سنوات الجمر والرصاص، بين المسرح والسينما

>  عبد العزيز جدير
لحظات استثنائية تجَمّع فيها ندرة من الباحثين والفنانين والكتاب وطلبة الجامعة، والمجتهدون الملسوعون بالسينما الوثائقية. ومناضلون أجتُزأت بعض من أحلامهم ولم تُنتزع منهم الحياة.
لم يُغدروا فيها حين غرد فيهم الألم فأنجزوه.
 جميع من حضر صار يستقطر من الحقبة ملح مائها العطن، ويصفِّيه.

جلسات بهية بالمعرفة والبوح في حضرة ضيفة الشرف الأستاذة والمناضلة فاطنة البيه، المغربية الصرفة في معرفة الألم بنجاعة الرؤى، صاحبة “حديث العتمة ” و”أطلسيات”..
كان من الطبيعي أن تختلف وجهات نظر الباحثين والنقاد والمبدعين اتجاه تعاطي الدراما (المسرح والسينما) بالمغرب مع قضايا ما يسميه الحقوقيون بسنوات “الجمر والرصاص”، وذلك بالندوة الوطنية التي نظمها المركز الدولي لدراسات الفرجة يومي 3 و4 دجنبر 2015 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمرتيل (جامعة عبد المالك السعدي).
هذا وفي بداية الأشغال تحدث يونس الأسعد الرياني، فأشار إلى أن هذه السنوات قد استمرت أربعة عقود ونيف، ودارت رحى الصراع بين النظام الملكي والمعارضة بمختلف أطيافها (اليسار التقليدي واليسار الجديد) حول نظام الحكم، وأسهمت فيه المؤسسة العسكرية بانقلابين فاشلين. وأشار حميد العيدوني باسم مجموعة الأبحاث إلى أن البحث في سنوات الرصاص وعلاقتها بالسينما بدأ منذ الندوة الأولى سنة (1987)، وتلتها الثانية سنة (2000)، في محطة لبنان، حول «أخلاقيات الشهادة»، واستمر في الندوة الثالثة مع انطلاق الربيع العربي (2011)، في كلية الآداب في موضوع «السينما شاهد على العصر». وفي سنة (2012) نظمت ندوة في موضوع «تمثلات سنوات الرصاص»، وهي تتمة لندوة لبنان، ثم أقيمت ندوة «الأرشيف، التاريخ والهوية» (2013)، عن السنوات ذاتها. وكم سألنا باحثون «لماذا تشتغلون على سنوات الرصاص، والمغرب يمثل نقطة ضوء في العالم العربي؟» فكان الجواب أن على الباحثين أن يستمروا في البحث لأن ذلك يمثل ضرورة، ولأن السياسيين نفضوا أياديهم من الموضوع وأن المقاربة السياسية نفعية. ثم إن جيل ما بعد سنوات الرصاص لا يعرف شيئا عن هذا الماضي القريب، والهدف هو الرغبة في عدم تكرار هذا الماضي البشع.
وبين محمد قاوتي أن المركز الدولي لدراسة الفرجة يسلط، بهذه التظاهرة، ضوء التأمل والتفكير في المسكوت عنه، لأنه لم يستوف حقه من المبدعين عبر كل الأشكال التعبيرية. في وقت أصبحت إزالة الغطاء عن الأشياء لا تؤدي إلى العقوبة. وأكد أنه يجب أن نتميز بالحذر لأن الاستبداد يلازم البشر والسلطة. كما أثنى على المركز، هو الابن البار للكلية، لأنه فتح باب النقاش بين الجامعيين (إريكا فيشر، كارلسن، بافيس) والفنانين مثله، ولأنه نشر عددا من الكتب في المسرح.
وبالعودة إلى الأعمال المسرحية والسينمائية التي قدمت قراءات حولها بالندوة، نجد أن مقاربات مقدميها حاولت الوقوف على مساحة الحضور الجمالي في تلك “المنتجات” الإبداعية، فيما اختار آخرون مساءلة جانب المصداقية والحقيقة في الفنون الدرامية.

