“…حفل التاريخ الإسلامي بأسمائهم بعد أن ارتقوا قمم العلوم وتوجهوا بها لخدمة الإسلام والمسلمين، آثروا حياة الثورة والنضال على حياة الترف والبذخ والرخاء…، حملوا فكرهم وعلمهم سلاحاً للدفاع عن القضايا الوطنية للأمة، فكتبوا وأبدعوا فكراً وديناً وشعراً وابتعدوا عن خانة “الغاوُون” فلا هم في كل واد يهيمون ولا يقولون ما لا يفعلون، عاشوا أحراراً مرفوعي الرأس دون أن تسمح أقلامهم أن تكتب نفاقا وتزلفا لحاكم أو سلطان، ودون أن يرفع سيفهم إلا نصرة للحق والمُستضعفين.. أحسنوا في تفسير الحرّية الغربية وقابلوها استئناساً بالليبرالية الشائعة في الغرب والدائرة على كل لسان حينما رأوا فيها العدل والإنصاف…، أوضحوا أن السير في طريق التنمية والتطور واكتساب المعرفة يقتضي بالضرورة وجود دعامات الحرّية والعدل والمساواة التي تجد مصادرها في الشريعة الإسلامية حيث المنهج والدستور الكامل والشامل، حيث مصطفى كامل وأنور الجندي والشيخ علي الغاياتي والخطابي والمراغي والنديم وياسين وعلال الفاسي والبنا وإبن تاشفين وأبو الحسن الندوي وغيرهم من رجالات الفكر العربي والإسلامي، إنهم عمالقة الفكر والتنوير ورواد الأصالة الإسلامية،… إنهم “رواد وعمالقة مسلمون” آثروا الثورة عن الثروة…
عبد الحميد بن باديس.. العالم المجاهد والمرجع الكبير للأجيال المتعاقبة
رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر الذي قاوم بشدة فكرة الإندماج مع فرنسا
عندما كانت لحظات الرحيل الأخيرة، نظر إلى تلاميذه ومريديه ورفاق دربه نظرة الارتياح والتصميم والأمل برغم ما كان يعانيه من سكرات الموت المفاجئ، وقال لهم رافعا يديه مشيرا إلى سلسلة الجبال التي تحيط بالعاصمة الجزائرية: “…يوما ما ليس ببعيد سوف يهبطون من الجبال ليحرروا الجزائر”، بعدها نام نومته الأخيرة وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها.
صاحب الجسد النحيل
كان يوم الرحيل هو السادس عشر من أبريل عام 1940 وكان البطل الذي حانت لحظة وداعه الأخيرة هو عبد الحميد بن باديس إمام المجاهدين والأب الروحي للثورة الجزائرية المعاصرة والأفغاني الآخر الذي أخذ ينشر الثورة في شمال إفريقيا ويزرع بالعلم والتعليم ويحارب الخرافة مُمهدا الأرض لأجيال الثورة من بعده، إنه صاحب الجسد النحيل وضعيف البنية والتكوين الذي جاءت ولادته من قلب مدينة قسطنطينة الجزائرية يوم الرابع من ديسمبر 1889 ليكون عاصفة لا تهدأ وتصميما لا يعرف المساومة وقدرة على الجهاد فذة وبغير حدود دون أن يصارعه في الثورة والرفض سوى أستاذه الأفغاني ورفيق دربه النديم، ودون أن يصاحبه في إعلاء كلمة الحق ورفض الاستبداد سوى الكواكبي ولم يشق درب التجديد الديني الذي سلكه سوى الإمام محمد عبده الذي كان هاديا ومعلما لابن باديس.
