ضفائر المطر

يا لهذه الأنفاس الضائعة في هذا الليل المخضب، كالسماء بأمطار البكاء، حين يتمرد علی كل النواميس، خصال ورتابة سكون تهز جذع الحنين، لتسكب ما تعتق من نبيذ الوله، فتخلع قبعة الحاوي من شغفي، علني أخفض جناح الذل إجلالا لجبروت سحرك العالق في خوابي الذاكرة.
ترى لماذا يحزنني المطر؟
ولماذا كلما حزم تشرين غيماته
واستنفرت اليمامات أبكي؟
كم ليلة أوقدت أضلعي له حطبا، فكنت أبكي كذاك الشمع المحترق بنيران الشقاء، وأذوب حتى الانتهاء،  عسى روحه تنعم بدفء ذاك الشتاء، ويحين موسم ناعمك الشهي وشقاوة الدلال، وحتى لا أحرض روحي على ثورة بركان من وتيرة الخمود، وربما كي لا تعوي ذائبة التوق فأسقط كورقة التوت، وتنكشف عورة الشوق الكامن بي.
ثمةَ ما يدعو لعد هذه النجمات التي باغتها المخاض في حضن السماء، فقضت الليل بطوله تنجب الضوء من فاه القمر، وبعد مخاض عسير أجهشت الغيوم بالبكاء، حتى اغتسلت آخر فكرة نجسة مرت بخاطري.
فيا ويحي،
أفتش بصمت فالمساحات كبيرة، وصدى مسامع البشر يخترق أذناي، يقتل فؤادي بعد ذالك في اشتهاء، وبعد مرور دهشة وشهقتين، وعلى مسافة آهتين وأغنية، يهب عبير نرجساتك لتشعل حطب الأصابع، وتعبث بغرائز شقاوتي لتفتح حوانيت الحكايا.
وأنا التائهة بحزن دفين، كل أبوابه مغلقة أوصدتها على نفسي بذاتي، دون أقفال كأن سيمفونية الوجع اندلعت من بين أصابعي، وبت أعزفها معصوبة العينين كل مساء .
وحين يأتي ذاك البعيد، يحمل معه عبق المطر العتيق، وضفائر طفلة نسيتها بين ذكريات الصنوبر، ورائحة القهوى، ونبرات أصوات تهمس في الشغاف، فيرتد الصدى.
فسلاماً، لنا نحن من تساقطنا على الأيام، ولم يتكفل أو يفكر أحد بجمعنا، نحن أبناء مواسم التعب من هشمت الحياة ثباتنا، ولم يعتذر إلينا أحد لتلملمنا سجدة، ويجبرنا دعاء.
قال مرة:
زهرتي،
يا عتية الحسن، ألا تعلمين أن هذا الليل واحتي، وعينيك خارطة النجوم، ولو رحلت عني ملامحك في يوم من الأيام، فسترحل معها الشمس والقمر.
فليت هذا الحب من صنع يدي، كي أجعل بيادر أعواد القمح تنبت بماء وجدي، ويتعتق النبيذ في فمي، فتنضج فطائر الشوق على نار ولعي، ربما ساعتها تتكاثفين عبقا شرقيا بداخلي.
في الصباح، وفي كل اللحظات الفيروزية، يراودني طيف روحك، فأستنزف ذاكرتي، وألثم أنفاسي ثم أذهب إلى حيث لم نلتقي يوما، ولم نجلس معا عند حافة الأقدار، ولم يسعفنا الصباح بفنجان قهوته المر،    
يراقصني كشاهد قديس على قبر مهجور، ويحطم مرايا الرشد، بكوكب بعيد ضارب في أقاصي سموات العشق، ويحفز رفيف حواسي العشر، ويتحرش برحم جنوني المظلم، وكل مصباح نوره في مجرات منسية.
ربما كانت مجرد حبة وجع، كلما حاولت أن أمنع عنها المطر كي لا تنبت، خانتني عيناي فأسـقتها دمعي.
فليت تشرين يقرضني يوماً من تلك الأيام، وليته يصبغ صباحي بلون ضحكاتهم، ويعيد إليَّ مشطي وجدائلي، وبعض الرفاق،
وليفعل المطر بعدها ما يشاء،
ولازلت أملك القدرة على حب الأشياء، بأرق لون ومعنى، كأن أنسج حلماً ندياً، وأستنشق عطره برويّة، كأن أدرئ جوع الغياب، وأوقظ كل الياسمين الحاضر هنا.
يا ألف نغم، أنت وكل الغمام، وأنا الذائبة في لهاتي عاجزة عن التقاط نفسي الطويل الذي يعينني على الركض أمام اللحظات، ووراء الزمن، وجاهزة تماما لطعن الذاكرة في مقتل.