عبد اللطيف شهبون: ذاكرة العنف من خلال مسرحيتين

 في الجلسة الأولى، عرض عبد اللطيف شهبون «لذاكرة العنف في الكتابة المسرحية المغربية» عبر مسرحيتين عرضتا عليه لإبداء الرأي، الأولى «الطرز على الحديد الساخن» في السبعينيات والمغرب زخار بالعنف، والثانية لأمين بنيوب «الكرنفال» سنة (2005). ويعكس العملان ذاكرة العنف المرتبطة ذاتيا وموضوعيا بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويهدفان إلى مناهضة العنف وتوثيق التاريخ، ونشدان الحق والعدالة والديمقراطية.
وما زلنا في مرحلة معرفة الحقيقة للمصالحة الوطنية، ونفتقر إلى مكملات: معرفة الحقيقة من أجل ماذا؟

محمد قاوتي: نومانس لاند والرقيب

وعاد محمد قاوتي لتقديم عمله المسرحي «نومانس لاند» فبين أنه كتبه في عز سنوات الرصاص، وكان على الكاتب أن يؤمن نشر نصه، ما دفع بالكاتب إلى عدم الاصطدام مع رقيب الأجهزة القمعية. عرضت المسرحية أول مرة سنة (1984)، وظلت تعرض حتى سنة (1988). ثم ختم حديثه بقراءة فصل من النص.

عبد المجيد الهوس: نصوص مستوحاة من سراديب المعتقلات

وقدم المخرج عبد المجيد الهواس قراءة في مسرحية «شجر مر: نحو قراءة ركحية لسنوات الرصاص»، مبرزا أن العمل مر بمحطتين في إنتاجه، الأولى قراءة مقاطع من نصوص كتبت في سراديب المعتقلات أو بوحي منها حين الاتفاق مع هيئة الإنصاف والمصالحة، والثانية حين فكرت فرقة «أفروديت» في تقديم عرض تعبيري فني ينخرط فيه الفنانون، وذلك بمناسبة ندوة المركز الدولي في موضوع «الذاكرة والمسرح» (2015)، ففكرت الفرقة في إعادة طرح الأسئلة التي بقيت معلقة من التجربة الأولى. وهكذا عمد العرض إلى أعضاء مجسمة لممثلين يبرزون من اللوحة أو يخترقونها، وتتوالى المقاطع وتتواتر المشاهد التعبيرية ضد سلطة الجلاد، بل عاقبه العرض وأنبه: كان يمشي ثم أصبح مقعدا، وانتهى في جحيم كرسي متحرك.. عاقبَ الحلم فعُوقِب. ويرحل السجين ويبقى السجان.
 فالعمل احتفاء بالسجناء عبر احتفاء السرد بهم، واحتفاء بالذين غابوا بقراءة المتون. ومعلوم أن المسرحية من تأليف وإخراج الهواس، وقد زاوج بين قراءة النص وتقديم مقاطع من المسرحية.

