تشهد الحملات الانتخابية لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية الكثير من التفاعلات والهجوم والهجوم المضاد بين المرشحين الديمقراطية المخضرمة هيلاري كلينتون والجمهوري المثير للجدل، حتى وسط حزبه، رجل الأعمال دونالد ترامب.
وطغت المشاكل والاتهامات، التي ارتقت إلى مستوى الفضائح، على كل اهتمام آخر متعلق بانتخاب الرابع والخمسين للولايات المتحدة الأميركية، ما يجعل البعض من الخبراء والمحللين يعتبرون أن ما يجري من المرشحين جزء من اللعبة السياسية والانتخابية اقتضتها الظروف الراهنة، خصوصا على مستوى السياسة الخارجية، وما يجري في منطقة الشرق الأوسط، التي تنافس بقوة في هذه الانتخابات.
يدعم هذه القراءة روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، بقوله “في 26 أيلول جرت مناظرة بين المرشحة الديمقراطية للرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون والمرشح الجمهوري دونالد ترامب.
وبصرف النظر عن التشدق والهجمات والإهانات التي تخللت نقاشهما، كانت المناظرة كالقصة القديمة والمعروفة عندما تعلّق الأمر بقضايا الشرق الأوسط: التطرق من جديد إلى الخلافات حول حرب العراق (2003)، انسحاب القوات من تلك البلاد (2011)، والاتفاق النووي مع إيران (2015).
وعلى الرغم من أهمية إيضاح هذه القضايا، إلا أنه لم تكن هناك للأسف مناقشة تُذْكر حول القضايا الملحة التي من المؤكد أن الرئيس القادم سيواجهها في يوم التنصيب”.
تشهد السياسة الأميركية تغييرا، انطلاقا من مستويين مهمين؛ الأول يرتبط بالسياسة الدفاعية الأميركية التي تستهدف عدم الانخراط عسكريا بطريقة مباشرة في النزاعات الإقليمية (انسحاب لم يتحقق من العراق وأفغانستان)، والثاني يتعلق بالموازين الإقليمية والتنكر للحلفاء، والتي عكسها الصراع في سوريا، وبالصمت على العدوان الميليشياوي والأيديولوجي الإيراني.
ولا يمكن فهم مرتكزات هذه السياسة إلا بالوقوف على مجمل الاستراتيجيات التي انتهجتها في منطقة الخليج العربي والتحولات التي صاغتها سياسات كل من ترومان (1947- 1953) وإيزنهاور (1953- 1961) ونيكسون عام (1969–1974)، وكارتر (1977–1971)، وصولا إلى سياسة ريغن (1981–1989) وجورج بوش (1989–1993)، ثم بيل كلينتون (1993–2001) ومن بعده بوش الابن (2001–2009)، وصولا إلى أوباما (2009–)، بحيث تتضح أبعاد السياسة الخارجية الأميركية كالتالي:
* حاولت إحداث ربط وثيق بين التأثير المنشود في المنطقة وقضايا أمنها القومي، بالإضافة إلى محاولة ربط اقتصادي بين موارد المنطقة وتصريف منتوج أسواقها، وقد شهدت منافسة مباشرة جاءت ضمن الصراع العالمي مع الاتحاد السوفيتي حول ضمان تأثير متواصل ودائم.
* تعامل الأميركيون والروس وحكومات أوروبية مع الشرق الأوسط كحلبة للصراع العربي- الإسرائيلي وسوق للأسلحة لتصريف صناعتها العسكرية.
