة التقديرية المخولة للوزارة في منح هذا الإذن للجمعيات، مما يشكل قيدا جديدا ينضاف الى قيود أخرى تواجه منظمات المجتمع المدني في المغرب في الحصول على وصل مؤقت أو نهائي عند تأسيسها أو تجديد هياكلها، كما قد يفتح الباب للمحاباة والمس بمصداقية الجمعيات في ممارسة التقاضي في قضايا الشأن العام.

من جهة ثانية، فإن إبقاء المشروع على شرط الأقدمية، الذي يستوجب أن تكون الجمعية قد تأسست قبل أربع سنوات على الأقل من تاريخ وقوع الجريمة، سيؤدي من الناحية العملية إلى إقصاء الجمعيات المؤسسة حديثا في الولوج إلى القضاء رغم أنها قد تكون مهتمة بشكل أكثر تخصصا في بعض قضايا حقوق الإنسان الناشئة والتي تكون غير معهودة لدى باقي الجمعيات.

من جهة ثالثة فإن مشروع قانون المسطرة الجنائية لا يتجه فقط إلى تقييد نشاط الجمعيات في التبليغ عن الفساد، بل يحد أيضا من إمكانية ولوجها إلى سبل الانتصاف في إطار دعاوى التقاضي الاستراتيجيّ رغم أهميته في تطوير أساليب استخدام القانون لخدمة قضايا الشأن العام والمصلحة العامة عن طريق تشجيع ممارسة الحق في الولوج إلى القضاء.

وأخيرا، يلاحظ أن المشروع يتجه أيضا إلى تطويق النيابة العامة من إمكانية فتح أبحاث أو تحريك المتابعات في جرائم المال العام، بضرورة وجود طلب من رئيس النيابة العامة، بناء على تقرير المجلس الأعلى للحسابات أو إحدى المفتشيات التابعة للوزارات أو إحدى الهيئات الدستورية المعنية، ويستثني من هذه المسطرة الممركزة حالات التلبّس، والتي يصعب توفرها عمليا في الجرائم المتعلقة بالمال العام.

Top