خالد أمين: يستحيل على البوح التقاط تفاصيل الفظيع

أما خالد أمين، الذي قدم عرضا موسوما بـ «مسرحة الشهادة: جلسات الاستماع نموذجا»، فبين أنه اختار شهادات المعتقلات خلال جلسات الاستماع لأهميتها، فقد صعب على الجلاد قبول نساء مناضلات، ثم إن معاناتهن كانت أضعافا مضاعفة عن معاناة الرجال، بل أن تسريد المعاناة مثلت معاناة مضاعفة، لأن خطوطا حمراء واجهتها: هناك أشياء تتعلق بحميمية الجسد، ويصعب أن تتحدث عنها الأنثى في الشهادة وعبر المذكرة.
وقد ركزت الورقة على الفظيع والفاجع من زاويتين: مشهد الفاجعة، كيف عاشت المعتقلات الفاجعة في مختلف فضاءات الاعتقال، وكيف عشن الفاجعة مرة ثانية وثالثة ورابعة… في مشهد الحكي. وبين هذين المشهدين هناك مسافة مهمة جدا تشتغل على الذاكرة، وعلى الوثيقة… فحين تقدم الشهادة تصبح وثيقة، وهنا يتقاطع اشتغال الذاكرة مع اشتغال المؤرخ.. وما دامت شهادات هؤلاء النسوة قد دونت فقد أصبحت شهادة في كتاباتهن الخاصة، لكن شهادات الاستماع العمومية أعطت نكهة خاصة لها. فقد كانت الشهادات تقدم على وسائل الإعلام على الهواء. لكن أصحاب الشهادات وقعوا من قبل على التزام ألا يعلنوا عن أسماء الجلادين، ولا يشتموا الأشخاص ولا الهيئات السياسية.. «ومعنى ذلك أن الشاهد كان متواطئا مع الطرف الآخر حين قبل بهذه اللعبة». ومن هنا يأتي جانب مسرحة الشهادة، حيث أنه يستحيل على الجانب الرمزي أن يتقبل ويتمثل هذه الصدمة، كما هي، بأي نوع من أنواع التعبير الرمزي، سواء كانت فنية أو لغوية. فالفاجعة أكبر من النظام الرمزي، لأنها تحدث شرخا في النظام الرمزي.
ومن هنا قوة الفاجعة، ولذلك حين غادر المعتقلون السجون، لاذوا بمرحلة من الصمت، ثم انتقلوا من الصمت إلى البوح. والبوح يلتقط لحظات، وإشارات من الفاجعة ويحاول ترميمها بناء على هشاشة الذاكرة. ولن يستطيع التعبير عن الفاجعة كما عيشت.
ويستحيل على البوح التقاط تفاصيل الفظيع.. لذلك كانت تعتري الشهادات لحظات صمت، وتمتمة، وبكاء، وهستيريا.. وهي لحظات تطلب التدخل لملء الثقوب بالمعنى.. وهو دور الإبداع السينمائي أو المسرحي لتضيء هذه اللحظات، فضاءات العتمة، التي يستحيل على الشهادة التعبير عنها. وعلى الرغم من أن الإبداع جزء من النظام الرمزي فله طرق للسَمْيَأَة. ومن هنا تأتي قوة التكثيف الشعري، والشعرية التي تتعامل مع الفاجعة بجمالية تتجاوز الفج، والمباشرة، ونقل الفظاظة والفجاعة كما هي..

خليل الدامون: لنا نصف الحقيقة ونصف الأفلام ونصف العلاج

أكد الناقد السينمائي خليل الدامون أن “جميع الأفلام التي اشتغلت على موضوع سنوات الجمر حاولت الإجابة عن سؤال: إلى أي حد يمكن التعامل مع ما حصل؟”.
وعاب رئيس جمعية نقاد السينما بالمغرب على الأفلام السينمائية التي تطرقت مواضيعها لسنوات “الجمر والرصاص” وقوفها عند خطوط حمراء مطابقة لما وقف عنده الحقوقيون في جلسات المصالحة والإنصاف”. مشيرا إلى أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان قام بدعم ستة (06) أفلام لإنجاز أفلام حول موضوع تلك السنوات، وبالتالي فإن تلك الأفلام جاءت مرتبطة بوجهة نظر المخرجين وليس الحقيقة، ولم يتجرأ أحد من السينمائيين، حسب الدامون دائما، على إنجاز فيلم وثائقي يعالج الموضوع بشكل دقيق ويعتمد على وثائق تؤرخ لتلك المرحلة، وعليه، فإن جميع الأعمال سايرت توجهات الهيئة الحقوقية المشرفة، لهذا فإن المصالحة تمت عبر النسيان. يضيف الدامون دائما.
وفي تناوله للجانب الجمالي لتلك الأفلام، يرى الدامون أن جميع الأفلام تتفق على المؤشرات نفسها على مستوى الفضاء (السجون وأماكن الاعتقال)، مع العلم أن السلطات رفضت طلبات المخرجين في التصوير بأماكن الاعتقال الحقيقية. أما بالنسبة للمؤشر الثاني، فهو طبيعة الشخصيات المختارة، فهي شخصيات ذات حضور ثقافي في تلك المرحلة تتوزع على مجالات المسرح والغناء والفنون عامة. أما المؤشر الثالث فأعاد صورا بعينها وهي البوليس، والاعتقال، والمطاردة، إلخ. أما المؤشر الرابع، فيهم تكرار مشاهد المحاكم والمحاكمات.
وخلص الدامون، اعتمادا على تلك المؤشرات المذكورة، أن تلك الأفلام أعطت للجمهور المغربي نصف الحقيقة، وللخزانة السينمائية نصف أفلام، وللقضية نصف العلاج.

