عاش المغرب، نهاية أربعينات القرن الماضي، وبداية خمسينياته، أحداثا دموية واسعة النطاق كرد فعل على إقدام المستعمر الفرنسي على نفي الملك الراحل محمد الخامس خارج الوطن. خلال هذه الفترة العصيبة، ومن رحم الغليان الشعبي، والانتفاضات العارمة التي واجهتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية بالقمع، تأسست مجموعة من التنظيمات السرية التي حاولت الرد على هذا النهج القمعي، كان أبرزها على الإطلاق منظمة “الهلال الأسود” التي اعتمدت أساليب شكلت ضغطا على المستعمر وأذنابه من الخونة.
من داخل هذه المنظمة، برزت أسماء سيظل تاريخها محفورا في ذاكرة المقاومة، سواء منها تلم التي تعرضت للاعتقال أو الاغتيال أو تلك التي كتب لها النجاة لتروي للأجيال أحداثا قوية مفعمة بالوطنية والغيرة على هذا الوطن.
المقاوم عبد القادر بهيج من هؤلاء المقاومين الذين يكتب التاريخ نشاطهم ضمن التنظيم السري”الهلال الأسود”، والذي رغم تقدمه في السن استقبل بيان اليوم ليروي ما علق في ذاكرته من وقائع وأحداث نقدمها لقرائنا فيما يلي:
حين طلب مني الانخراط في المنظمة السرية -الحلقة الأولى-
في سن مبكرة، وتحت ضغط ظروف قاهرة، كنت مرغما على البحث عن عمل. وقد تمكنت من ذلك بسرعة. حيث كنت اشتغلت بوحدة متخصصة في التعليب، على مقربة من معمل ” كارنو” الشهير بالدار البيضاء.كنت أشتغل صباحا ومساء، وأستريح في فترة الظهيرة داخل المصنع. خلال هذه الفترة كنت رفقة باقي العمال أتناول وجبة الغذاء وأستمتع بقيلولة تحت ظلال الأشجار. كنا خلال فترة الاستراحة هاته نجتمع في ساحة واسعة. منا من يفضل الاسترخاء، ومنا من يحب المشي بعد ساعات من الوقوف أما الآلات، ومنا من يفضل الانضمام لحلقات النقاش حول قضايا مختلفة كان من أهمها واقع البلاد التي ترزخ تحت نير الاستعمار. كنت أفضل الوحدة بعيدا، لكوني حديث العهد بالعمل ولا تربطني علاقة بالعمال.
وذات يوم، وأنا في عزلة عن الآخرين أتناول وجبة الغذاء، جاءني شخص لا أعرفه. جلس بمقربة مني دون أن بنبس ببنت شفة. كان يرمقني بنظراته التي لم أعرها أدنى اهتمام. أطال النظر في وبالغ في ذلك. فهمت بعد ذلك أنه يريد الحديث إلي في موضوع يشغل باله.
جمعت حوائجي وهممت بتغيير المكان وإذا به يقترب مني. واصل الاقتراب إلى أن جعل المسافة الفاصلة بيني وبينه ضيقة جدا. قال لي إنه يرغب في أن يتحدث إلي على انفراد وبعيدا عن مسامع كل من يوجد في الساحة. ودون أي تردد، سألته عن الموضوع الذي يرغب في أن يحدثني عنه..؟ كان جوابه سريعا، حيث شرع في وصف الحالة التي تعيشها بلادنا خاصة بعد نفي الملك محمد الخامس إلى خارج أرض الوطن، وأن الوضعية صعبة جدا ولا تبشر بالخير، وبالتالي نحن مطالبون بالنضال والمقاومة والتضحية من أجل عودة الملك وتحقيق الاستقلال…
مرة أخرى، وجدتني أطرح على محدثي سؤالا ثانيا لا يختلف عما سبقه: “ما المطلوب مني شخصيا؟.. وكيف تريدنا مواجهة المستعمر الفرنسي ونحن لا نملك سلاحا..؟ كان جوابه سريعا وجاهزا ولا يحتمل الشرح أو التفسير: “كل شيء موجود، فقط أنت مطالب بالانخراط في تنظيمنا السري إلى جانب خمسة أشخاص آخرين أبدوا استعدادهم لذلك”.
حاولت أن أعرف منه كيف استطاع الوصول إلي ودعوتي لهذه المهمة التي بدت لي خطيرة منذ الوهلة الأولى.. رد علي بأنه يسكن قريبا من منزل عائلتي بدرب السلطان، ويعرف كل الشبان الذين يجاورونني واحدا واحدا…
بعد مرور فترة وجيزة من هذا اللقاء الأول، حضرت اجتماعا سريا بمنزل السيدة فاطمة التهامي خلال يناير من سنة 1953.. وأذكر جيدا أن هذا الاجتماع حضره رجل ينادونه عبد الهادي. عرفت فيما بعد أنه الذي كان قياديا في حزب الشورى والاستقلال ومنخرطا في الكشفية..
هذا الأخير ألقى أمامنا خطابا جعلنا أكثر حماسة في هذه “المهمة الوطنية”، ثم طلب منا، بعد الموافقة المبدئية على الانخراط في التنظيم السري، أن نجعل القرآن الكريم عقدا بيننا.
> إعداد: محمد توفيق أمزيان