يا جلّ الضوء الذي لا ينطفئ ممتنة لكل شيء، لهذه المعايدة الروحية الرقيقة العابقة بالود والمحبة.
كأنك ترسل لي دعوة رسمية، كأي شخص غريب عني، أتمنى لو أنك تأتيني تمسح أثرك من ذاكرتي، ألملم بعضك مني، وتأخذه معك، أو أن تحول غيابك عني من الحجارة، فتثقب رأسي كلما مررت في مخيلتي إلى رماد، أو أحرق رأسي وأحرق ذكرياتك.
فأنا التي فقدت ذاتي بذاتي، ولم أتدارك أوقاتي، وتمنيت لو أن بإمكاني أن أغمس نفسي في بياض ليس له حدود.
باختصار، أتسول أنفاسي بعمق غربتي المركونة، وألامس ملامح يائسة التحفت الأوراق.
أطل من قفصي، فأرى الدنيا عروسا رعناء، تمشي الهوينى وتختال، تغمز القدر مرة بإغواء، مرة تنفجر بالبكاء، ومرة تضحك منه ملء فِيها، إذا ما أغدق عليها بالعطايا والنعم.
فلا عجب؛ وهي أنثى.
إدمان وجوارحي منها سكارى،
نبيذ معتق أفسد عقلي، وأعصابي، وبدائيتي.
وبت أتوه فيه توقدا وعشقا.. شوقا، وهياماك سهرات عشق في ليلة رثاء.
حتى في صحوتي، أهذي بك وأنت تملك لحظا في أركانه تنساب السواقي.
وأزُف رسائلي إليك احتضارا رغم نمنمات الخوف، والحشرجات الصباحية.
فعذرا،
إن بي ما بي من ندوب، ولا أريد أكثر …
رغم الجرح النازف قهرا من الزمن، من الشيب، وعقدة العنق…
عهد، ووعد، وقيد، وتنهيدة من رئتي المسكونة بالرعب…
أَلِأٓن جمع الذكريات التي تلوذ خلف ثياب ذاكرتي استفاقت؟
أم أن عذارى حبات المطر، عندما تحتضن بقايا الملامح الملتصقة في الدروب تثير عطرهم؟
فوضت ذاكرتي للوقت، وهمست لها أن تتلاشى، ما عدت أصل الجرح في لغتي، وما عدت قادرة على اجتراع ريق الفرح من شفتي، فالحزن يا رفيق البوح لا يتقنه إلا من لديه نبض، وليس في وسعي أن أجد لي متسعا على متن قلب من تراب.
ينهار بوخز إبرة، وتتغير خواصه إذا حل موسم المطر، وإذا نفخت في الريح روح.
وحتى الأبجديات الهائمة على وجهها، تغط يراع البوح في مداد الدمع، وتلك القصيدة التي حدثتني عنها مراراً،
نعم تلك…
ألم تعد تذكر،
تلك التي كتبتها مرات، وفي  كل مرة تمزق ضفائرها، تم تستجمع شجاعتك وتعيد الكرة
نعم تلك القصيدة ما زالت تنام في ظل شجرة الصنوبر،
تستيقظ في آب، تنادي طيف من مروا، ثم يسلبها الذهول، وتجثو فوق ركام الأحلام متمردة،
فعلا تلك الذكريات التي تظن نفسك مهيئا فيها للنسيان، بينما كل شيء في ذاكرتك يهيئ نفسه للخلود، وما أن تهم بالنسيان حتى تلتهمك وتستبيحك لأنك ببساطة مكتظ بالتفاصيل.
فلا تحدثني كثيرا، عن حزن المآقي، ولا عن هاتيك الذكريات، فكل اللحظات السريالية تشتعل في الذاكرة، ونحن نظن أن الدرب أخمد نيران النسيان.
فالنسيان غرفة مهجورة، نرمي بها ما لا نريد تذكره، لكن للأسف نحن نسكن تلك الغرفة.
فطوبى لزخات الدموع، التي روت تجاعيد السنوات فوق الجباه العابسة، تقاوم عواصف نفسك، تبحر في محيطاتها، وتغرق في نقطة دمع.
فسلام، على تلك التي تحجّرت في المقل .
ففي لحظة ما، تصبح الحروف باهتة دون لون، يعتريها صقيع الشتاء لتصبح دون إحساس، وفي لحظة ما نقف عند مفترق العمر، مشتتين، مبعثرين، يرتدينا معطف الضياع، ويجتاحنا خريف العزلة، حيث لا رغبة بالفرح، ولا الحديث، ولا الحزن،  
فتتألم، فتكتم، فتنهار، فتصمد كأنك تمشي على أطراف روحك كي لا توقظها، وتخيط دقائق الوقت كي يمضي بك إلى السكينة و الهدوء.

بقلم: هند بومديان

الوسوم ,

Related posts

Top