* أصبحت مقاربة القوى الكبرى في الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب الباردة، أكثر تنوعا ومرونة، فمن جهة ركزت روسيا والصين سياساتهما حول تحولاتهما الداخلية، حيث عاشت الأولى مرحلة تحول من اقتصاد موجه إلى اقتصاد حر، فيما وضعت الثانية أولوياتها في تطبيق إصلاحات دينغكسياو بينغ لولوج اقتصاد السوق والتخلص من آثار تيانانمن. وعلى إثر اختلال التوازن الإقليمي بعد احتلال العراق، أصبحت صراعات المنطقة متشابكة المستويات ويمكن تقسيمها إلى خمسة مستويات:
* يكمن المستوى الأول في الصراع الإيراني- العربي الذي اتخذ في تناقضاته السياسية صراعا مذهبيا وطائفيا بين السنة والشيعة، بحيث ساهم الاتفاق النووي المبرم مع إيران في التشكيك في مصداقية واشنطن، فهي لم تلتفت إلى المصالح العربية الإقليمية في هذه المعادلة ذات المجازفة الكبيرة، ومن ثم، صمتها المراوغ اتجاه محاولات الهيمنة المتزايدة لطهران في عموم الشرق الأوسط.
* يتداخل المستوى الثاني في علاقة مع المستوى الأول بحيث يتجاوز طابعه العربي- الفارسي، ويرتبط بضعف الدولة الوطنية في الشرق الأوسط، واختراقها على أساس مذهبي وطائفي وسط تناقضات قبلية، وعشائرية ومذهبية، داخل البلد الواحد، وما نجم عنها من ظهور بيئة حاضنة للتطرف.
* المستوى الثالث من الصراع يخص المواجهة بين الأنظمة والجماعات الإرهابية في المنطقة؛ ويشتبك ذلك بمستوى رابع، يكشفه التناحر والصراع بين الفصائل الإسلامية المتطرفة.
* المستوى الخامس يجمع في شبكته غير المرئية صراعا سياسيا بين مشروع دولة وطنية مدنية ومشروع دولة عقائدية بملاحقها المتطرفة والميليشياوية، ثم مآل النظام الدولي الجديد الذي يكتب على أنقاض العراق وسوريا من ناحية أخرى.
والتناقض الأول ما لبث أن اندلع سريعا وتجلى بشكل قوي ودرامي في تصحيح مسار الثورة المصرية على إثر التحالف الذي قام بين مؤسسة الجيش وقوى مدنية مصرية، ساهم في إسقاط حكومة الإخوان المسلمين، بحيث كان ترحيب الإدارة الأميركية بتولي الإسلام السياسي مقاليد السلطة والتشجيع عليها في العالم العربي، مصدر قلق كبير بالنسبة إلى الأنظمة العربية، والذي كشفه تخلي واشنطن عن حلفائها.
أما التناقض الثاني فاتضح منه أن السياسة الأميركية لم تستهدف بناء أمن إقليمي حقيقي في هذه المنطقة، إذ ظلت غايتها الجوهرية حماية أمن إسرائيل وأمن الطاقة.
أمام التنوع الشديد في مستويات الصراع المذكورة، تبين بالنسبة إلى الولايات المتحدة عدم تمكنها من فرض أي حل عسكري أو دبلوماسي في الأمد المنظور، ولا يمكن أن تحقق الإدارة الحالية أي تقدم في حل الملفات المتشابكة بسبب الوقت المتبقي لها في الحكم.
وتعي واشنطن بأن جميع الاختيارات الممكنة في سوريا تتضمن كلها نتائج سلبية على المصالح الأميركية، وأن كل قراراتها في التدخل تتضمن مجازفات كبيرة.
وهذا الموقف أصبح مؤشرا بالغ الدلالة على حدة الاختلافات بين دوائر القرار في وزارة الخارجية والبنتاغون والبيت الأبيض والمؤسسات الاستخباراتية حول توقيت وطريقة مواجهة النظام والجماعات الإرهابية، مما جعل قراراتها كلها مترددة ومؤجلة، إن لم تسقط في استراتيجية عدم اتخاذ أي قرار، وهو قرار في حد ذاته.
ومن حيث الأولويات المقبلة للإدارة الأميركية المقبلة، يدرك الخبراء أن عليها بداية تصحيح المسار ورفع الشكوك بالإحساس بأن واشنطن تخلت عن دورها في منطقة جوهرية للسلم والأمن العالميين، وأنها غير ذات مصداقية، وغير منخرطة بجدية في حل مشاكل المنطقة.
*باحث في جامعة السوربون
>حسن مصدق*