حسن اليوسفي: الكتابة والمسافة

وخلافا لمقاربة الدامون، قدم الباحث المسرحي حسن يوسفي تصورا مغايرا لعلاقة الدراما بقضايا الاعتقال السياسي، فقد أكد على أن المطلوب من الناقد هو البحث والتمحيص حول كيف تمثل الإبداع تلك المرحلة انطلاقا من القاعدة الأرسطية التي تجعل من الفن يحاكي الممكن وليس الواقع، أي أن الفنان المسرحي والمبدع السينمائي على السواء غير مطالبين بإعادة تمثيل تلك المواضيع بشكل مباشر وتقريري، وإنما يجب عليهما أن يحافظا على المسافة الكافية بين الكتابة، أي الإبداع، والعمل السياسي، انطلاقا مما يراه “اليوسفي” إعمالا لمبدأ ومفهوم “اللِّياقة” الذي ظهر في المسرح الكلاسيكي الغربي.
وجوابا عن السؤال حول مصداقية الأعمال الدرامية التي أنتجت واشتغلت على مواضيع سنوات الرصاص، استبعد رئيس ماستر الأشكال التعبيرية بجامعة المولى إسماعيل بمكناس وجود أي اقتران بين العمل المسرحي أو السينمائي والمصداقية، لأن ذلك سيبعد المبدع في كلا الفنين عن وظيفته الإبداعية المقترنة بالرؤية الجمالية فقط.

هشام بن الهاشمي: الذات والجلاد من خلال مسرحية الساروت

ومن زاوية الكتابة المسرحية، يرى الناقد المسرحي هشام بن الهاشمي أن النصوص المسرحية “تشكل فضاء ملائما للتفكير في علاقة الفرد بالسلطة نفسيا، وجسديا، ووجدانيا، وإنسانيا”. ولهذا، فقد “جاهدت كتابات الاعتقال السياسي لوصف الانقلابات، والمظاهرات، والعمل السري، والمطاردات، والتعذيب، والتنكيل، هادفة إلى تحقيق أمرين: الأول هو الكشف عن آليات القمع وفضح القهر المتجذر في المجتمع العربي، والثاني هو الانتصار لقيم الحرية بوصفها حقا إنسانيا”. وفق تعبير بن الهاشمي.
ونتصور أن الكتابات التي تصور بشاعة الاعتقال السياسي، يضيف بن الهاشمي في سياق قراءته للنص المسرحي “الساروت” لمؤلفه الحسين الشعبي، تندرج ضمن الإبداع المقاوم، من منطلق أنها تناقش سلوك السلطة بمنأى عن التبجيل، والتمجيد، وإحصاء الإنجازات التي درجت الكتابات الرسمية على تدبيجها. ففي أدب السجن والاعتقال “يتم الاحتفاء بالمقصي، والمهمش، والمعذب، وهم الذين لم تلتفت إليهم الكتابات الرسمية عمدا”. يضيف بن الهاشمي دائما.
وبالنسبة للمعطى الجمالي في النص المسرحي، أشار بن الهاشمي في مداخلته إلى أن “العمل الفني ينفلت من الرؤية الأحادية التي يهيمن فيها صوت الضحية ــ السجين ــ المعتقل، إذ يفتح المجال للصوت الآخر لكي يبرز ويعبر عن ذاته، أي: صوت الجلاد ــ السجان”.
وتجدر الإشارة إلى أن الندوة عرفت مشاركة وحضور المعتقلة السابقة فاطنة بيه، عضو المجلس الوطني لحقوق الإنسان، واختتمت بعرض ثلاثة أفلام وثائقية أنجزها طلبة ماستر الأفلام الوثائقية حول مواضيع الاختفاء القسري والاعتقال السياسي.

Related posts

Top