حياة مجاهد
يروي لنا محمد الدراجي (الإمام عبد الحميد ابن باديس وجهوده في تجديد العقيدة الإسلامية) “…..انطلق ابن باديس في رحلته مصاحبا للأفغاني والكواكبي ومحمد عبده في جل معاركهم وحلقات علمهم (رغم كونه لم يتعلم منهم مباشرة) ليلخص تجربتهم في الجهاد ويصوغ لنفسه منهجا يلائم شعب الجزائر ويقهر الظرف الاستثنائي الذي أحاط بهذا الشعب العربي المسلم حيث الاستعمار الذي أخذ يهدف إلى طمس عروبته وإسلامه ومحو شخصيته، فبوصول الحملة المسلحة الفرنسية إلى ميناء سيدي فرج يوم الرابع عشر من يونيو 1830 التي هدفت إلى إبادة السكان الأصليين وتوطين الأوروبيين في الجزائر لتكون امتدادا لاتينيا عبر البحر المتوسط والتجسيد المعاصر للحكم الصليبي الإقطاعي في العصر الوسيط حسب ما عبر عنه المفكر الصهيوني (ماكس نوردو) بالقول: “..إن شمال إفريقيا سيكون مهجرا ومستوطنا للشعوب الأوروبية وأما سكانه الأصليون فسيدفعون نحو الجنوب إلى الصحراء الكبرى إلى أن يفنوا هناك..”، وبالتالي لم يكن أمام ابن باديس سوى قيادة الثورة مع شعبه ضد الاحتلال الفرنسي بعد ما عزز نفسه بالعلم والمعرفة حيث جامع الزيتونة وتعاليم الشيخ الإبراهيمي الذي أسس معه سريعا الجمعية الإسلامية التي حملت اسم (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) عام 1913 التي يعود لها الفضل الكبير في بث الروح الوطنية ومشاعل النضال في وجه المحتل الفرنسي للحفاظ على التراث العربي والثقافة الإسلامية التي حاول المحتل الفرنسي طمسها مرارا وتكرارا حتى نجح أخيرا في هزيمة الحركة الوطنية الجزائرية إلى الحد الذي أدخل اليأس على قلوب الكثيرين حتى قالت الأغلبية الساحقة من المثقفين وطوال قرن من الزمان أن التفكير في شيء آخر غير الاندماج في فرنسا والفرنسيين هو ضرب من الأحلام الخيالية وأن السعي في طريق آخر هو ضرب من الجنون..”.
العروبة ومجد الإسلام
بدت روح الهزيمة وقد تمكنت من قطاعات واسعة من المثقفين الجزائريين حتى أن مثقفا كبيرا مثل فرحات عباس كتب مستنكرا تسليم الشعب الجزائري بالهزيمة: “…إن هذه الهزيمة وذلك التمزق قد استمرا سائدين في الجزائر حتى بدا ابن باديس في تنفيذ مخططه الذي استهدف إعادة ايمان الجزائر بذاتيتها العربية عن طريق إحياء قسمات العروبة وبعث مجد الإسلام في نفوس شعبها، إن هذا الشعب لم يتحول إلى موقف المقاومة الإيجابية المدعومة بالتخطيط والتنفيذ إلا عندما قاده عبد الحميد بن باديس، لقد استطاع بصادق فطرته وإخلاصه أن يهتدي إلى السلاح الناجح الذي حطّم أسطورة الجزائر الفرنسية التي حاولت فرنسا أن تفرضها على الجزائريين ونجحت في أن تجر فيها نفرا من السياسيين الجزائريين، لقد وضع ابن باديس خطته على أساس مبتكر يتلخص في أن يحاصر فرنسا في رفق وعزم صارم في الوقت الذي تظن فيه أنها تحاصر الجزائر؛ ولم تفطن فرنسا إلى مهارة هذه الخطة إلا بعد فوات الوقت فوجدت نفسها محاصرة بعد أن نحى ابن باديس أعوانها طائفة إثر أخرى، وكان من الضروري أن يفلح في تنفيذ خطته بعيدة المدى وهي القيام بانقلاب جذري يرتكز في المقام الأول والأخير على إعداد جيل صالح ينهض نهضة إسلامية عربية بحيث يأخذ من عظمة الماضي ومن يقظة الحاضر ما يعصمه من الزلل والانحراف ويسير به في طريق المستقبل، وعندما أحس الإمام ابن باديس أن خطته واضحة الهدف وأن أتباعه قادرون على البذل والعطاء، وأحس في نفس الوقت بصلابة الأرض تحت قدميه؛ شرع يهاجم مظاهر التخلف والإساءة للدين الحنيف والتي لم تكن (المظاهر) مجسده سوى في الطرق الصوفية وأصحابها ممن ارتضوا لأنفسهم أن ينفثوا روح التخاذل بين أتباعهم ليرتضوا ما أرادته لهم فرنسا من تذويب شخصيتهم الجزائرية تمهيدا لإدماج الجزائر نهائيا في الوطن الأم فرنسا..”
التصوف والطرقية
ويضيف فرحات عباس بالقول: “…كان ابن باديس قد أخذ يقود حملته على الطرقية وفق التعبير الجزائري مع بدايات العام 1925 في إطار محاربة الآفات الاجتماعية والبطالة والجهل وكل ما يحرمه الدين الحنيف ونكره العقل وحجرته القوانين الجاري بها العمل، ينبه الأمة الجزائرية إلى الخطر الذي تجسده حركات التصوف الخادع من الوجهتين الدينية والاجتماعية ومتخذا جريدة المنتقد التي أدارها سنة 1926 لسانا ناطقا لهذه الحملة ضد الطرقية.. وعندما تنبهت السلطات الفرنسية إلى خطر هذا المصلح الذي بدا يهاجم أعوانها، أصدرت قرارا بتعطيل هذه الجريدة بعد أن صدر منها ثمانية عشر عددا…”، ولم يكترث ابن باديس كثيرا بإغلاق السلطات الفرنسية لجريدة المنتقد فسارع إلى إصدار جريدته الجديدة (الشهاب) في ظل القوانين التي تسمح بإصدار الصحف متبعا نوعا من المرونة السياسية التي برع فيها ومخففا من اللهجة ضد الاستعمار في نهج قريب من نهج سالفتها (المنتقد) التي برعت في فضح الطرق الصوفية وبيان مخالفاتها لروح الدين على النحو الذي كان يفهمه الجميع حتى أتاحت له مثل هذه المرونة أن يحتفظ بجريدته ويعززها ببعض دروسه في التفسير والشرح المستنير لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتطبيقها بمهارة فائقة على الواقع الجزائري حتى استطاع الاحتفاظ ببقائها لأربعة عشر عاما حتى وفاته دون أن تجرؤ الإدارة الفرنسية على مصادرتها خوفا من رد الفعل الجزائري إذ كان الطابع الديني للجريدة هو السبب الأساسي لبقائها.
المعركة الأخيرة
كان عبد الحميد ابن باديس يواصل دعوته في ظل الحركة الوطنية الجزائرية وحاجتها إلى إطار تنظيمي يحدد أهدافها ومسؤولياتها حتى عقد لها اجتماعا كبيرا لعلماء الدين الإسلامي في الخامس من ماي 1931 (حتى لا يقع تحت طائلة المسؤولية والقانون الذي يحرم قيام الأحزاب السياسية) تمخض عنه أن أضحى رئيسا لجمعية العلماء المسلمين التي صرح في جلستها الثالثة بالقول: “…لقد كنت ملكا للجزائر فزاودتم على عنقي ملكية أخرى”، في شكل ينم عن الفطنة والمسؤولية الوطنية حسب ما عبر فيما بعد الشيخ الإبراهيمي في وصفه لذكاء ابن باديس ووعيه السياسي “…لقد كان ابن باديس رجلا حكيماً مليئاً بالفكر والعلم حتى استطاع وضع القانون الأساسي لجمعيته وعلى قواعد من العلم والدين لا تثير شكاً ولا تخيف أحدا في ظل وقت كانت الحكومة الفرنسية تستهين بالأعمال العظيمة فخيبنا ظنها والحمد لله..، بل أن ظنها قد خاب أيضا عندما تقدمت بمشروع ليون بلوم وفيوليت سنة 1963 القائم على فكرة دمج الجزائر بفرنسا نهائيا، حينها انطلق باديس ومن ورائه رجال الفكر والسياسية في تفريغ سموم المَحتل بعد أن رأوا في فكرة الدمج هاته مشروعاً استعماريا خاصة بعد أن غلبت فكرة الدمج على عقلية الكثير من رجالات الجزائر العظيمة، حينها عاد إلى حصنه المَنيع حيث جمعية العلماء التي أخذت تحارب المحتل بفكرها وعلمها رغم محاولات الاستعمار الفرنسي النيل منها ومن قياداتها، رافضاً المساومة والحلول الوسطى ومطالبا بالاستقلال الكامل للجزائر، وتأكيده على صدق نبوءته عندما أشار إلى جبال الأوراس وأخذ يقول “إنهم سيهبطون من الجبل ذات يوم ليحرروا الجزائر”… فبقي مجاهداً حتى وفاته عام 1940، ليترك لنا مرجعاً للأجيال القادمة تتناقله مع تاريخ الجزائر كلما تحدثنا عن التعليم والتعلق بالهوية والإسلام التي طالما بقيت الرسالة الوحيدة التي سعى إلى تبليغها والحرص على تطبيقها الإمام عبد الحميد ابن باديس.
> إعداد: معادي أسعد صوالحة
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب